الوُرَيقاتُ الصُّفر!

 مُورِيس وَدِيع النَجَّار

(أديب وشاعر وروائي وقاص وناقد- لبنان)

مِنَ الهُنَيهاتِ، ما يَقصِفُهُ الزَّمَنُ، ويَطوِيهِ في أَحشائِهِ، فَلا نَجْوَى تلسَعُ، ولا عَوْدٌ دَفِيء!

ومِنها ما يَخلُدُ، وذاكِرَةٌ تَعِي، جُذوَةً، في رَمادِها، تَتَوَهَّجُ كُلَّما عادَ الحَنايا طَيْفٌ حَبِيبٌ، وشاقَ الجَنانَ عَبِيرٌ مِنْ وَجْد!

مَرَّت سِنُونُ طِوالٌ، وأَوراقٌ حَمِيمَة،ٌ مِنْ ماضٍ وَثِيقٍ، تَهجَعُ في حِضْنِ كِتابٍ قَدِيمٍ، ما مَسَّتهُ أَصابِعُهُ إِلَّا في ضَرُوراتِ النَّقلِ، والتَّرتِيب.

ويَومًا، وهوَ يُقَلِّبُ في مَكتَبَتِهِ، على عادَةٍ أَلِفَها هَواهُ، تَحَسَّسَ كِتابًا مَنسِيًّا، وراحَ يُقَلِّبُ صَفَحاتِهِ، فَإِذْ بِوُرَيقَاتٍ صُفْرٍ، بَوالٍ، خَطَّتهَا يَدٌ واجِفَةٌ، في ماضٍ بَعِيدٍ بَعِيدٍ، أَثقَلَتها الحِقَبُ، وامتَصَّت مِن نَسِيجِها كُلَّ طَراوَةٍ، تَهجَعُ بِصَمتٍ، وخَفَرٍ، كَعُصفُورٍ وَدِيعٍ دَهَمَتهُ العاصِفَةُ فانزَوَى، هَلِعًا، في الوَزَّالِ الغَضّ.

وراحَ يُداعِبُ الصَّحائِفَ المُتَداعِيَةَ، بِحُنُوٍّ عَجِيبٍ، كَعاشِقٍ يُمَرِّرُ الكَفَّ الوالِهَةَ على وَجنَةِ الحَبِيب، مُتَفَكِّرًا في أَيَّامٍ خَوالٍ، فَيَثِبُ قَلبُهُ لِكُلِّ حَفِيفٍ تَحتَ أَنامِلِهِ المُتَأَنِّيَةِ، وقد لَفَّتهُ حُمَيَّا، ودَغدَغَهُ سِحْر!

تُراها كَالجَسَدِ، يَذبُلُ، ويَمُوتُ، وتَبقَى الوَدِيعَةُ، في أَطمارِهِ، نَفْسًا تَحيا، وتَفرَحُ، وتَتَأَلَّمُ، وتَنبُضُ إِلى أَبَد!

وراحَ يَتَقَرَّى الكَلِمَ كَمَنْ يُداعِبُ خَدَّ رَضِيعٍ، حَفِيًّا بِدِفئِها، ضَنِينًا بِها مِن كُلِّ تَلَف. وكادَ، لاضطِرابِهِ، أَن يَتَحَسَّسَ البَنانَ الَّتي سَطَّرَتها، ويَشتَمَّ الأَنفاسَ الَّتي عَطَّرَتها بِالحَنِين!

واعتَرَتهُ حالٌ، كَما الغَيبُوبَة، فَأَسبَلَ جَفنَيهِ على خَدَرٍ لَذّ!

ومَرَّت، في خاطِرِهِ، صُوَرٌ، تَداخَلَت، في خَيالِهِ، مع أَطيافِ الماضِي الغابِرِ، ما خَبا عَبِيرُها، ولا خَمَدَ دِفؤُها؛ فإِذا هو ذلِكَ الفَتَى الَّذي تَخَفَّفَ كاهِلُهُ مِن عِبْءِ المَشاغِلِ، وهُمُومِ الدُّنيا، فَباتَت قِبلَتُهُ وَجْنَةً تَبسِمُ لِمَلقاهُ، وثَغرًا يَبُوحُ، لَهُ، بِتَمتَماتٍ عِذابٍ، أَشواقَ الفُؤَادِ المُضنَى، والرُّوحِ الشَّجِيَّة!

