“أرحَـــلُ بِالكَلِمَـــة” لـ يوسف عيد مَنطِقُ اللا إنتِهاء في كتاب

بقلم: ندى نعمه بجاني

 لا بأسَ إن أطَلتُ الوقوفَ بَينَ كَلمَةٍ تَرحَلُ بإنسانٍ وَإنسانٍ اختارَ الرَّحيلَ بالكَلمَة، فَالاثنانِ خَليطُ مَشاعِر مِنَ الوَجَعِ وَالفَرَحِ وَالألَمِ وَالاصرار، يَرنُوانِ إلى Dr youssef eid-nada bejaniالتّوَحُّد، يَصبُوانِ إلى الاتِّحاد، يَرحَلانِ في غِمارِ الفُصولِ فَتَستَحيلُ الفُصولُ حِكاياتٍ بَديهَةً نافِذَةً إلى المِصَبِّ، فتَعدُلُ الكلمَةُ وَيُنصِفُ الانسانُ، وَالاثنانِ ريشَةٌ تُنشِئُ الأوصافَ لَوحاتٍ أنيقَةً تَرمُقُنا بنورِ مَشاعرَ إنسانِيَّةِ النَّظرات، تُراقِصُ المُقَلَ، تُخالِطُ الشّغافَ، تَصيدُ الخَواطِرَ عَلى غَفلَةٍ مِنَ الحَنين.

 “إلى بَسمَةِ أُمّي”! كَلِمَةُ الاهداء، أولَى ما لَفَتَتني، هَمسَةُ حَنينٍ شَجِيَّةٌ مَشحونَةٌ بالغِنى وَالسَّنى، بالمُنى وَالجَنى، مَغمورَةٌ بالرَّحمَة.. فَالأُمُّ المُخاطَبَةُ مَلاكٌ تَصَدّرَت بَسمَتُها، استَهَلَّ بها الدكتور عيد وَقَلَّدَها ابنُها عُنوانًا ضِمنَ عُنوانٍ تُبارِكُ صَفحاتِ الرَّحيل لِتَعودَ في الخَواتيمِ إلى صَباحاتِهِ وَجنَةً لِلنَّسيمِ المُتَرامي تَحملُ سَكرَةَ البَخورِ وَخَميرَ الزّمَن .. في  قَصيدَة ” أُمّي” (ص.131).

    الدّكتور يوسف عيد إنسانٌ ما عَرَفَ إلّا أن يَكونَ ذاتَهُ وَيُكَوّنَها كَما شاءَ، وَكَما أشارَ في قَصيدَة “صَوتُ الجَرس” (ص92)-  مُعَرِّجًا عَلى طفولتِهِ ” ذاتي عَلى ذاتي ” اقتَطَفَ مِنها خُيوطًا وَسَلامًا لَفَّهُ، فَذُرّيّتُهُ تُعَلّمُ كُلَّ نَفسٍ كَيفَ تَرتَقي، وَطفولَتُهُ باسِمةٌ تلُفّهُ مُسافِرًا، وَهي جَوهَرُ عُمرهِ تَحوكُ كَرامتَهُ، وَفي” رائِحةُ الزيتون ” ص 52 – تَبقى طُفولَتُهُ في ذاكِرَة الأيّام مُعَطّرَةً بأريجِ الزّيتونِ وَالصَّعتَرِ وعَبقِ الطّيونِ وَرائحةِ الزّيتِ في مَملكَة الزّيتون يَغدو إلَيها كُلَّ يَومٍ، وَفي مَملَكَتِهِ يَلبسُ الأوراقَ المَمشوقةَ لِيَصيرَ نَبِيًّا يَسوقُ قَطيعًا مِنَ النّجوم ..

