خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنان)
شكل الاحتلال – لبنان)لأميركي للعراق عام 2003، فاتحة عودة متجددة للاستعمار الى المنطقة العربية. لعقود خلت، تراجع الاستعمار بصيغته العسكرية المباشرة لمصلحة أساليب أخرى همها السيطرة على الدول من خلال الهيمنة الاقتصادية والاتفاقات التي تضمن مواقع نفوذ، تلبي مطالب المستعمر من دون أن تعرضه لأخاطر المقاومة. منذ بداية العقد الأول من القرن الحالي، خصوصاً في السنوات الست الأخيرة، عاد الاستعمار الى الصيغ المباشرة في وضع اليد على بلدان عربية قامت فيها انتفاضات تحولت الى حروب أهلية هددت مصالح الاستعمار مباشرة. أما الصيغة الجديدة لهذا الاستعمار، فهي قبول تقاسم الدول البلد الواحد بديلاً عن السيطرة الكاملة التي كانت مألوفة في المراحل السابقة.
أعطت الدول الاستعمارية، الغربية منها والإقليمية، لنفسها حجة التدخل المباشر والسيطرة على الأراضي بهدف محاربة الإرهاب الذي استفحل عبر تنظيمات أصولية. اعتمدت هذه الدول النظرية الأميركية التي أطلقها الرئيس جورج بوش في أعقاب هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، حيث أعلن أن أميركا ستذهب الى عقر دار البلدان التي يراها إرهابية لسحقها واحتلالها قبل أن ينتقل إرهابيوها الى الداخل الأميركي.
إن نظرية الردع المسبق باتت الشماعة التي علقت عليها الأطماع الإقليمية والدولية، وأعطتها المبررات لإدخال الجيوش الى البلدان العربية.
تتوزع القوى الاستعمارية اليوم والعاملة في المنطقة على أربع دول تتدخل مباشرة في المنطقة وتقتطع مساحات من الأراضي، هذه القوى متمثلة بالولايات المتحدة الأميركية وروسيا وتركيا وإيران. يمثل العراق وسورية نموذجاً لعودة الاستعمار في صيغته الجديدة. فالعراق عانى ولا يزال من ويلات الاستعمار الأميركي الذي دمر البلاد عام 2003، وأتاح لإيران التدخل المباشر في البلد والهيمنة على قراره السياسي والعسكري. وعلى رغم أن هذا الاستعمار أجبر على الانسحاب تحت وطأة العمليات العسكرية ضده، إلا أنه عاد ليتدخل مباشرة تحت حجة سيطرة الإرهاب المتمثل بتنظيم «داعش» على قسم من الأراضي العراقية، بمشاركة إيرانية هذه المرة، بما جعل العراق تحت النفوذ المزدوج لإيران وأميركا وبالتوافق في ما بينهما. أما في سورية، فالوجود الأميركي بني في صمت عبر إقامة قواعد جوية، تقول المعلومات الاستخبارية أن عددها ست قواعد أقيمت في مطار الرميلان قرب الحدود العراقية، وقاعدة «قرية المبروكة» غرب مدينة القامشلي، وقاعدة «خراب عشق» قرب معمل إسمنت «لافارج»، وفي مدينة «عين عيسى» وهي القاعدة الأميركية الأكبر، وقاعدة كوباني، وقاعدة «تل بيدر».
أما الاستعمار الروسي، فهو الذي يهيمن اليوم في سورية ويتحكم بمصيرها السياسي والعسكري، متبعاً سياسة الأرض المحروقة والتدمير الشامل كما جرى في حلب وما ينتظر سائر المدن. هذا الاستعمار وطد مواقعه في شكل لا يوحي بقرب انكفائه. توجد القوة الروسية في قاعدة حميميم الجوية، وهي الأضخم، كما توجد قاعدة بالقرب من حمص، وقاعدة جوية في طرطوس. وتشير المعلومات الى وجود حوالى عشرين ألف جندي يتمركزون في القواعد، وبدأت أقسام منهم في القتال المباشر، ما يؤكد ذلك الإعلان الرسمي عن مقتل ضباط وجنود روس.
في الإقليم، هناك الاستعمار الإيراني، الذي تتدخل قواه العسكرية في العراق وسورية، فيما يمارس دور دعم لوجستي للحوثيين في اليمن. ينبع التدخل الإيراني في الأصل من مشروع توسعي يطاول المنطقة العربية التي يرى فيها المدى الحيوي للسيطرة وتثبيت النفوذ وزيادة القوة. يتوسّل المشروع الإيراني الصراع المذهبي ويعطي لتوسعه آفاقاً طائفية بما يعطيه مبرر حماية قوى مذهبية معينة. في المقابل، يتبنى آيات الله النظرية الأميركية في الردع، حيث يرى الخامنئي أن وجود الجيش الإيراني وميليشياته في سورية إنما هو للدفاع عن إيران نفسها، ويقول في تصريح حديث له: «ينبغي ألا ننتظر حتى يأتي العدو الى داخل بيتنا لنفكر بالدفاع عن حياضنا، بل يتعين قمع العدو عند حدوده».
في المقابل، برزت الأطماع التركية مجدداً في سورية والعراق، مستعيدة تاريخاً من الاستعمار العثماني الذي يدغدغ اليوم عقل رجب طيب أردوغان. على رغم الادعاءات الفارغة التي دأب أردوغان على إطلاقها عن عدم السماح بمجازر على طريقة مدينة حماه عام 1981، فإن سورية تحولت كلها الى نموذج حماه، ولم يجرؤ على التدخل للمساعدة. لكن تبين أخيراً، أن تركيا تسعى الى قضم جزء من الأراضي السورية تحت حجة حماية حدودها من التوغل الإرهابي، وقد بات جل طموحها وسط التدخلات الأميركية والروسية والإيرانية، أن تحظى بمدينة «الباب»، وهي تسعى الى ذلك بالتدخل العسكري وبالمفاوضات مع روسيا لتمكينها من السيطرة على المدينة.
هكذا تعود المنطقة العربية تحت حجة محاربة الإرهاب، الذي لعبت هذه القوى الاستعمارية دوراً أساسياً في نشوئه وتقويته ودعمه، الى الخضوع لنير القوى الأجنبية التي ستمعن في التدمير والنهب لما تبقى من ثروات عربية.