أشهر وصية في التاريخ أَو قصة جوائز نوبل

د.  جـودت هوشيار

 (كاتب وباحث- بغداد)  

الفرد نوبل – عبقرية علمية فذة، يرتبط اسمه في المقام الأول باختراع الديناميت ومتفجرات اخرى  فتاكة، وان كان له عدد كبير من الاختراعات المهمة الأخرى، التي لا علاقة لها بالإنتاج الحربي، ولكن اسم نوبل يقترن أيضاً في اذهان المعاصرين وعلى نحو راسخ بجوائز نوبل العالمية ذات المكانة الرفيعة،  والتي تأسست بناءً على وصيته الشهيرة.

ولا يعرف سوى عدد ضئيل من الناس كيف طرأت فكرة هذه الجوائز في ذهن نوبل، ذلك لأن حياته ظلت الى عهد قريب تكتنفها الأسرار ويلفها  الغموض. ورغم ان اختراعاته المثيرة قد جلبت له مجداً عريضاً وثروةً طائلةً، فقد كشفت الدراسات التي أجريت مؤخراً انه ظل الى آخر يوم في حياته يعاني من الوحدة والعزلة، وسنحاول في الفقرات اللاحقة القاء الضوء على حياته المليئة بالانجازات العلمية الباهرة من جهة والحزن والاحباط واليأس من جهة اخرى، إضافة الى تصحيح بعض الآراء الخاطئة الشائعة عن أسباب قيامه بتخصيص ثروته الطائلة في سبيل التقدم العلمي والثقافي وتوطيد السلام في العالم، هذه الآراء، التي لا تمت الى الحقيقة بصلة، من قبيل الرأي السطحي القائل إن نوبل قد شعر بالندم للنتائج المرعبة التي ترتبت على اختراعاته العلمية، فقرر التكفير عن (ذنوبه) بتأسيس الجوائز المعروفة باسمه. ان الحقيقة أعمق من ذلك  بكثير،  فقد أقدم الفرد نوبل على هذه الخطوة بعد معاناة طويلة على امتداد سنوات عديدة وجاءت كمحصلة طبيعية لفلسفته ونظرته الى الحياة واِلى مستقبل الجنس البشري .

المليونير الحزين

 في ربيع العام 1876م نشرت احدى صحف فيينا اعلاناً مثيراً بمقاييس ذلك العصر: “رجل كهل، مثقف وثري  يقيم في باريس ويتقن عدة لغات اوروبية، يبحث عن إِمراة في منتصف العمر للعمل بصفة سكرتيرة ومديرة منزل. وقد استجابت لهذا الاعلان سيدة نمساوية أرستقراطية جذابة تبلغ من العمر (33) عاماً، هي ” بيرتا كينسكي”، التي كانت في ذلك الوقت مضطرة للعمل كمديرة منزل لكسب قوتها.

ربما أحست برتا بين السطور مدى الوحدة التي يعاني منها هذا السيد الكهل، وتبين ان الشخص الذي نشر الإعلان كان صادقاً تماماً، فقد كان ثرياً ومثقفاً فعلاً ، ويتقن عدة لغات أوروبية، وإِن كان من الصعب وصف رجل في الثالثة والاربعين من عمره بالكهل. وحين التقيا في باريس أدركت بيرتا أنه يبحث عن ما هو أكثر من مجرد سكرتيرة ، ربما عن زوجة. ومما يؤسف له أن بيرتا كانت تحب رجلاً آخر، وقالت ذلك لنوبل بصراحة، عندما سألها إن كان قلبها خالياً. وبعد اسبوع واحد من مباشرتها العمل عادت إلى فيينا ولكنها لم تستطع أبدًا ان تنسى الباريسي الكئيب، الذي كان من المحتمل أن تقترن به، لو شاءت ذلك، وظلت صورة نوبل عالقة بذهنها: رجل لبق ومتواضع الى حد يكاد ان يكون تدميراً للذات، متقلب المزاج بشكل حاد وفجائي – من الانبهار الشديد الى الحزن العميق او اليأس .