  لِذا نَراهُ مُؤثّرًا، يَسقي وَيَستَقي مِن ماء اللّغةِ الّتي إليها يَنتَمي .. لأنّهُ من ضِلعِها وَمِن صُنّاعِها وفي ضُلعِها، وَلأنَّهُ ألفُها وَباؤها، وَفي قَلَمِهِ سِرٌّ مَعقودٌ وَالأنفاسَ الرّمزيَّةَ وَجِذرَ المُفرَدات يُمطرُ في قَلبِ السِّحرِ مَخطوطاتٍ استِثنائِيَّةً، لا اسمَ لَها، لأنّها تَفوقُ الوَصفَ وَالتّسمِيات، امتَثَلَت كُلُّها في صَرحِ أدَبيٍّ باهِرٍ، خارجَ إطار الزّمن، لتُؤَرِّخَ حَقيقَةَ الشَّغَفِ الصّاعِدِ، وَتُراقِبَ اكتِمالَ آخِرَ خُصلَةِ تُقَدَّمُ إلَيها .. وَلِأنّهُ القَلَمُ المُستَقيمُ الوَضوءُ الّذي لا يُمكنُ إلّا أن يَشِعَّ بَريقُهُ وَلا يَطمَئِنُّ إذا ما رَسا فَوقَ شِفاهِ النّسائِمِ، يَقطفُ في التِماعِ الكَلِمةِ زَهرَةَ الحُروف، وَفي ظلامِها وَفي ضَوئِها يَنحَتُ مَمَرّاتِ القَصيدَة، لِيُؤنِسَ قارئَها وَيُهدِيَهُ هَويّتَهُ المُجَرّدَة.

 أنسنة الكلمة

  وَالدّكتور عيد، جُبلَت خَلاياهُ بعشقِ الكَلمَةِ وَرَصائِصِ الفِكرِ حَيثُ تَوالَدَت مُحَسّناتِ الأدبِ وَاعشَوشَبَ البَديعُ وَاستُعذِبَ البَيانُ وَجَنَحَ خَيالُه .. فَكانَ أن فَلسَفَ الشّعورَ وَتَأبّطَ الحَرفَ وَأنسَنَ الكَلمَة، عَمَّدَها بماءِ فِكرهِ، لَقَّحَها بإيحاءاتِهِ المُستَوحاةِ مِن صَدرِ ارتِداداتِ الأشياء، طَوى المَسافات، عبَرَ إلى الغياهِبِ، هَمُّهُ أن يَعودَ في المَساء، وَهوَ يَشعُرُ أنَّهُ قامَ بشَيءٍ عَظيم .. كَأن أثرى النّفسَ، لَقَّنَ الحَواسَّ، أزاحَ عَن روحِهِ، أفنى الذّاكرَة .. وَما نَسِيَ لَحظةً للسّلام، فَهوَ واقِعٌ في سَماءِ الحَقّ وَكلِمَةٌ لا رُجوعَ عَنها! قَد عَشِقَ اللّحظَةَ الّتي كَبُرَ فيها وَالّتي كَبُرَت في امتِداد المَكانِ الحافِلِ بعُيونٍ لا تَنام، وَحينَ قَرَّرَ “أن ينامَ سَهرانــا” )ص 94( – أثمَلَ الدّجى، امتَشَقَ السُّحُبَ، أشبَعَ الأنجُمَ عِناقًا، تَنَشَّقَ عَبَقَ الأشعار.. انتَظرَ الهَمسَ في أذُنِ التّاريخ ليَقول: “أنَّ لكَلَمتِهِ صَدى الأكوان ورَحيلُهُ مُوَقّعٌ لا تاريخ لَه وَلَيسَ لَهُ عُنوان” ..

