“صراعات الجيل الخامس” لأميل نعمة خوري

خالد غزال

(كاتب وباحث- لبنان)

أحدثت العولمة انقلابات تاريخية على مستويات متنوعة، طالت الميدان التكنولوجي وثورة الاتصالات والمعلومات بما لم يكن  يتصوره عقل قبل عقود من الزمن. كانت للثورات العلمية نتائج مباشرة في تكوين الدول وموقع السلطة فيها، وتنجح الدول او تفشل بمقدار قدرتها على توظيف هذه التكنولوجيا في تطوير مجتمعاتها. لعل احد نتائج هذه الثورة على الصعيد السياسي يتمثل في بروز قوة مهيمنة عسكريا وتقنيا عرفت كيف توظف هذه التقنيات في تكريس قوتها، هذه القوة ما يدعوها الكاتب بالامبراطورية، والتي تشكل الولايات المتحدة الاميركية احد عناوينها ونموذجها.

يعتبر الكاتب ان إحدى أصعب المسائل تكمن في فهم تركيبة الأمبراطورية بهيكلها العظمي وشرايينها واعصابها وخصوصا دماغها. لقد استطاعت هذه الأمبراطورية ان تمد شبكاتها الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية على مجمل قارات الأرض.  تطورت طبيعة الأمبراطورية لتصبح مخلوقا لا نهاية لسلطته، ولا حدود لقدرته ولا منافسة لرغباته، على ما يشير الكاتب. في المقابل، فإن التكنولوجيا بمقدار ما وهبت هذه الأمبراطورية من قوة، أظهرت انها لا تستطيع ان تؤمن الحماية الكاملة لها، وهو أمر تشهد عليه العمليات الارهابية التي استطاع منظموها استخدام التكنولوجيا نفسها ولكن في السعي الى توظيفها في التمرد وضرب مفاصل أساسية في هذه الأمبراطورية. لا يحتاج المرء الى كبير أدلة على ذلك عندما يستعيد هجمات سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة وما تبعها من هجمات ارهابية في مختلف انحاء العالم، أظهرت ان حفنة من الارهابيين يمكنهم هز عروش انظمة عاتية من خلال توظيفهم لتقنيات بسيطة.

غيرت التكنولوجيا الحديثة من طبيعة الحروب، سواء من حيث طبيعة الأسلحة ووسائل الدمار او من حيث طبيعة تكوين الجيوش وتنظيمها. ما كان سائدا في حروب القرن العشرين لم يعد نفسه في القرن الحادي والعشرين. لعل العالم كله اليوم في سباق مع الزمن ومع الحاجات الى سيادة التكنولوجيا في تطوره وتقدمه. يرتبط ذلك بتطور المعرفة التي يمثل امتلاكها سلطة قوية تعزز الموقع العسكري لمن يمتلكها. يشير الكاتب الى “ان التحولات في الجبهة العسكرية جذرية ولا رجعة عنها. فالروبوتات والذكاء الصناعي يؤمنان الأسس والأدوات لتحويل الحروب التي كنا نعرفها الآن الى صفحة مطوية من التاريخ. والقدرات العسكرية الممكنة، التي ينتجها ويستمر بتطويرها المجتمع الصناعي العسكري، تهدد بتحويل البشرية من وضعها الحالي الى نماذج سياسية واجتماعية لا يعرف احد عنها شيئا”.

اذا كانت التكنولوجيا تمثل خطوات أساسية في تقدم البشرية، الا انها تحمل معها اخطارا في الوقت نفسه، ولعل من طبيعة صراعات الجيل الخامس ان تفادي الأخطار ليس مبسطا سواء في الدول المتقدمة ام المتخلفة. فالدول لن تستطيع منع التنظيمات السياسية المعارضة ولا التنظيمات الارهابية من الحصول على الوسائل التي تمكنها من التمرد والمواجهة من قبيل الحصول على الشرائح الالكترونية او الهوائيات.

