سفر تاريخي موثوق يستوفي شروط الرواية التاريخية العلمية المدققة
ضمن فعاليات معرض بيروت العربي الدولي للكتاب في البيال عقدت ندوة حول كتاب: “السعودية ولبنان 1943 – 2011: السياسة والاقتصاد”، بدعوة من العميد الدكتور عبد الرؤوف سنّو ودار الفرات للنشر والتوزيع، أدارها العميد الأسبق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية ومدير ضمان الجودة في الجامعة الإسلامية أحمد حطيط، وشارك فيها العميد الأسبق لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعة اللبنانية جوزيف لبكي، وعميد معهد العلوم الاجتماعية وكلية السياحة الأسبق في الجامعة اللبنانية محمد شيا، ونائب رئيس الجامعة الأنطونية وعميد كلية إدارة الأعمال فيها دكتور جورج نعمة. في ما يلي نص الكلمات كاملة.
د. أحمد حطيط
نجتمع في هذه العشية لمناقشة أحدث مؤلفات الصديق، المؤرخ الدكتور عبد الرؤوف سنّو، وهو كتابه الموسوم:” السعودية ولبنان / السياسة والاقتصاد 1943- 2011″، الذي صدر، في مجلدين، عن دار الفرات للنشر والتوزيع، سنة 2016.
والعميد سنّو – الذي جمعتني وإياه زمالة، في قسم التاريخ بكلية الآداب في الجامعة اللبنانية، نافت على ربع قرن من الزمن – ليس أستاذا لتاريخ العرب الحديث والمعاصر، فحسب، بل هو باحث مشهود له في تاريخ هذه الفترة؛ يتقصى أحداثها ويتابع قضاياها. وهو في هذا السبيل، يغوص في المصادر الأصلية، مستكشفا خباياها، مستطلعا رواياتها، كما يستعين بالدراسات الحديثة، مفيدا من عرض آراء الباحثين، مناقشا إياهم إذا شطّ بهم المزار، متفقا معهم إذا لم يجانبوا الصواب، حتى أصبح يُنجز عليه القول: ” إنه إبن بجدتها”.
لعل أهمية الكتاب موضوع هذه الندوة تكمن في أمرين اثنين:
الأمر الأول، أنه صدر في هذا الزمن الضائع بين ظلامية تتفشى وسياسات دولية وإقليمية تتصارع على أرض هذا الشرق المعذّب، وتتناوب على تدمير شعوبه وبلدانه وتراثه وحضارته وسرقة ثرواته؛
والأمر الثاني، أنه خرج الى العلن في لحظة تاريخية شهدت – وربما لا تزال تشهد – تأزماً في العلاقات السعودية اللبنانية، لا تأتلف ومسار العلاقات الممتازة بين البلدين، منذ عشية استقلال لبنان، حين بادر الملك عبد العزيز الى الإستعانة بالمستشارين اللبنانيين، من أهل الفكر وحسن الإدارة، للإفادة من خبراتهم في تطوير بلاده وتحديثها .
في كتابه هذا، يرصد عبد الرؤوف سنّو مواكبة السياسة السعودية لأزمات لبنان المتأتية، أساساً، من تركـيبته الطائفية، والتحولات الديمغرافية فيه، ومن موقعه الجيوسياسي، الذي جعل منه ساحة لحروب إقليمية ودولية، ومن أبرزها الصراع العربي- الإسرائيلي، وما تخلله من اعتداءات إسرائيلية متمادية على أرضه.
وبعيد اندلاع “حرب لبنان” عام 1975، كما يسميها المؤرخ سنّو، بذلت السعودية مساعي حثيثة لوأدها، وتوصّلت الى إنشاء تكتل دولي وعربي وإقليمي، برعايتها، نجح، الى حد كبير، في إخراج لبنان من محنته، واستعادة سلمه الأهلي، عام 1989، وفق ما سُمي بـ” اتفاق الطائف”، الذي استحال دستوراً للبنان، وقد أسهمت المملكة، بفعالية، بإعادة إعمار لبنان، من خلال مساعداتها السخيّة ودعم اقتصاده، ما جعلها مرجعية يحسب لها حساب في المعادلة السياسية فيه. كما يتوقف الكتاب ملياً، عند التنافس السعودي- السوري، والسعودي- الإيراني، على النفوذ في لبنان والظروف التي أدّت الى انكفاء المملكة عن لبنان، عام 2011.
