د. فريدة مغتات
(جامعة مستغانم . الجزائر)
كثيرة هي تلك الروايات العربية التي سلطت الضوء على مأساة الوطن الجريح و الحب و النضال لأجله، إلا أننا في رواية “نساء في الجحيم” لعائشة بنور -(الصادرة في أول طبعة لها عن دار الحضارة-الجزائر 2016) نلمح لمسة متفردة في تناول القضية الفلسطينية خاصة و الصراع العربي الصهيوني، بسرد يتفرد بتقنيات مميزة في خلق تواز سردي و وصفي كتوأمة بين النضال الفلسطيني والثورة الجزائرية من خلال قصص جهاد و استشهاد نساء خلد التاريخ الإنساني أسماءهن كدلال المغربي و مريم بوعتورة و شادية أبو غزال و المجاهدة الرمز الأسطورة جميلة بوحيرد.
ولكن كيف استطاعت الكاتبة أن تجسد أفكارها العميقة في معاناة المرأة و ملامسة الواقع المأساوي للنضال النسوي بين ثنائية وجودية هي الوطن و الحب؟ إلى أي مدى صورت الوطن كوجه القمر الحبيب و المناضلة كنجمة شاعرة، بينهما حب كبير، لا ينفصلان؟
إن لمسات التجديد تتجلى على عدة مستويات في هيكل الرواية: المستوى السردي و المستوى الوصفي و الموضوعاتي و كذا النسيج اللغوي، إلا أننا سنحاول تسليط الضوء على استعمال العتبات و الصور البيانية بدقة جمالية دلالية تخدم الحقل السيميائي للنضال و الثورة و الحب و التضحية و الشهادة.
إن عنوان الرواية يعكس بصدق الأحداث التراجيدية التي تتعرض لها نساء جراء موجة الاحتلال لوطنهم، فيتخبطن في شرك التشرد الجغرافي و التشرد العاطفي بفقدان الحبيب سواء أكان أبا أو أما أو أخا و أختا أو معشوقا أو وطنا ضائعا يختزل كل محبوب، فالوطن هو منازل الأحبة و تراب من سبقونا. ولعل المرأة تتوجع أكثر بجراح المحبوب، كون عاطفتها جياشة و حسها مرهف. لهذا رأت الكاتبة أن تستعمل كلمة “نساء” بدلا من “مجاهدات” أو “شهيدات” أو “مناضلات”، لأن المرأة تتألم حتما و تناضل و لو بأضعف الايمان في سبيل وطنها الحبيب. كما أن كلمة “الجحيم” قوية الدلالة، تختزل كل معاني و ظواهر الحرب بنيرانها و الدمار الذي تسببه، حتى يصير الوطن كحفرة مستعرة تقبر ضحايا ظلمهم الطغيان. و حسب ابن منظور في لسان العرب: “الجحيم هي اسم من أسماء النار، و كل نار عظيمة في مهواة فهي جحيم.”
لهذا فالعنوان كعتبة أولى، “نساء في الجحيم” لا “نساء/ مناضلات في النيران” أو “مجاهدات في الحرب” على سبيل المثال، يساعد أكثر في فهم ما تحوي الرواية من أحداث و مآسي لا تفي بمعناها و مظاهرها إلا كلمتي “نساء” و”جحيم” كما اختارتها الكاتبة بدقة و عناية.
كما وردت مرة واحدة ” لحظة الذهول” (ص 77) كدلالة عن نفس اللحظة “الخرساء”. و هذا التكرار في حد ذاته صورة تعكس مدى الدهشة و الحيرة و التراكم المتداخل لعواطف مجموعة نساء، يحاولن بناء جدار الصمت البليغ في قول كل واحدة من شخصيات العمل الروائي، فما الجحيم إلا جحيم الاحتلال و ما المأساة إلا مأساة التهجير و المنفى و فراق الحبيب بسبب سعير الحرب، لهذا تحاول الروائية استنطاق اللحظة الخرساء بلغة أدبية تعكس إلى حد بعيد حجم الكارثة، لدرجة توحي للقارئ أن الكاتبة نفسها تنتمي فعلا إلى تلك المناضلات البطلات، في الزمان و المكان و الهاجس فتتشارك مع البطلات في أناتهن و معاناتهن و كأنها تعيش معهن و مثلهن تلك “اللحظة الخرساء” و تعيد وصف أسبابها و أحوالها المختلفة، كما تصف بكاء الوطن و نزيف كلومه، فببكاء الوطن جرّاء جحيم الحرب و صرخته المدوية، ترتسم “اللحظة الخرساء” التي تتكرر حوالي 24 مرة في العمل: “و لم أنس جراحي و لحظتي الخرساء (ص 9)”، “…لافتراس اللحظة الخرساء التي حرمتها منها الحياة (ص 23)”، “اللحظة الخرساء (ص 76)”، “هربت مني لحظة الذهول…استوقفتني اللحظة الخرساء (ص 76)” ” و نحن هكذا في اللحظة الخرساء صعق آذاننا دويّ آخر…اعتقدنا للحظة خرساء أننا شظايا متطايرة… (ص79)”، ” عادت اللحظة الخرساء تغلق فمي و تكتم صراخي بداخلي….و صوتي المبحوح قد ابتلعته اللحظة الخرساء (ص 80)”، “…فأسرع إلي ينتشلني من لحظتي الخرساء.. (ص 81)”، “…انتشلني من لحظتي الخرساء ذات يوم أسود (ص88)، “…و أنا في لحظتي الخرساء (ص101)”، “منذ لحظتي الخرساء التي كبلتني و ابتلعت صراخي و أنا أفتش عن الحقيقة…(ص104)”، “بُترت أوصالها أمامي في لحظتي الخرساء و رضيع يبكي من الألم…(ص105)”، ” …يذكرني كلاجئة في العيد بلحظتي الخرساء (ص129)”، “تنتشلني من لحظتي الخرساء…(ص152)”، “سكن الخوف و الريبة بداخلي منذ لحظتي الخرساء (ص 195)، “…و تبتلع آلامي و وجعي و انكساري و لحظتي الخرساء (ص 198)”، “أحضن ذاكرتي و لحظتي الخرساء بين ضلوعي (ص 199)،” منذ لحظتي الخرساء (ص 207 )”…يطاردني كلحظتي الخرساء هنا في اسبانيا (ص 211)”، “و لم أستطع التحرر منها و من لحظتي الخرساء و أنا أستعيد ذكرياتي…(ص 215)”، ” هاجس الخوف و الضياع كان يلازمني منذ لحظتي الخرساء…(ص219)، ” و أتأملها كوقفتي مع لحظتي الخرساء (ص 223)”، ” …ارتجافي و خوفي و ضجري و لحظتي الخرساء..(ص 225)”، ” …جثمت على كاهلها اللحظة الخرساء (ص238)”.