 فَبالكلمَةِ، وَقَفَ عَلى أرضِ الواقِع يَنفُخُ فيها روحَهُ، يَنثُرُ بذارَ الأمَلِ المُستَخلَصَة مِن عُصارَةِ فِكرِهِ وَتَفكيرِهِ، وَبَينَ سُطورِهِ تَبَرعَمَ حَنينُ تُراثٍ هادِنٍ وَضَجيجُ ذِكرى كَنَسَماتِ الصَّقيعِ وَبَعضٌ مِن أطلالٍ تَجاذَبَتهُ حَيثُ نَيسان وَشَقائِقِ النّعمان، هَدَفَ في استِحضارِها إلى إحياءِ قِيَمٍ إنسانِيّةٍ باتَت شِبهَ مَفقودَةٍ، فَأضاءَ في زَوايا عِدَّةٍ عَلى العَلاقاتِ السَّليمَة الّتي تولدُ بالنّور وتَنمو بالرّؤيّةِ وَالرَّويّةِ وَالحِكمَةِ وَالتَّبَصُّر.. فكانَ أن عايَشَها وَعالَجَها وَطارَحَها وَطرَحَها فوقَ شِراعِ الأمسِ المَعقودِ بالآتي، ألقاها في وَجهِ الأرياح لِتُلامسَ شغافَ المُتَلقّي وَتُثيرَ فضولَهُ وَتَحثُّهُ عَلى مُؤازَرَتِهِ وَالاستِئثارِ بهِ وَالإسفارِ مَعَهُ، وَالغَوصِ في صَميمِهِ حتّى عُمقِ كَوائِنِهِ السّاجيَةِ في ذِمّةِ التّاريخ.. كَحَبَّةِ حِنطّةٍ أبَديَّة ..!

 كلمَتُهُ مُصطَفاةٌ مِن زَخّاتِ أشواقٍ وَأنفاسٍ وَنَبضَةِ عاشقٍ وَروحٍ فائرَةٍ بالورود العارية، لَونُها فَراشاتُ الفَجرِ في الضّوء، طَعمُها الزَّمانُ الّذي يَعيشُهُ.. إذ يُشيرُ: أيُّها اللَّونُ الآخَرُ ها الصَّباحُ أطَلَّ – “لَونٌ آخَرُ” )ص 84( – فَنَشيدُ الحَياةِ بطَعمٍ آخَرَ وَنَشيدُ المَوتِ بلَونٍ آخَرَ وَللشَّهادَةِ ثَمَنٌ آخَرُ وَأضحى المَوتُ بلَونٍ آخَرَ..

وَفي هذا التّحَوّل لاحَ فَرَحٌ داخِليٌّ لَمَسناهُ في قول الدّكتور عيد:   -أكتُبُ لِأعيشَ كَلَّ اللَّحَظات- .. فمِمّا لا شَكَّ فيه أنّه وَهبَ الكتابَة جزءًا مَديدًا مِن عُمرهِ وَأنَهُ رَأى النّورَ في عالَمٍ آخَرَ وَتَلَقَّنَ حَرفًا آخَرَ وَتَطَلَّعَ بعينٍ أخرى وَبمِنظارٍ آخَرَ فَالتَحَفَت كلمتُهُ صَمتَ الأحلام، جَمَعَت مَآقي الأزهار وَحَرارَةَ الكَلمات، إختَصَرَت مَفاهيمَ الآداب، تَخَطَّت معنى الحُروف، خرَجَت مِن مَتنِ الدّيوان إلى التّجسيدِ وَالحُلولِ وَالارتِقاء، تَرَفَّعَت” عَلى” ما بَينِ الأرضِ وَالسَّمَوات لِتَحتَفلَ بعُرسِ الحَياةِ وَالمَوتِ وَالقِيامَة .. ، وَفي شِعابِ الكَلمَة وَعَلَى مَوائِدِ المَعرفَة سَعى إلَيها وَإلى إبرازها حينَ أطَلَّ عَلَينا في قَصيدَة ” القِيامَة ” )ص 55( –  تَجَسُّدٌ وَتَطَلُّعاتٌ حِسِّيّةٌ وَشُحناتٌ مِنَ الرّسائِلِ السّامِيَة تُسافِرُ مَعَ صَدى الأنفاس لَهِفَةً لِلقاءِ الرّوحِ الجَديدَة وَالدّهرِ الجَديدِ في الضِّفَّةِ الأخرى..