إن الإحاطة بالسياق النظري والتاريخي للمسائل الرئيسة التي عرض لها الصديق عبد الرؤوف، في كتابه، وما توصل إليه من مقاربات قابلة للنقاش، يضيق بها الدور المناط بي كمدير لهذه الندوة، لذلك سأحيلها تباعاً، وفق ما جاء في برنامج الندوة، الى كل من السادة العلماء:العميد السابق لكلية الآداب في الجامعة اللبنانية الدكتور جوزف لبكي، المؤرخ، والخطيب المفوّه، والعميد السابق لكلية السياحة في الجامعة اللبنانية الدكتور محمد شيا، الباحث والمفكر في قضايا الإجتماع اللبناني والعربي، والعميد الدكتور جورج نعمة، نائب رئيس الجامعة الأنطونية وعميد كلية ادارة الأعمال فيها.
د. جوزيف لبكي
يقدّم الدكتور عبد الرؤوف سنّو كتابه “السعودية ولبنان السياسة والاقتصاد بين 1943 و2011″، كدراسة مستفيضة وشاملة في جزئين يعرض فيهما العلاقات السياسية والاقتصادية ومسارها التاريخي، وكذلك المصالح المشتركة، ودور الجالية اللبنانية في نهضة السعودية. ويتناول الكتاب بالتفصيل التجارة والاستثمارات والسياحة السعودية إلى لبنان، والحج اللبناني إلى الديار المقدسة الإسلامية.
إنّه كتابٌ يوثّقُ مرحلةً تاريخية وحديثة لمجملِ الحضورِ السعودي في السياسة اللبنانية حتّى العام 2011. وقد عُهد إليّ بالتعليق عن المرحلة الممتدة من العام 1943 حتّى اتفاق الطائف العام 1989 وعودة السلام إلى لبنان.
كان لا بدّ للمؤلف من أن يشرح بإيجازٍ ثوابت السياسة الخارجية للمملكة السعودية في الدائرة العربية (فلسطين ومصر وسوريا والخليج) وانعكاس هذه السياسة على سياسة المملكة الخاصّة في لبنان الذي يشكّل جزءًا من العالم العربي. وقد َضَعَ الدكتور سنّو فصولًا لمراحل تاريخية تبدأ وتنتهي بسنّوات مفصلية كان لها تأثيرُها العميق والجوهري على سير الحياة السياسية في لبنان.
وقد تميّزت العلاقات بين السعودية ولبنان منذ استقلاله العام 1943 حتى العام 1975 بالنقاط التالية:
أ – دعمٌ سياسيٌ لاستقلال لبنان وقضاياه في المحافل العربية والدولية بقطعِ النظر عن العهود والحكومات التي تغيّرت في المملكة أو في لبنان. وقد اعتبرت المملكة السعودية إن لم يكن لبنان، فكان يجب إيجادُهُ، فهو حالةٌ عروبيةٌ خاصّةٌ في الشرق الأوسط بنكهة غريبة، وأنموذجٌ للتعايش والالتقاء بين الإسلام والمسيحية. وهذا صحيح، إذ إنَّ أخوّةً عميقة الجذور مميّزة تربطُ بين البلدين من خلال تبادلِ المصالح، وتولّي بعض اللبنانيين مناصبَ استشارية في المواقعِ السياسيةِ والإداريةِ والدبلوماسيةِ والاقتصاديةِ… وقيام الملوك والأمراء السعوديون بزيارات متعدّدة إلى لبنان، وكذلك زيارات رؤساء لبنان ومسؤولوه وقياداتُه المملكة العربية السعودية.
أ- لم تتدّخل السعوديةُ في شؤون لبنان الداخلية بل دعمت صيغةَ تعايش الطوائف ونظامَ لبنان، ولم تشجِّعْ اندماج لبنان في الوحدة العربية التي طالبت بها الكتلة الإسلامية، فركّزتْ على أن يبقى لبنان وطناً مستقلاً واحداً للجميع وضرورة توحّد عناصره الداخلية. ورفضت أن يبتلعَ أحدٌ لبنان. وكذلك دعمته كدولة ذاتَ سيادةٍ عندما أُنشئت جامعة الدول العربية. والخلاصة أن سياسةَ السعودية كانت الحفاظَ على استقلال لبنان وإبعاده عن الانصهار في وحدة عربية خوفاً من سيطرة البيت الهاشمي وتحكّمه بها.