لم يكن نوبل يشبه الآخرين من معارفها،  وظلا صديقين طوال حياته وحتى لحظة وفاته، التي واجهها – بعد عشرين عاما من لقائهما فى باريس –  وحيدا في فيلته بايطاليا، كانت الفيلا في البداية  تسمى “العش” وهي كلمة  توحي بوجود زوجين، وحينئذ اطلق على الفيلا أسم “نوبل”.  وعلى هذا النحو لم يتزوج أبداً، وأصبحت بيرتا التي لقبت في ما بعد بــ “البارونة فون زوتنر” كاتبة معروفة وداعية ناشطة في حركة السلام الأوروبية، وربما كان ذلك  احد الاسباب التي دفعت نوبل الى تخصيص جائزة للسلام، علاوة على الجوائز المكرسة للإنجازات العلمية والأدبية، والتي تمنح سنوياً تنفيذاً لوصيته.

في العام 1905م منحت جائزة السلام إلى بيرتا، التي وصفت نوبل بأنه: رجل قصير القامة، له لحية سوداء ناعمة وملامح  وجه دقيقة، وعيناه الزرقاوان تلمعان بحيوية تحت حاجبين كثيفتين عندما كان في عنفوان شبابه، وبمضي الزمن اصبح تعبير وجهه ذاهلا، ويكاد يكون حالماً.  لم يكن يحب قط الوقوف أمام عدسات المصورين، ويتجنب لقاء الصحفيين ويبتعد عن الأضواء  ويحافظ دوما على مسافة بينه  وبين شركائه ومرؤوسيه. وبفضل اختراعاته الخطيرة، اِستطاع ان يجمع ثروة طائلة، كانت  تعتبر من أكبر الثروات خلال القرن التاسع عشر. هذه الثروة أصبحت أساس الجوائز الشهيرة التي أسسها.

كان نوبل انساناً مجاملا ومرهف الحس، ومحل إعجاب كل من عرفه تقريباً. وكانت أمه شديدة التعلق به. ولكن شيئاً ما في قرارة نفسه كان يجعل حياته  مليئة بالمرارة والأسى، ويبعث على عدم الرضا عن نفسه، حيث لم يعرف الهدوء في حياته قط، وليس أدل على ذلك من السيرة الذاتية المقتضبة التي كتبها نوبل :

–         الفرد نوبل: كان على الطبيب الذي أشرف على ولادته ان ينهي وجوده رحمةً به .

–         فضائله الرئيسية: عدم تكوين أسرة،  رداءة هضم الطعام .

–         امنيته الوحيدة: أن لا يدفن حيا .ً

–         الحوادث المهمة في حياته: لا توجد .

لم تكن حياة الفرد نوبل تافهة  على الإطلاق،  كما تبدو من هذه السطور الطافحة بالتهكم واليأس ،  بل انها كانت في الواقع محاطة بالدفء والحنان من قبل الاقارب وحافلةً بالإنجازات العلمية، التي أتاحت له جمع ثروة ضخمة ونيل شهرة مدوية. ولكن من طبع أي عبقري ان لا يرضى عن نفسه ابداً. أما الإنسان النرجسي فعلى العكس من ذلك يتبجح بفضائله الموهومة ويكيل المديح لنفسه إن لم يجد احدا يفعل ذلك نيابة عنه.

 عائلة نوبل

في العام 1827م  اقترن عمانوئيل نوبل (1801 – 1872م ) بكارولين اندرييتا السيل (1803-1889م) وانجبا أربعة اولاد: روبرت ( 1829م) لودفيك ( 1831م ) والفرد (21-10- 1831م) وأخيرا اميل (1842م).

كان عمانوئيل نوبل مخترعاً موهوباً ورجلاً طموحاً ومغامراً، وحياته مليئة بالانجازات العلمية والاختراعات المدوية والكوارث، اما كارولين اندرييتا السيل، فقد كانت امرأة قوية العزيمة ومرفأ العائلة في الاوقات العصيبة والشدائد .