Dr youssef eid     Dr youssef eid-cover

    مِشوارُ المُناجاة

أرحلُ بالكلمة! إنّهُ مِشوارُ النّداء، وَالمُناجاة، وَاشتِهاءُ الأمنِيات، يَمضي بِهِ الدّكتور عيد في إثرِ الجَمالِ في حَديقَةِ العُمرِ، يَقومُ إلى قيثارَتِهِ وَفي راحَتَيهِ سِندِيانٌ، يَقتَفي وشاحَ المَحبّة، يَقطفُ لَدُنَها من رَحِمِ الحَياة، فَلا تَتَعبُ مَعَهُ الحُروفُ وَلا تَعرِفُ كَلِماتُهُ الأفول..

 وَالنّداءُ الأبيَض تَعتَريهِ غصَّةٌ، يَتَصادى في البَعيد، يَختَرقُ الأذنَ الصّمّاء، يَعرُشُ إلى الآفاق، يَتبعُ الظّلالَ في الزّحام، يُعتَصَرُ في المُدام لِيَشهَقَ في دُروبِ اليَقظَةِ وَيَنجَذبَ إلى لُيونَةِ المَرام كعُروقِ النّخيلِ العَطشى إلى الماء ..

 وَالمُنادى هوَ الآخر، وَالمُنادى هوَ الله – ” مِسمارٌ” (ص 78): أتُعيرُني يا إلهي مِسمارًا مِنَ الثَّلاثّة بهِ الدُّنى أُطَهِّر؟ وَالمُنادى هوَ المَلِكُ، هوَ الوَطَنُ وَقَد أشبَعَهُ مِن نَبيذِ حَرفِ الآباءِ وَالأجداد ..  – أيُّها المَلِكُ (ص 90)- :إنَّهُ المَلِكُ إنَّهُ لُبنان..!  

قصيدَةٌ عَصماءُ باذخَةٌ، تُلامِسُ الخطابَة، سرياليّةُ المنحى، تتّسمُ برمزيّةٍ عَميقَةِ المعنى والإيصال وَالتّحليل، تُصَوّرُ نَهجًا فِكريًّا مُتَمرّدًا ، ثائرًا ، وهي تُعبّرُ عَن إبداعٍ وَتَميّزٍ في الأسلوب البلاغي والتّبياني الفريد يتطلّب من المتابع والنّاقد والمحلّل الكثيرَ من القدرة على سبر مَعالم وَعي التجربة الشعرية للقصيدة والدافع لكتابتها وفهم الواقع المأزوم للشاعر عيد، إطلالةٌ نَقديّةٌ تُلزمُني وتَضعُني في عُمق الخُصوصيّة الشعريّة للمعاني والصّور والسّرد السياقي للقصيدة: “رَعدٌ بلا صَوتٍ/وَبَرقُ بلا نارٍ/وَنَهرٌ بلا ضِفَّةٍ”…

  هنا الصّمتُ طويلٌ وَبيتُ القصيدِ وَالمَدخَل وَتَبدأُ المُحاكاةُ فَالتّساؤلُ حاضرٌ في سياقات نفسيّة سلوكيّة يَضُجُّ إعصارًا مَجبولًا عَلى الكَرامَةِ يَفورُ بالعنفُوان : كَرهنا رائحَةَ الدّماء/رائحَةَ الحروب/رائحَةَ الأفواهِ المَملوءَةِ بالماء/إلى متى بلاد الأرز يغتالون؟؟

