برعاية بلديّة بيروت يعرض المهندس الدكتور خالد عمر تدمري 100 صورة، خارطة، ووثيقة نادرة من المحفوظات العثمانية تحت عنوان “بَيرُوت نحوَ القَرن العِشرين نهضةٌ حضاريّة هيّأت لقيام عاصِمة” في قصر اليونسكو في بيروت ((8 أكتوبر- 12 منه)، يرافق المعرض عرض فيلم وثائقي يتضمّن أولى اللقطات الحيّة (فيديو) الملتقطة لبيروت عام 1919.
يعرّف الدكتور تدمري عن معرضه بالتالي:
خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر بدأت الحركة التحديثيّة للمؤسّسات الإدارية في عاصمة الدولة العثمانية استانبول والتي عُرفت بعهد “التنظيمات”، وقامت الدولة العثمانية بنشرها وتطبيقها في كافة أرجاء الإمبراطورية الواسعة، بخاصة في المدن الكبرى التي تشكّل مراكز الولايات العثمانية، بهدف النهوض بها وجعلها حواضر تنافس مثيلاتها الأوروبية من ناحية التمدّن والتقدّم والتنظيم والخدمات والعمران.
وبالتزامن مع هذه “التنظيمات”، شكّلت الحداثة سمةً محوريةً في تاريخ بيروت وتياراً موضوعياً ذا مستندات بنيوية في التحوّلات على الصّعد العمرانية والاقتصادية والاجتماعية، بما يمكن تعريفها وباختزال، نهضة، بخاصة عمرانية، شهدتها المدينة نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، مترافقة مع حركة تجارية زاهرة، كان لها الأثر البالغ في تعزيز مكانة بيروت التاريخية، التي طالما عرفتها على امتداد حقبات طويلة، وبالتالي أكسبتها أهميّةً استثنائيةً أمّنت لها موقعاً مميّزاً على الخارطة الإدارية، بتحويلها إلى مركز ولاية حملت اسمها عام 1305هـ/1888م، ووفّرت لها دوراً طليعياً كمدينة منفتحة على التطوّر والرقيّ، مع تعلّق أكيد بالأصالة والعراقة وبخصوصيتها الحضارية، وحفاظ دائم على التقاليد والمواريث الاجتماعيّة والثقافيّة والقيَم الدينيّة.
درّة في تاج السلطات
وأبدى أهالي بيروت ومثقـَّفوها والقوى الفاعلة فيها ليونة وحماسة للتجديد، ربما بفعل كثافة الإتصال مع الغرب والتلاقح بين الأفكار، إضافة إلى موقفهم المعرفي وتشبّع نسيج مجتمع المدينة بتلاوين الحداثة، فسعوا إلى تحديث وتطوير بيروت لتصبح بمستوى طموحهم وتطلعاتهم.
وكان لبروز نخبة بيروقراطية من البيروتيين الإسهام الفاعل في الإدارة المحلية وفي تطبيق القوانين الصادرة عن الحكومة المركزية في استانبول، ممّا ساعد في تفعيل المؤسّسات وتنظيمها والتفاعل بين البيروتييّن والإدارة الرسميّة. وهذا ما لفت أنظار القيّمين على الإدارة العثمانيّة، وعلى رأسهم السلطان عبد الحميد الثاني (1876 – 1909م.) الذي يمثّل عهده أهم العهود العثمانيّة في تاريخ بيروت من حيث تحديث بنية المدينة، خصوصاً في مجال: التعليم، مدّ سكة الحديد، إدخال الترامواي في خدمة النقل، تطوير المرفأ، إنارة المدينة بالغاز المستخرج من الفحم الحجري، شقّ الطرقات، تنظيم الساحات والحدائق، إقامة المؤسّسات الصحية والمعالم التذكارية (برج الساعة والسبيل الحميدي).
كذلك جرت في عهده متابعة العمل في العقود التي كانت قائمة لمدّ قنوات مياه الشفة، وهي جميعاً مشاريع تنموية أهلّت بيروت لتكون حاضرةً على الساحل الشرقي للبحر المتوسّط وعاصمةً لدولة لبنان في ما بعد، وارتفع على إثرها عدد سكان بيروت من 80 ألف نسمة عام 1876م. إلى نحو 150 ألف نسمة عام 1908م.، وتحوّلت إلى وجهة للنظر في ظل الدولة العثمانية، وأدهشت الإمبراطور الألماني “غليوم” (وليام الثاني) بعد زيارته الشهيرة لها عام 1898م. فأطلق عليها لقب “درّة في تاج السلطان”.
سُجِّل للسلطان عبد الحميد الثاني سرعته في اتخاذ القرارات وإصدار المراسيم السلطانية المتعلقة بكافة المشاريع التحديثية، لا سيما التي تطال منها بيروت، وحرصه على الاطلاع على كافة التقارير والمراسلات، والتي لا تزال تختزنها دائرة الأرشيف العثماني في رئاسة الوزراء باستانبول، كما كان يوصي بتصوير مراحل تنفيذ تلك المشاريع فوتوغرافياً حتى إتمامها ليتسنّى له متابعتها عن كثب وهو في مقرّه، فتجمّع لديه في “قصر يلدز” أرشيف مصوّر ضخم حوى ما يزيد عن 35 ألف صورة، بينها ألبومات كاملة عن بيروت.
مصادر أصليّة
سعينا طيلة أعوام إلى جمع تلك الصور والوثائق والخرائط البالغة الأهمية كمصادر أصلية ورئيسة في كتابة وإظهار تاريخ بيروت برؤية موضوعية وتصويب معرفيّ من جهة، ومن جهة أخرى ليزدان بها معرضنا هذا بالشواهد والأدلة على حصيلة الإنجازات المقامة في المدينة والتي تداني بمسلـّماتها الحقائق، فتؤكدها بجلاء ووضوح ولا ترجّحها بخفاء وضمور. وقد سبق وجمعنا قسماً منها في كتاب “بيروت والسلطان” الذي رعت إصداره بلدّية بيروت عام 2002، وأعادت طباعته عام 2010 بمناسبة إعلان “بيروت عاصمة عالمية للكتاب”، وبالتزامن مع إقامة توأمة بين بلديتيّ بيروت واستانبول بعد نحو مئة عام من التواصل الحضاري بين المدينتين والذي رسم ملامح العاصمة بيروت مطلع القرن العشرين.
والأمل أن يسلّط المعرض الضوء على جوانب مشرقة من تاريخ بيروت، ليس فقط بغية استذكار الماضي وإرضاء الفضول، بل بهدف توفير معرفة منهجية متسلسلة تسجّل حركيّة المجتمع البيروتي من خلال سكون وقِدم الوثائق، وبالتالي تذكير أبناء بيروت، لا بل اللبنانيّين عموماً، بروائع تراثنا المحلي وبالواجبات الكبرى تجاه وطننا الحبيب لبنان.
كلام الصور
1- 2- 3- من المعرض