وحين أفلس عمانوئيل في السويد، قررت هذه السيدة المكافحة فتح حانوت صغير لبيع المواد الغذائية مما ساعد على توفير الحد الادنى من متطلبات الحياة للعائلة. وأراد عمانوئيل نوبل ان يجرب حظه في بلد آخر، فسافر الى فنلندا في العام  1837م ولكنه لم يلق النجاح،  فشد الرحال في العام 1842م الى بطرسبورغ عاصمة روسيا القيصرية، حيث نجح في إقامة وتشغيل مصنع لإنتاج المكائن البخارية وانواع اخرى من المعدات. وكان اهم نجاح حققه في روسيا هو توقيع عقد مع وزارة الدفاع الروسية لتجهيز الجيش الروسي بانواع الاسلحة والأعتدة ، ولكن القدر تدخل هذ المرة ايضا، فقد انتهت حرب القرم (1853-1856م ) بين روسيا  والدولة العثمانية بانتصار روسيا، وبذلك انتفت الحاجة الى السلاح الذي كان يورده عمانوئيل نوبل، وقامت وزارة الدفاع القيصيرية بالغاء العقد الموقع  معه، واضطر عمانوئيل للعودة الى السويد. وهنا في ستوكهولم انهمك بحماس شديد في اجراء التجارب ودراسة امكانية الاستخدام الستراتيجي للنتروجلسيرين وكانت هذه المادة قد اكتشفت  قبل ذلك بـ (14) عاما، ولكن لم يتم الاستخدام العملي لها .

نشأ الفرد نوبل طفلا عليلا يعاني من آلام في العمود الفقري وامراض اخرى ، ولكن ذلك لم يمنعه من إظهار موهبة فائقة في سن مبكرة لتعلم اللغات الاجنبية. وقد تلقى تعليماً ممتازاً على ايدي أساتذة متخصصين في بطرسبورغ ثم واصل دراسته لمدة سنتين (1850-1852م ) في كل من فرنسا وايطاليا، وقام بجولة في عدة دول أوروبية منها المانيا، كما زار الولايات المتحدة الأميركية، وأكتسب خبرة عملية واسعة.

على الرغم من اعتلال صحته فقد كان دؤوباً  محباً للعمل، وكان والده عمانوئيل  نوبل يسميه (الفرد اللبيب الدؤوب). ومع مضي الزمن أصبح  يقدر العمل  أكثر فأكثر، حيث كان يقول:”إن العمل يجعل كل شيء رائعاً”. كان يكره الدعة والخمول والكسل ويدرك على نحو عميق أن كل ما ينجزه الإنسان هو بفضل العمل الواعي الموجة نحو تحقيق غاية معينة وهدف محدد، لذلك كان يخطط لكل خطوة يخطوها ويعرف ما يريد بالضبط .

الشاب اليافع أدرك ان الحياة ليست عملاً فقط، وأحس بذلك بقوة في باريس على وجه الخصوص.  وعرف (الفرد) سعادة الحب في هذه المدينة، ولم يدم حبه طويلا. الذكرى الوحيدة عن هذا الحب هي قصيدة قصيرة، فقد كان نوبل في مقتبل حياته يكتب الروايات والمسرحيات ويجرب الشعر، ومن المحتمل انه كان سينعم بمباهج ومرارة الحياة الزوجية، ولكن حبيبته ماتت فجأة وتركت لوعة في نفس الفرد، فقرر العدول نهائياً عن فكرة الزواج والعزوف عن مباهج الدنيا ليكرس حياته للأهداف النبيلة.

Berta von Suttner

انجازات وكوارث

في خمسينات القرن التاسع عشر تدرب وعمل (الفرد ) في مصنع والده في سان بطرسبورغ مع اخويه لودفيك وروبرت. ظل الشبان الثلاثة في روسيا لبعض الوقت حتى بعد عودة والدهم الى السويد،  وكُلّف الفرد – بسبب معرفته اللغتين الانجليزية والفرنسية- بمهمة في كل من انجلترا وفرنسا، مهمة حساسة كتب لها الفشل مسبقاً وهي الحصول على قرض مالي .