ب- إن التغيّرات التي حصلت في الشرق الأوسط منذ قيام الكيان الصهيوني، وظهور الناصرية في مصر، وقيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا، وحربي 1967 و 1973، والنشاط الفلسطيني المسلّح، وحركة فتح والمقاومة الفلسطينية، ومعاهدة كامب ديفيد، وأحداث 1975، التي عُرفت بحرب الآخرين على لبنان، والغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982، والأزمات السياسية والأمنية فيه، والتدخل السوري العسكري والسياسي عام 1976، أثرّت بشكل كبير جدّاً ليس في تاريخ لبنان فقط، بل سياسة المملكة، إذ: تدخّلت لتدعم الفلسطينيين ومنظمة التحرير الفلسطينية التي شكّلت خطرًا على كيان لبنان وطوائفه والسيطرة على الدولة اللبنانية، حيث أن السعودية لم تتمكّن من جمع النقيضين هما الحفاظ على سيادة لبنان من جهة، وحرية النشاط الفلسطيني المسلّح المنطلق من أرض لبنان ضد إسرائيل. فضلًا عن مساعدة الفلسطينيين ماليًّا وبالأعتدة العسكرية ضد إسرائيل اعتقادًا منها أنّها تطوِّعهم، فإذا بهم يتّجهون للتعامل مع الحكم السوري المسيطر عسكرياً على لبنان نتيجة ضعف الحضور العسكري السعودي فيه.
– حاولت إستعادة السلم الأهلي في لبنان، ولعبت دورًا في إيجاد مخارج في مؤتمرات جنيف ولوزان والطائف، مفضّلة دائمًا الدبلوماسية الهادئة والتوافقية على الخيارات العسكرية، إذ لم تكن تملك أيّة قوّة عسكرية في لبنان، فضلًا عن عدم رغبتها أصلًا بفرضها. غير أنّها كانت على استعداد دائم لتقديم المساعدة والتواصل بهدف إيجاد الحلول عند انسداد الأفق، من دون أن تتدخل كغيرها من دول المنطقة في السياسة الداخلية اللبنانية. واكتفت بالمحافظة على علاقات جيّدة مع مختلف الأطراف في لبنان من مسلمين ومسيحيين. وابتعدت عن الصدام مع السوريين أو إغضابهم، ففضَّلت الانكفاء في بعض الأحيان.
والحقّ يُقال، إن المملكة العربية السعودية خاضت مواجهاتٍ دبلوماسيةً مع سورية لإرغامها للقبول بتسوياتٍ لأزمات لبنان أو انسحاب وحداتِها العسكرية منه. فأيّدت مثلًا اتفاق 17 أيّار 1983 بصمت، بحجة أن اللبنانيين يدركون مصالحهم أكثر من غيرهم قاصدةً بذلك سورية.
وفي مجمل عرضِ الدكتور سنّو، يتبيّن أنّه لم يكن للسعودية استراتيجيةٌ أو مشروع جيوسياسي تجاه لبنان ما اضطرها أن تنكفئَ سياسيًا واقتصاديًّا أحيانًا، وتكتفيَ بمساعدات لإعادة الإعمار ودعم الاقتصاد باستثناء دورها الفاعل في مؤتمر الطائف سنة 1989، وانهاء الحرب اللبنانية. وقد أبدع الدكتور سنّو في شرح مقدّمات وأسباب هذا المؤتمر والدور الذي لعبته السعودية بشخص الرئيس رفيق الحريري.
نخلص لنقول إن كتاب الدكتور سنّو يُعتبر أفضلَ كتابٍ علميٍ موسّع ودقيق وشامل وموضوعي يستند إلى التوثيق وتحليل أحداث المنطقة العربية وتاريخ لبنان. ويعتبر هذا الكتاب ضمن سلسلةٍ من مؤلفات الدكتور سنّو ذا قيمة علميّة موثوقة “حرب لبنان 1975 – 1990″، و”لبنان الطوائف في دولة ما بعد الطائف”، وغيرها.
أمّا كتابه هذا، فضروري لكل مَن يريد أن يعرف تاريخ لبنان والسياسة في الشرق الأوسط، كتبه مؤرِّخٌ عَلَمٌ بثاقب رأيه، وسعة علمه، ورجاحة عقله، لدرجة أننا كنّا نتمنّى ألّا نعرف شيئًا عن تاريخ هذه المنطقة لنعود فنعرفَهُ عن يدِهِ لما فيه من تقميش وتبويب وبراهين وموضوعية ودقّة.
سَلُمَ لنا فكرُك أيُّها المؤرّخ الكبير.