واستَعادَ، في خَيالِهِ، تِلكَ اللَّحَظاتِ الخَرِيفِيَّةَ، حِينَ مَرَّت، بِهِ، كَطَيفٍ سَماوِيٍّ شَفِيفٍ، ودَسَّت في يَدِهِ هذه الوُرَيقاتِ، خائِفَةً، وَجِلَةً، عَيناهَا إِلى أَسفَلُ، وَوَرْدٌ غَضِيْضٌ يُوَشِّي وَجنَتَيها.

أَلا سُقيا لأَيَّامٍ وَلَّت، كانَت أَيَّامَ خَفَرٍ، وحَياءٍ، وعِشقٍ شَفِيفٍ، عَفِيفٍ، كَبِلَّورٍ تَحتَ الشُّعاعِ المَسكُوب!

هَا الذِّكرَى، بِدِفئِها، وشَذاها، تُعِيدُهُ إِلى مَطارِحَ أَنِيسَةٍ، كانَت تَشُبُّ اللَّواعِجُ، فِيها، مِن وَشوَشاتٍ، وتَحلَولِي الأَماسِي مِن قَمَرٍ، وسَكِينَةٍ، ونَداوَة!

وتَتالَت فُصُولٌ حَمِيمَةٌ في بالِهِ الذَّاهِلِ، صَفراءُ، ولو مِن غَضِيرِ الصِّبا، وادِعَةٌ، ولو مِن جَيَّاشِ الهَوَى!

ما يُدمِي القَلبَ، مِن وَلَهٍ، ويَملأُ الحَنايا في غَضاضَةِ العُمرِ يَعصِي، أَحيانًا، على الزَّوالِ، مَهما طالَت الشُقَّة. فَمِنَ الجِراحِ ما لا يَندَمِلُ، ومِنَ الهَمْسِ ما لا يَفنَى صَداهُ، ومِنَ الأَزاهِيرِ ما يَنشُرُ العِطرَ، ويُطَيِّبُ ثَنايا اللَّيلِ، ولو خَنَقَتهُ الأَشواك!

وانطَوَى، في ذاتِهِ، مُتَأَمِّلًا!

هَل، بَعدَ سُرًى مَدِيدٍ، يَعُودُ، لِلفَجرِ، بياضُهُ اللَّياح؟!

هَل، بَعدَ ضَنَى المَسِيرِ، مِن وادٍ مِمراع؟!

والذِّكرَى… هذه الوَخزَةُ الحَيَّةُ، أَكرِمْ بِها، أَتَعُودُ دِفئًا إِلى الحَنايا، ولَذاذَةً إِلى الجَوارِحِ المُنهَكَةِ في هُمُومِ  العُمْر؟!

لَن يَغِيبَ… ذِكْرُ الأَحِبَّةِ، ولو أَبعَدَهُمُ القَدَرُ، وبَذَّرَهُم في مَطارِحِ الأَرضِ، وعلى كُلِّ دَرْب!

لا… لَن يَغِيبَ، فَمَداهُ الأَرحَبُ هذا الفُؤَادُ الضَّيِّق!

لَن يَغِيبَ، لأَنَّ مِنهُ شُعلَةَ الحَنِينِ المُتَّقِدِ أَبَدًا!

وعاهَدَ نَفسَهُ، إِمَّا أَضنَتهُ مَشاغِلُ الوُجُودِ، أَن يُبحِرَ في هذه الوُرَيقاتِ، وبَواقٍ مِثلِها، ويَغُوصَ، في تَلافِيفِها، يَستَخرِجُ الدُرَّ، ويُعِيدُ، لِلَّنَجِيعِ، دَفقَهُ الحَبِيب!

وعادَ مِن غَفلَتِهِ، بَعدَ شُرُودٍ طَوِيلٍ، إِلى الحاضِرِ المُربَدِّ، المُصطَخِبِ، وفي سُوَيداهُ ذُخْرُ اللَّيالِي المِلاحِ، وعلى شَفَتَيهِ ما قالَهُ الشَّاعِرُ، يَومًا:

كَأَنْ لَم يَكُنْ بَينَ الحَجُونِ* إِلى الصَّفا      أَنِيسٌ، ولَم يَسمُرْ بِمَكَّةَ سامِرُ!

__________________

* الحَجُوْن: جَبَلٌ مُشرِفٌ فِي مَكَّة

اترك رد