وفي هذ الفترة تقريبا أخذ (الفرد) يبدي اهتماما بعلم الكيمياء حيث تمكن من تسجيل براءة اختراع لأول مرة في عام 1857م، وشرع باجراء التجارب بالاشتراك مع والده على مادة النتروجلسرين، وكان النجاح حليفهما أو على وجه الدقة حليف الفرد نوبل ، الذي بذل جهوداً مضنية وطويلة لأثبات ان الاختراع يعود اليه وليس لوالده. لقد كانت القوة التدميرية للنتروجليسرين معروفة قبل ذلك ولكن لم يتمكن احد من تحقيق استخدامها العملي.

ان توصل الفرد نوبل الى اختراع كبسولة التفجير، التي يمكن بواسطتها احداث تفجير في حاوية مملؤة بالنتروجلسيرين السائل كان على جانب عظيم من الأهمية. وقرر الفرد اشراك شقيقه الاصغر اميل – وكان  لا يزال تلميذا في المدرسة الثانوية – في هذه التجارب وتمكن الشقيقان من انتاج عدد محدود من هذ الكبسولات في مختبر صغير قرب مدينة ستوكهولم .

كان ذلك في عام 1863م،  وكانت هذه التجارب محفوفة بالمخاطر العظيمة ولكنهما واصلا عملهما من دون كلل.  وبعد عام واحد وفي ساعة مبكرة من الصباح عندما كان الفرد في رحلة عمل خارج ستوكهولم ووالده يتناول طعام الافطار، حدث انفجار هائل في المختبر ادى في الحال الى وفاة إميل وأربعة أشخاص آخرين، ولكن الفرد كان واثقا من النجاح ولم تثبط هذه الكارثة عزيمته ولم يتخل عن مشاريع اقامة مصانع في وطنه السويد وفي المانيا. وكان بعيد النظر سواء خلال الفترة الحرجة او في السنوات اللاحقة، عندما أنشأ مصانع في بلدان اوروبا واميركا، حيث تخلى عن حقوق براءة الاختراع لقاء مشاركته في ارباح المصانع المقامة في داخل وخارج وطنه.

كان الانفجار في ستوكهولم  بداية لسلسلة طويلة من الكوارث المفجعة،  التي كانت كافية – على ما يعتقد – للإقلاع عن فكرة انتاج النتروجلسرين على نطاق صناعي قبل ان يبدأ مثل هذا الإنتاج فعلا. ان خزن ونقل النتروجليسرين كان أخطر مما تصوره الفرد نوبل نفسه. ففي عام 1866م  تناثرت في الهواء قرب سواحل بنما باخرة محملة بالنتروجليسرين وأدى الحادث الى مقتل (74) شخصا وبعد أقل من شهر واحد قتل (14) شخصا في انفجار مخزن في سان فرانسيسكو ودمر انفجار هامبورغ المصنع الذي أقامه الفرد نوبل بعد مرور عام واحد فقط من الانتاج فيه. وحدثت انفجارات مماثلة في كل من نيويورك وسيدني .

وعاد الفرد نوبل الى المختبر لإيجاد حل يضمن نقل وتداول واستخدام النتروجليسرين بشكل آمن. كان يبحث عن مادة صلبة على شكل مسحوق او ألياف تمتص النتروجليسرين مما يزيل قابلية هذه المادة للانفجار تلقائياً. وأخيرا استقر رأيه على مادة تسمى (Kiese Lgur)، التي تكون مع النتروجليسرين مادة أقل خطورة في التداول.  وأطلق نوبل على هذه المادة الجديدة اسم (ديناميت)، وهي كلمة مشتقة من (ديناميك) اليونانية وتعني القوة.