د. محمد شيّا
كما أن المصلح هو العنوان الحقيقي للإصلاح، كذلك الكاتب هو العنوان الحقيقي لكتابه. يصحّ ذلك في مسائل عدة وكثيرة في الواقع، لكنّه يصحّ وبالدرجة الأولى في مسائل الكتابة والبحث والتأليف عموماً وارتباطها بصاحبها، أي بالكاتب والباحث والمؤلف. والمجرّبون في هذا المجال يعرفون أن العودة تكون في البحوث للكاتب قبل الكتاب، وللباحث قبل البحث، وللمؤلِف قبل المؤلَف. بل إن جهات أكاديمية عدة لتشترط أن يكون لمؤلف العمل الذي تعود إليه أو تستشهد به ثبت بأعماله الأخرى في الباب ليظهر باع المؤلف الطويل في الحقل الذي يخوض غماره أو يبحث فيه.
هنا أيضاً، بل تحديداً، وقبل قراءة هذا السفر التاريخي الضخم، تظهر براعة المؤرخ الدكتور عبد الرؤوف سنّو، بل ريادته. وما كتابه هذا الذي أمامنا غير بيان ٍ آخر إضافي للريادة على مستوى الموضوع، ولغنى في المادة يكاد لا يصدق، وللبراعة في التحليل واستخلاص النتائج؛ كل ذلك وفق منهجية تاريخية موضوعية، أكان في إسناد المعطى أو الخبر إلى مصادر ومراجع من كل جهة، أو في الحيدة والنزاهة العلمية اللتين ما أنفك المؤرخ سنّو يظهرهما في كل مقالة أو بحث أو مؤلف يتحف المكتبة العربية بها. بل أنت لتحسدُ المؤرخ الصديق على هذا الصبر أو الجلَد في متابعة المعلومة في غير مصدر ومرجع، وفي إتحافنا بالتالي بأعمال ضخمة تظن لوهلة أن مركز أبحاث ممتازاً هو من تكفل بهذا العمل، إذ لا يعقل أن يؤتى لفرد مفرد واحد ذلك المقدار من الاتساع والعمق والشمول والاتساع الزمني والدقة في التحليل والموضوعية في الاستنتاج التي نراها في أعمال العميد سنّو، وبخاصة في العمل هذا، كما في عمله الضخم السابق، “حرب لبنان”، والذي حاز مستحقاً على جائزة زايد للإبداع في باب التأليف التاريخي قيل سنوات قليلة.
هوذا ما تراءى إلى ذهني وأنا أمرّ بفصول كتاب العميد سنّو الجديد وقبل الدخول في التفاصيل. فالكتاب الصادر قبل بضعة أسابيع، عن دار الفرات، بيروت، 2016، هو في جزئين، يتكونان من اثني عشر فصلاً، ويحبّران حوالي ألف صفحة من القطع الكبير، إلى خمسين صفحة أخرى خصصت للمسارد والفهارس والمصادر، بلغات أربع، العربية، الألمانية، الفرنسية، والإنجليزية. ويعرف من له بعض الخبرة في التوثيق مدى صعوبة أن تدير أو تضبط بضع صفحات من المصادر والمراجع، فما بالك بخمسين صفحة ونيّف من التوثيق الدقيق، وهو العارف أن عمله سيكون تحت مجهر المراجعة والتمحيص بغية نقده وربما انتقاده أيضاً، وهما أمران عاديان ومألوفان في الوسط الثقافي والأكاديمي. فلله درّك يا صديقي لهذا الجهد التأريخي الضخم المبذول في منهجية وموضوعية لافتتين. فبوركَ نتاجاً مثمراً طيّباً من عالم مؤرخ كرّس وقته وجهده، بل حياته، للتقصي عن الحقيقة أينما وجدت، والأكثر أهمية ربما، بروح من الخير لا الشر، والجمع لا الطرح، والوصل لا الفصل، والوحدة لا التمزيق، ونشر الكلمة الطيّبة؛ بهذا المعنى أيضاً يجب أن يقرأ كتاب الصديق العميد سنّو، بل رسالته إذا صح القول. وما أحوجنا في عصر الشر والطرح والفصل والتمزيق الذي نحياه إلى ما ومن يذكّرنا كما فعل العميد سنّو بأن المساحات الخضراء في حياتنا اللبنانية والعربية الراهنة لا تزال أكبر من مساحات اليباس والكراهية والعداء المتبادل. ذلك هو الجانب السياسي-الأخلاقي في عمل العميد سنّو، إضافة إلى الجانب التأريخي العلمي، والمؤلف لا يبارى في هذا الباب.