   وَفي “أرحلُ بالكلمة” تَتَجلّى نورانيّاتٌ هامِسَةٌ ومَشارَكاتٌ وجدانيَةٌ وَدَيمومةٌ بَشريّةٌ تَتحَلّى بروحانيّاتٍ وَخَلفيّاتٍ دُنيويّة.. فَما كانَ اليَأسُ حَليفَهُ وَلا الغَضبُ قاتلُهُ وَلا الحُزنُ أتعَسَهُ ولا عاشَ غيرَ مبالٍ بمَن حَولِهِ بل سَعى إلى أنبَلِ الخَصائص وَأجمَلِ الفَضائل يُناجي الارتِقاءَ فَتَعالى عَلى جزئيّاتِ الضّوءِ وَرامَ إلى إحياءِ البَقاء، إذ تَرامى، سَرَدَ مُشاهَداتٍ كَونِيّةً تَجتازُ السَّماء، فَأدمى الأقلامَ ليَكتُبَ الطّوفانَ الهادرَ في عَينَيهِ وَاجتاحَت أنفاسُهُ أنفاسَ الأفلاء…

فإذا ما نَظَرتُ في “أرحلُ بالكَلمَة” قلتُ جَوهرًا/وإذا ما قَرَأتُ قلتُ دُررًا/وإذا ما تَعَمَّقتُ قلتُ بَحرًا زاخرًا/وإذا أبحَرتُ قلتُ مَخاضًا/وإذا المُحيطُ في قلبهِ قَد تَبَعثَرَ وَإذا الحَرفُ بَين أنامِلِهِ قَد أبصَرَ…

فَما تُراهُ هذا الرّحيل؟

   تَجلّيات فائقَة الشّفافية

 إنّهُ سَفَرٌ صوفيٌّ وَحُلُمٌ لَيسَ ببَعيدٍ بَحثًا عَنِ الكَلمَة الأخرى الإضافِيَّة لِتُفَجّرَ النّوازعَ وَتَكشفَ تَجلّياتٍ فائقَةَ الشّفافية، وَلحظاتٌ حُبلى بأمطار النّعمَةِ الغَيّاثَةِ وَطيفٌ عاصِفٌ يأتي كَما النّسيم خَفيفًا، هادئًا، مُطَمئنًا .. وَرَمزًا أزلِيًّا لَيسَ يَحيا في الفناء.. أنّهُ تَفَرُّدٌ وَانفِرادٌ في سابحاتِ الجَمال وَساكِباتِ الخَيال..

 ما عساهُ يكونُ هذا الرّحيل وفي خِضَمِّهِ تَستَوقفُنا مَحَطّاتٌ زاخِرَةٌ بالأحداثِ الحَميمَة، وَالرّوحُ تَتَسَلسَلُ فيها دُموعُ الفَرَح يُثقِلُها العَناءُ المَدموجُ بالألَمِ في آن، ومِنَ الغِلافِ إلى الغِلاف، تَتَجلّى المَحبّةُ مُجذّرةً بالحَنينِ وَالعاطِفة، كَما لِلحَبِّ حُضورٌ كَثيفٌ وَوَقعٌ كبيرٌ في نفسِ الدّكتور عيد حيثُ تَوَقَّفَ عندَهُ فَترَةً بامتِدادِ الوجود وَقدّمَ لَهُ مُستوًى منَ المَشاعرِ فريدًا، وَإذ تَمَيَّزَ حازَ على شَريحَةٍ كُبرى مِن القَصائدِ كان أبرَزُها “لَـكِ مـا شِئـتِ” (ص 70)– قَصيدَةٌ مَغزولَةُ العِباراتِ أطرَبَتنا حَيثُ تَحتَلُّ أرضَها صورةُ الرّجلِ المُتكامِل وَالحَبيبِ المُتَفاني، المَملوءِ بالحُبّ المُتَواضِع اللّا مُتناهي، الخاشِعِ لِعَينَي الحَبيبَة، المُنعَطِف بكُلّيَتِهِ بفَيضٍ مِنَ الآهاتِ لإرضائِها… يَقطعُ لها وَعدًا في مَطلَعِ القَصيدَة: “سَأصُبُّ كُلَّ صَباحٍ في عَينَيكِ أسراري”، وَفي الذّكرى يَخَتَمُ: “مِن زَمانٍ أطعَمتُكِ جَسَدي/فَأزهَرَتِ الكلماتُ في أشعاري”.