وعلى الفور تحولت مادة الديناميت الى اوسع المواد المتفجرة انتشارا في العالم، وأقام نوبل وشركاؤه المصانع في كل من النرويج، فنلندة، فرنسا، ايطاليا، النمسا، اسبانيا، الولايات المتحدة الاميركية،  وبكلمة مختصرة في كل مكان يستخدم فيه المهندسون التفجير في حفر المناجم وشق الانفاق وكانت الارباح هائلة.  فعلى سبيل المثال لا الحصر دفعت شركة (بريتش ديناميت) الى المساهمين وبضنمهم الفريد نوبل أرباحا سنوية تتراوح ما بين 12% – 20% طوال (10) سنوات .

وارتفع انتاج الديناميت من 11 طناً عام 1867م  الى 3120 طناً عام 1874م . وكان تسجيل واستصدار شهادات براءات الاختراع وإبرام  عقود المصانع الجديدة يستنزف الكثير من وقت الفريد نوبل، ولكنه كان مهتما اكثر من اي شئ آخر بتجاربه المختبرية. كان رجل الافكار الجديدة ويبدو سعيدا حينما ينهمك في اجراء التجارب فقط ولا يغادر المختبر الا في وقت متأخر من الليل.  وكان يقول “اذا طرأت في ذهني الف فكرة خلال عام واحد، وتبين ان فكرة واحدة فقط من هذه الافكار ذات قيمة أكون راضياً”.

ولكن الواقع يثبت ان نتائج أعماله كنت مثمرة اكثر من ذلك بكثير ، حيث بلغ عدد الاختراعات التي توصل اليها خلال حياته (355) اختراعاً .

وبعد فترة قصيرة توصل الى مادة متفجرة أقوى سماها (الجيلاتين المتفجر). وفي الثمانينات حصل على براءة اختراع مسحوق بدون دخان وتهافتت الجيوش الاوروبية على شراء هذه المادة الجديدة.  ان اهتماماته العلمية كانت اوسع من نطاق المواد المتفجرة. كان يقوم بتجارب كثيرة لإيجاد بدائل صناعية للحرير والجلد والمطاط وتجارب في مجالات أخرى .

 نوبل المواطن العالمي

كان نوبل بطبعه وبحكم الضرورة مواطنا عالمياً،  ويتقن ست لغات اوروبية اساسية.  كان يحس كأنه في وطنه وبيته في معظم العواصم الأوروبية. ففي بداية حياته العملية كان يقطن في هامبورغ ، ثم عاش فترة طويلة في فيلا انيقة في باريس. وفي أواخر حياته اقتنى فيلا كبيرة في إيطاليا وسكن فيها. كان دائم التنقل بين مدن اوروبا في رحلات تتعلق بعمله، وكذلك للمعالجة في المصحات. وأمضى الصيف الاخير من حياته في بيته في فيركبورن بالسويد. وقد أطلق عليه الكاتب الفرنسي فيكتور هوجو اسم (المليونير المتشرد). وحين تقدم به العمر، كان نوبل يشكو من الثمن الغالي الذي أضطر لدفعه ثمنا لحياته في التنقل الدائم.  قال ذات مرة “أنا أجدف بلا مقود أو بوصلة، بقايا سفينة محطمة في عرض البحر”.

وفي رسالة الى خطيبته كتب نوبل: “لم أكوّن أسرة. هذا المرفأ الحياتي الذي لا يقدر بثمن وليس لي اصدقاء يمكن ان احبهم، ولا اعداء يمكن ان أكرههم”. كان نوبل يهوى سباق الخيل، ولكنه كان جد معتدل في مراهاناته، لم يكن يطيق التدخين والكحول ولعب القمار وكان أشبه بالناسك في عاداته .

كان يحاول دائما ان يستقبل ضيوفه بسخاء منقطع النظير. قال احد معارفه عن الولائم التي كانت تقام في بيت نوبل “إنها مآدب كبيرة تتيح لك أوسع الفرص لاختيار الأطباق وأنواع الخمور. كان أبو الديناميت لا يطيق الضوضاء، لذا فإن عجلات عربته كانت مغطاة بالمطاط كي لا تحدث أي قرقعة .”