في الصفحة الخامسة، تبث الكاتبة إهداءها لشهداء و شهيدات السلاح و القلم في الجزائر و فلسطين بالخصوص، ثم تهدي العمل إلى”كل شهداء الحرية”، بنزعة إنسانية، لأنها واعية بأن كل الأحياء ما هم إلا مشاريع شهادة أو شهداء أحياء ينتظرون لحظة انتصار السلام على وجه الأرض، أمّ الإنسانية جمعاء. و بعد الإهداء مباشرة، انتقت الروائية من أروع ما قيل في تأبين و رثاء الشهيد الكاتب “غسان كنفاني”، هي لحظة تلقي خبر انفجاره كما تلقاها محمود درويش فكتبها بحروف صدق و غضب و أسى في رثاء صديقه. و يمكن تأويل هذا كعتبة نصية موازية تؤشر على “اللحظة الخرساء” كلحظة غضب و انتفاضة و قوة.
جاءت عنونة الفصول و هي ثمانية عشر عنوانا، كعتبات ترصد معاناة الاحتلال و سياسة التهجير و التنكيل و حرق الأراضي، تربط بينها دلالة الحب حد التضحية و الفناء، الحب الذي يحرك النضال بالسلاح و القلم و النفس و النفيس.و كما أشرنا من قبل، تتكررعبارة “اللحظة الخرساء” في كل الفصول، و التكرار فيه بيان و بلاغة و قيمة دلالية للتأكيد على مدى خطورة الواقع الاحتلالي و ما جره من تهجير و منافي و حنين لا ينتهي.
كما أن النص غني بالصور البيانية ذات البعد الوجداني، التي تحرك إنسانية أي قارئ متقن للغة الضاد، نذكر على سبيل التمثيل لا الحصر هذه المجازات الموحية: ” عبقة ببقايا أحلام هاربة استحضرتها من ماض حزين” (ص 23)، ” النضال هو حضن الثورة” (ص 31)، “أنا تزوجت الوطن” (ص 53)، “وسط جحيم المعارك الضارية” (ص60)، “لملمت شذرات تفكير هرّبت مني لحظة الذهول” (ص 77)، “الخراب الضارب أطنابه يرثي المدينة” (ص100)، ” اليوم عكا حزينة و شاحبة” (ص 101)، ” و ذاكرة ثكلى تتحسس الزفرات الموجعة من حين لآخر” ( ص 119)، “تبا للحرب التي سرقت أحلامنا الصغرى و الكبرى” ( ص 137)، “و رميت جسدي على سرير الذكريات و قلت هيت لك أيها الحلم” (ص120)، “…و لا الأزهار قد ابتسمت في مزهريتي” (ص162).
من جهة أخرى وفقت الروائية إلى حد بعيد، يضرب في أعماق “الواقعية التاريخية”، فقد سردت قصص استشهاد تاريخية واقعية، ووصفت الشخصيات و الأماكن بتجلّ و تفاصيل تعيد بناء أماكن التعذيب و التنكيل و كذا الملاجئ و المنافي، كما تصف بعناية أبطال النضال و الحب، و توشح نسيج نصها بروائع تتماشى مع الأحداث و تلازمها، كمقاطع شعرية لمحمود درويش: ” قصيدة بطاقة هوية ص 130-134، و ص 248 أبيات من مديح الظل العالي، ص 255″، و كرسائل غادة السمان لغسان كنفاني و كأغاني فيروز،عاشقة القدس و صوت فلسطين بشجنها و حزنها و دفئها ” (ص31، 204،244،234،249، 263)، كما أبدعت الكاتبة، في اقتناء نهاية تشبه البداية، ألا و هي مقال لغادة السمان في وداعية رثائية عن شهيد الوطن و الكلمة الحق الأديب “غسان كنفاني”، و هكذا نجد تشابها بين ما كتب درويش في البداية و ما كتبت غادة في النهاية، فجاء العمل الروائي مؤكدا منذ بدايته إلى نهايته أن الشهداء لا يموتون و أن القضية الفلسطينية هي قضية إنسان يحلم بحريته كأي إنسان، و يناضل لأجلها بكل إيمان و حب، و ما غسان كنفاني أو ناجي العلي إلا عينة ممن سبقوهما و ممن سيلتحقون بها حتما في مسيرة الحب و النضال و الشهادة.
في الأخير، يمكننا الجزم أن رواية “نساء في الجحيم” استنطقت التاريخ و اللحظة الخرساء، مجسدة معاناة الوطن العربي الذي لن يشفى من جراحه و حرائقه إلا بحرية كل أقطاره، بدءً من فلسطين، معطوبة قلب و مجروحة حب منذ 1948.