 فَبَينَ “أطعَمتُكِ جَسَدي وَأزهَرَتِ الكَلماتُ” مُعادَلَةٌ مَجازيَّةٌ، عَنى بها الشاعر الدكتور عيد “مَنَحتُكِ حُبّي وأزهَرَ الحُبُّ” .

     وَفي “الدّائرَة” (ص 118) – تَعابيرُ شمّاء وَخَشوعٌ تامٌ لِعَينَيها، فَعَيناها “الأنــا” المُخاطِبَةُ هَواها. وَالحَريُّ أن تَكونَ تِلكَ ” الدّائِرَة ” (قَلبُ الحَبيب) الّذي يَستَحيلُ الخُروجُ مِنهُ وَحَيثُ أصَرّت عَينا الحَبيبَةِ عَلى البَقاء…

   وَفي “أيّـامٌ لا تُحسَب” (ص 110) – نَلمَحُ زَخارفَ وَشَذَراتٍ بحَجمِ الحُبِّ الّذي يَكُنُّهُ لِهذا الحُبِّ المُبتَغى فَمنَحَهُ كَلمَتَهُ بَعدَ جَفافٍ في إطارٍ أدَبيٍّ بَديعٍ أنيقٍ أثرى الرّوحَ وَأنعَمَ النّفسَ، وَفي مُقتَطفاتٍ مِن أبياتِه حَقيقةٌ تَتَفاعَلُ تُساوي حُلُمَ الخُلودِ مَتى يَطلبُهُ يَجدُهُ: “أتُصَدّقينَ بأنَّني أكتُبُ ما كانَ قَبلَ اليَومِ لا يُكتَب؟ الشِّعرُ؟ كانَ الكَأسُ مُفرَغَةً/وَاليَومَ، هذي كأسُهُ تَنسَكِبُ/ما ضاعَ لَم يَكُن عُمرًا/أيّامُ ذاكَ العُمرِ لا تُحسَبُ”.

 فهَل يَجوزُ لِشاعِرٍ أو أديبٍ أو فَيلسوفٍ أن يكونَ دونَ سبب؟

عَرَفناهُ شاعرًا أطفَأ وَأشعلَ ألفَ نار – قَصيدَة “خاطِرُ زَوجَةٍ” (ص 97) .. وَأديبًا لا يُشبهُ أحدًا تُهَيمِنُ ذائقَتُهُ حاذِقَةً في كُلّ الفَواصِلِ وَالمَفاصِل وَفَيلسوفًا يَتَماهى بنُبوغِهِ، وَفي ثُلاثيَّة هذه المَلامِحِ تَفَوَّقَت شَخصيّةُ الدّكتور عيد : الوالد، وَالوالِد الرّوحيّ وَالمُرَبّي فَتاهَت مَجازاتُهُ وَتَمَحوَرَت دَلالاتُهُ وَأثمَرَت “وَلَـدي وَكَلمَتـي” (ص 136) –  حَيثُ المَحبَّة الأبَويّة بجَميعِها وَمَجموعِها كَلمتُهُ وَصايا رُبّانِيّة وَمَوازين اجتِماعيّة وَتَعاليم تَربَويّة اختارَ أن يورثَها إلى وَلَدِهِ وَإلى الأجيال القادِمَة فَيوفي دَورَه بالتّمامِ وَالكَمال، وَبَعض ما جاءَ فيها:يا وَلَدي، انظُر في الحالِ وَالمالِ وَالصّحةِ إلى مَن دونِكَ/وَانظُر في الدّينِ وَالعِلمِ وَالفَضائِلِ إلى مَن فَوقِكَ…