نوبل العصامي كان يعتمد على نفسه في كل شي، وينشد الاستقلال في آرائه ووجهات نظره، التي كانت تختلف عما هو تقليدي او سائد. كان ينظر نظرة شك وريبة الى كافة انواع الحكومات في أوروبا واميركا، وحين تقرأ مؤلفاته العديدة يبدو لك انساناً يحاول ان يخفي اوهامه، متوقعا ما هو أسوأ ويأمل – برغم لك – في مستقبل افضل.

أما الموضوع الذي كان يشغل باله طوال حياته فهو بحثه المتواصل عن الحب ولكن من دون جدوى. وبوسع عالم النفس ان يفترض ان أمه قد حجبت عنه النسوة الأخريات.  كان الفريد وأمه أندرييتا متعلقين ببعضهما، وليس أدل على ذلك من ان نوبل كان يحرص أشد الحرص ان يحضر الى السويد سنويا في يوم ميلاد أمه. وحين توفيت  كان عمره (56) سنة، وحسب قول نوبل: “كانت تحبني على نحو يعجز عنه الناس هذه الايام، حيث ان الحياة الصاخبة تعمي كل الاحاسيس”. ويتسم موقف نوبل تجاه المرأة بشئ من التناقض فقد كان مسحورا ومبهورا بالنساء، وفي الوقت ذاته ينفر منهن. وهو الذي كتب عن المرأة: “الجنس اللطيف ولكن المفزع”، وبرغم خجله المعهود فقد كان دائما مهتما بالنساء .

 ملك الموت

أتيحت لألفريد فرصة نادرة ليقرأ نبأ وفاته وهو حي يرزق. حدث ذلك عندما توفي شقيقه لودفيك ، الذي جمع ثروة كبيرة من استخراج النفط من الحقول الغنية قرب مدينة باكو الأذربيجانية. وقد التبس الامر على الصحفي الفرنسي الذي كتب مرثية للفقيد، وظن ان المتوفي هو الفريد نوبل وأطلق عليه الصحفي أسم “ملك الموت”. ويعتقد البعض ان هذا التنبؤ المشؤوم قد عزز الى حد كبير ميل الفريد نوبل نحو مناهضة الحروب عن طريق النضال السلمي، فقد أخذ يبدي اهتماما كبيرا بقضايا السلام  العالمي، وعلى مدى سنوات طويلة دافع نوبل عن اختراعاته امام نفسه وامام المجتمع .

لقد كان طوال حياته مناهضا للحرب ووصفها بانها “أكبر وأفظع جريمة”، ولكنه في الوقت نفسه كان يؤكد ان الضحايا الانسانية حتمية عند استخدام اي نوع من المتفجرات حتى لو كان ذلك من أجل هدف نبيل .

ولقد أيد اسهام (بيرتا فون زوتنر) في حركة السلام الاوروبية برغم انه كتب اليها: “ان مصانعي تقرب نهاية المعارك على نحو أسرع من مؤتمراتكم ، ومن  المحتمل جدا انه في اليوم الذي تظهر فيه امكانية لدى جيشين متقاتلين في افناء كل منهما الآخر خلال ثوان معدودة، فإن كل الأمم المتحضرة تدير ظهرها للحرب.”

في العام 1891 غادر نوبل فرنسا الى ايطاليا بسبب سخط الفرنسيين العارم واحتجاجهم ضد قيامه ببيع المسحوق عديم الدخان الى البلدان الأخرى،  وفي إيطاليا ، واصل تجاربه على الالياف الصناعية والمواد المتفجرة في فيلته الواقعة قرب ساحل البحر في سان ريمو، رغم أصابته بمرض القلب،  وفي عدد من رسائله الموجهة الى معارفه تنبأ نوبل بموته ورسم صورة قاتمة للحظة وفاته: (بين خدم غرباء حين لا يكون في جواره انسان قريب وحميم). وفي أكتوبر 1896 أصيب بنزيف في الدماغ وخلال ثلاثة ايام لم يكن يستطيع الكلام الا بصعوبة شديدة وباللغة السويدية التي لم يكن احد من خدمه يفهمها. وفي العاشر من كانون الاول من العام 1896 وجده احد الخدم وقد فارق الحياة .