اذا كان الكاتب اراد التشديد على التغيرات التكنولوجية التي عصفت بالعالم وتسببت في تراجع قوى كانت عظمى لصالح قوى أخرى، وغيرت من طبيعة الحروب التي عرفتها البشرية، فإنه كان يرغب في الوقت نفسه الى توجيه رسائل الى مجتمعاتنا العربية لتعي المستجدات العالمية، ولتدرك ما انتجته الحداثة على صعيد الثورة العلمية والثورة المعرفية. لا شك ان بحارا تفصل الثورة التكنولوجية والمعرفية بمضامينها الحقيقية عن واقع مجتمعاتنا العربية. أمثلة قليلة تظهر عناصر تخلفنا ومأساتنا المتصاعدة. اذا كان الأنترنت وثورة الاتصالات قد شكلت قفزة في مجتمع المعرفة عالميا، فإن حصة مجتمعاتنا العربية تقع في الحضيض. فالانترنت وما يقدمه من معلومات يوظف في معظمه في وسائل ترفيهية او مبتذلة، ولا تشكل الافادة العلمية والمعرفية منه سوى القليل. وفي ميدان الأبحاث العلمية، تبدو مجتمعاتنا الأفقر، واذا ما أنتجت أبحاثا لها قيمتها فتوضع على الرفوف ولا يستفاد منها. اما الثروات العربية، فهي استنزفت في الوقت الراهن وبات معظمها مستهلكا في الحروب، ناهيك بان قسما أساسيا من هذه الثروات يصب في خزائن الدول الغربية عبر شراء سلاح لا يمكن استخدامه الا في قمع الشعوب العربية واضطهادها، فيما تكمن وظيفة هذا السلاح في ان انتاجه حاجة غربية ماسة في الاستثمارات والوظائف في البلدان المنتجة له. يسيّج هذا التخلف في عالمنا العربي سلطات ديكتاتورية ترى في الوضع الراهن خير وسيلة لتأبيد سلطتها، لان اكتساب المعرفة والتكنولوجيا سيخلق أجيالا من الشباب الذي سيرفض هذا الواقع ويتسبب في التمرد على هذه السلطات، وهو ما رأينا بعضا منه في الانتفاضات العربية الأخيرة. في اي حال كان الاستبداد يجد دائما تربته الخصبة في الجهل والامية والبطالىة وسيادة الثقافة المتخلفة المستندة الى الخرافات والاساطير.

كتاب اميل خوري في جوهره صرخة في وجه مجتمعاتنا العربية التي أخذت من التكنولوجيا مظاهرها وعجزت عن استخدامها في تطوير هذه المجتمعات، وصرخة في العجز عن الدخول في الحداثة وفي العولمة والإفادة من منتجاتها والسعي الى تجنب سلبياتها، وصرخة في العجز عن ادراك موقع المعرفة في التطور والتقدم. لا شك ان ما تشهده المجتمعات العربية من انهيار في بنى الدولة وصعود البنى العشائرية والطوائفية والإثنية لتحل مكان مؤسسات الدولة، والمعبر عنها باندلاع الصراعات الطائفية والمذهبية، سوى أحد نتائج هذا الجهل بالثورة التكنولوجية وكيفية الإفادة من منتجاتها.

لكن الأخطر والأسوأ ان هذا التخلف المريع الذي تقيم فيه مجتمعاتنا يتولى اليوم قيادة الثورة التكنولوجية من خلال التنظيمات الارهابية والأصولية التي نجحت في توظيف هذه التكنولوجيا في تدمير مجتمعاتنا، والارتداد بها الى قرون غابرة. لذا لا يستغربن احد ان تتصدر داعش وأخواتها المشهد الحالي، فهذه التظيمات هي المولود الشرعي لواقع مجتمعاتنا وانظمتنا السياسية.

*****

(*)  ألقيت  في الندوة  حول كتاب “صراعات الجيل الخامس” للكاتب الفلسطيني اميل خوري، التي عقدت  في معرض  بيروت العربي الدولي للكتاب في  14  ديسمبر  2016،  شارك فيها  كريم بقرادوني وامين قمورية، وادارها خالد غزال.

 

اترك رد