 مَنطِقُ اللا إنتِهاء

جُلَّ ما في الدكتور يوسف عيد أنّهُ بَدَأَ بالكلمَة وَعندَما احتاجَ الإنهاء، إعتَراهُ مَنطِقُ اللا إنتِهاء .. فَخَتَمَ على مَذبح الوَفاء وَأنهى حَيثُ يبدَأَ الآخرون ” بـ المَحبّة ” الّتي دَعا إليها، وَكَما أورَدَ في قصيدة “بَـــدءٌ” (ص 138) – هناكَ “دَعوةٌ وَدُعاءٌ” يتَداخلان ويَعتبرُهما الدكتور عيد جزءين أساسيّن في فهم ومَفهوم مضمون ديوانه.. ففي الدّعوة يستهلُّ بجملة تَعجّبيّة يَبعثُ من خلالها السّلام في نَفسِ وَقلبِ القارئ، تتَبعُها تساؤلاتٌ مُرادُها جَذبُ المُتَلَقّي وَلَفتُ انتِباهِه ومُراعاةُ حاسّةِ الاستِمراءِ لَدَيه لِكَسبِ اصطِفافِه إلى جانبه في موضوعِه “الرّحيل بالكلمة”: أيّها الزّائرُ كلمَتي، أيّها الحَطّابُ! هل حَظيتَ في بُردَتَيَّ بشذا الثّرى؟ وفي مُقلَتَيَّ جوعُ غُراب؟ هل سَمِعتَ صَهيلَ أفراسِ السَّحابِ تَسقي زَرعي؟ هل دَعاكَ يَنبوعي إلى الرَّشفِ؟ هل لَمَستَ قَهقهَةَ اللّيل فوقَ جَفنَيَّ ؟هل آمَنتَ بنَبيٍّ بُعِثَ إلى الوجود؟

 وَفي الدُّعاءِ تَوَجُّهٌ إلى الله الّذي كانَ حاضِرًا في مُعظَم الحِواراتِ وَالابتِهالات، وَقد بَدا في سياقِ الكَلام الرّبُّ مُبارِكًا عَملَهُ وَنِتاجَهُ المُنبثقَين من روحٍ عَريقَةٍ مُؤمِنةٍ بكُلِّ كائنٍ حَيّ: “إمنَح يا رب مَن يقرَأ هذه الكلمات : فَرَحًا داخليًّا /سَلامًا يقينًا/حُبًّا دَفينًا/إمنَحهُ أن يَرحَلَ بالكلمَة إلى الأبعَدِ وَالأغورِ وَالأعلى/إمنَحهُ يا رَبُّ بَصيرَةَ الرّؤيَة، ورُؤيا البَصيرَة /لِيَشعُرَ بأنَّ الكلمة هي فَرَحي، هي أنا، هي هو،/هي المَحبّــة”.

فَبِالمَحَبّةِ… رَحَلَ الدّكتور عيد وَرَديفُها “الكَلِمَة”..! وَالقولُ مَفادُهُ: في البَدءِ .. كانَتِ الكَلمَة..! وَمُنذُ البَـــدءِ، كانَتِ المَحبَّــة!

وَفي قَصيدَة الغِلاف الخارجيّ، وَبَعدَ أن -“رَتَّبَ وَجهَهُ” – وَمِن بابِ التَّشويق وَالإثارَة وَالتَّرَقُّب.. دَوَّنَ وَشوَشاتِ اللّا وَداع: أُرَتِّبُ وَجهي/أُهديكُم الكلمات/أجمَلُ ما فيها/وَشوَشاتٌ/وَرُسومات/لِزينَةِ الزَّمان/شَقائِقُ النُّعمان”.

 فَأَتَمَّ شاعرُنا الدكتور يوسف وَعَبَثًا أدارَ حَولَهُ نَظَراتٍ تائِهَة، فَما مِن أملٍ عَلى الأرض يَضحَكُ لِقلبِهِ إذ رَأى نَفسَهُ ضالًا أشارَ إلى مَوعدٍ آخَر أرادَهُ أعمَقَ: “أعمَــقُ مــا فـي الكِتــاب/لَــم يُكتَــب”…

وَنَحنُ لا نَملكُ إلّا حُروفًا ما استَطاعَت يَومًا أن تُجاريَ عَبقَرِيَّةَ روحِهِ وَأدبَهُ الرَّفيع…!

اترك رد