  وصية الفريد نوبل

ربما كانت وصية الفرد نوبل اشهر وصية في التاريخ فهي وصية فريدة ، ويمكن اعتبارها أهم اختراع توصل اليه، حيث لم يسبق لأحد ان كرس امواله الطائلة لغرض نبيل، هو تطوير العلم العالمي وتوطيد السلام وتكريم الادباء .

في العام 1895 أي قبل وفاته بعام واحد قام الفرد نوبل ومن دون الاستعانة بالمحامين بكتابة وصيته .

كان يعتقد ان الثروة الموروثة تؤدي الى زيادة العاطلين والكسالى، ولهذا لم يخصص في وصيته سوى جزء صغير من ثروته، لأقاربه وللمقربين منه، أما بقية المبلغ فقد أوصى بإيداعه في البنك وتخصيص أرباحه  السنوية كجوائز تمنح كل عام لاولئك الاشخاص الذين قدموا خلال العام المنصرم أفضل الخدمات للإنسانية. وتوزع جوائز نوبل – حسب الوصية – على خمسة حقول هي (الفيزياء، الكيمياء، الطب أو علوم الفسلجة، الآداب، السلام). وفي عام 1968 قررت الجهات المانحة للجوائز تخصيص جائزة سادسة في حقل الاقتصاد بناء على اقتراح بنك السويد لمناسبة مرور (300) سنة على تأسيسه .

ان طريقة اختيار المرشحين ومنح الجوائز تختلف قليلا عما جاء في وصية نوبل، حيث تمنح الجوائز ليس للأعمال المنجزة خلال العام المنصرم، بل تلك المنجزة في الاعوام السابقة، اذا ظهرت اهميتها في ما بعد.  وهذا امر مريح للجهات المانحة والمجتمع الدولي،  حيث تتيح هذه الطريقة حرية أوسع في اختيار الأبحاث والإنجازات الاكثر أهمية خلال فترة زمنية مفتوحة .

نشرت الوصية لأول مرة في أوائل كانون الثاني عام 1897 وأثارت ردود فعل متباينة في السويد والدول الأوروبية الاخرى، سرعان ما تحولت الى ضجة حقيقية، فقد  اتهمه القوميون السويديون بأنه قد خذل ابناء جلدته، في حين أكد نوبل في وصيته أن تمنح الجوائز لأكثر الناس جدارة واستحقاقاً بصرف النظر عن الجنس والقومية والدين والحدود الجغرافية .

استمرت الضجة التي أثارتها هذه الوصية،  طوال فترة المحاكمات الطويلة بصددها، والتي شهدت مشادات حادة بين الاطراف المتنازعة (الجهات المانحة للجوائز وأقارب نوبل)، حيث زعم البعض ان الوصية غامضة وغير قانونية، في حين زعم البعض الاخر أنه لا يحق لنوبل ان يتصرف بثروته على هذا النحو،  ولم تهدأ الضجة التي أثارتها الوصية الا بعد حوالى أربع سنوات. وبحلول عام 1900 كانت كافة الاجراءات التحضيرية لعملية اختبار الفائزين الاوائل قد استكملت، وقد تحددت اسماؤهم  بعد ذلك بعام واحد.

كان نوبل مالكا للعديد من الشركات ومساهماً في شركات صناعية اخرى، وذاع صيته في الاوساط العلمية وبين رجال الاعمال والمال والسياسة في أوروبا،  ولكن شهرته العالمية الحقيقية جاءت مع اختراعه الاهم وهو وصيته. ولكن هذه الوصية لم تكن تنفذ لولا جهود راغنر سولمان – معاونه وسكرتيره وأحد اثنين أوكل اليهما نوبل تنفيذ وصيته. وعلى أية حال فقد حسمت المحاكم امر الوصية وتحقق حلم نوبل بإنشاء  صندوق لتمويل الجوائز المسماة باسمه. وتولى سولمان رئاسة الصندوق اعتبارا من 1901 .

وصندوق التمويل هذا، منظمة غير حكومية ومستقلة، تتلخص مهمتها الاساسية في تمويل الجوائز وضمان حقوق الجهات المانحة لها، واخيرا إعداد اجراءات واحتفالات تسليم الجوائز للفائزين .

ان الجوائز تعكس ميول نوبل نفسه: العلوم التطبيقية، الآداب، السلم، كما تعكس نزعته الكوسموبوليتية. ان السمعة الممتازة لهذه الجوائز ربما تفسر بأن الجوائز تعبر أصدق تعبير عن افكار نوبل النبيلة واهدافه واحلامه في الوصول الى “مجتمع عالمي يسوده الانسجام الذي لم يخلق بعد، ولكنه سوف يتحقق حتما،  كما يقول المؤرخ المعروف دونالد فلمنغ.

عملية الترشيح والاختيار لجوائز نوبل

تبدأ عملية الترشيح للجوائز في خريف كل عام. حيث تقوم لجان  نوبل المتخصصة بتوجيه رسائل الى مئات العلماء والى الحائزين على جوائز نوبل في السنوات السابقة، والى المراكز العلمية المتخصصة في شتى انحاء العالم تطلب منهم ترشيح الاسماء لجوائز العام المقبل،  وتوجد (6) لجان لجوائز نوبل، ثلاث منها في حقول الفيزياء والكيمياء والاقتصاد لدى الاكاديمية الملكية السويدية للعلوم، ولجنة واحدة للطب والفسلجة لدى معهد كارولينا وأخرى للأدب في الاكاديمية السويدية، وثالثة للسلام في البرلمان النرويجي. تتكون كل لجنة من (5) أشخاص تعينهم الجهة المختصة، ولكن من حق اللجان الاستعانة بخبراء مستقلين من ذوي الكفاءة العالية في مجالات تخصصاتهم .

وفي شهر شباط تباشر لجان نوبل  بدراسة وتحليل الترشيحات الواردة إليها. وتعقد لهذا الغرض جلسات عديدة ومطولة، ولكن يمنع منعا باتاً تسجيل محاضرها. و تعد اللجان تقارير مسهبة عن أبرز المرشحين وترفع توصياتها الى المراجع المعنية للبت في الاختيار النهائي .

وتعلن أسماء الفائزين في يوم ميلاد الفرد نوبل، المصادف  الحادي والعشرين من شهر تشرين الأول / أكتوبر، و لا تعلن أسماء المرشحين الذين لم يقع عليهم الاختيار. و تتسم أعمال اللجان في مراحلها الأساسية بالسرية التامة، و يتم تقليد الجوائز للفائزين فى يوم وفاة نوبل، المصادف العاشر من شهر كانون الأول / ديسمبر. ويجرى تسليم جائزة السلام في العاصمة النرويجية أوسلو بحضور ملك النرويج أو من ينوب عنه من أفراد العائلة المالكة .

أما بقية الجوائز، فتُسلم الى الفائزين بها من قبل ملك السويد في قاعة الحفلات للفيلارمونيا السويدية فى أجواء احتفالية مهيبة .

 الانتقادات الموجهة الى لجان جوائز نوبل

تعرضت لجان جوائز نوبل – منذ تأسيسها وحتى يومنا هذا – الى انتقادات لاذعة، واسعة النطاق. وفي مقدمة الانتقادات الموجهة الى هذه اللجان، أنها تمنح الجوائز لشخصيات أدبية وعلمية بارزة ، خلفوا إنجازاتهم الرئيسية وراءهم. و كما قال “برنارد شو” الحائز على جائزة الآداب لعام 1925م، إن الجائزة بمثابة طوق النجاة يرمى للسابح المهدد بالغرق بعد وصوله الى الشاطىء بسلام، فى حين أن نوبل ذكر فى وصيته بوضوح، إن الهدف من منح الجوائز هو مد يد العون الى صفوة الموهوبين الواعدين .

اترك رد