2
نعود إلى مضمون هذا الكتاب بل السفر التاريخي الضخم لأقول، وبقدر ما يسمح زمن هذه المناسبة الاحتفالية، إني عملت شخصياً على موضوع نجد والحجاز ثم ما غدا المملكة العربية السعودية في عملين لي، أولهما من خلال عملي على تراث الأمير شكيب أرسلان وقد كان صديقاً مقرباً من أمراء نجد والحجاز واليمن في العشرينات والثلاثينات، وكان ناصحاً للشريف حسين أن لا يثق بالإنجليز وسياستهم ووعودهم له وظهرت هذه التفاصيل في كتابي “الأمير شكيب أرسلان، مقدمات الفكر السياسي”، الذي صدر أولاً عن معهد الإنماء العربي في بيروت، سنة 1983 ثم في طبعة ثانية بعد ثلاث سنوات، ، ثم في طبعة ثالثة عن الدار التقدمية، ورابعة أخيرة في الجزائر قبل بضع سنوات. أما عملي الثاني عن المملكة العربية السعودية فكان ترجمتي لكتاب عميد المستشرقين البريطانيين لسلي مكلفلين، “إبن سعود، مؤسس مملكة”، الصادر عن شركة المطبوعات العالمية، بيروت، سنة 1993. وهو كتاب مثير غطى المسيرة غير الاعتيادية لعبد العزيز في توحيد أجزاء الجزيرة العربية في مملكة عربية ممتدة، وقد قارنه مكلفلين بعظماء آخرين في التاريخ، اخترقوا العادي والمألوف وكان خطأ واحد، والتعبير لمكلفلين، كفيلاً أن يسقط ما راكموه من بنيان وإنجازات.
في إشارات لا أكثر على كتاب العميد سنّو، نتوقف عند الأمر الذي ما انفك المؤلف يشير إليه في غير مكان من عمله وهو العلاقة الخاصة التي جمعت الشقيق الكبير العربية السعودية إلى الشقيق الأصغر، والأحب ربما، لبنان. فمسيرة العلاقة الطيّبة الخيّرة بين البلدين منذ الأربعينات علاقة صاعدة وعدت بكل خير متوقع ووفت بالوعد ذاك في كل محطة: من دور العربية السعودية في معركة استقلال لبنان سنة 1943 إلى آخر حلقات هذا الدعم وتمثّلت بيد الخير والعون والمساعدة التي مدّتها السعودية إلى اللبنانيين غداة العدوان الأسرائيلي سنة 2006 والدمار الهائل الذي نتج عنه.
بيد أن اللافت دائماً في مساعدة العربية السعودية للبنان، في كل المراحل، وهو ما أشار إليه المؤلف باستمرار وبالتفصيل الدقيق جداً، هو حرصها أن تكون المساعدة للبنانيين جميعاً دونما تمييز لجهة أو حزب أو طائفة أو مذهب. هوذا ديدن العربية السعودية منذ بدء علاقتها التاريخية الطويلة بلبنان. ويلفت حقاً ما نقله المؤلف عن يوسف سالم الذي كان في عداد وفد لبناني قابل الملك عبد العزيز في نيسان 1944. إذ التفت مؤسس المملكة في اللقاء ذلك إلى رياض الصلح، وفق رواية يوسف سالم التي وثقها المؤلف (الجزء الأول، ص 110) وقال “إسمع يا رياض، أوصيك بالمسيحيين في لبنان، يجب أن تحافظوا عليهم محافظتكم على أبناء دينكم وأكثر؛ فلولاهم اما كان لبنان”. أكثر من ذلك يضيف المؤلف في الصفحة نفسها: “وبسبب موقف لبنان المتحفظ من جامعة الدول العربية العام 1944، دعم الملك عبد العزيز وجهة نظر رئيس الحكومة رياض الصلح بأن انخراط بلاده في وحدة عربية هو مخالف للميثاق الوطني.”(نفسه، 110) وقد ترجمت السعودية، يضيف المؤلف، مواقفها العملية من لبنان مطلع الأربعينات بدعمه للحصول على استقلاله المطلق، وقام بكل مسعى ضروري لإبعاد التهديد الفرنسي يومذاك وقال الملك عبد العزيز في كلمة شهيرة له “من مسّ لبنان فقد مسّ نجد.” (نفسه، ص 111).
هذان الموقفان، والكثير الكثير مما يشبههما هو ما جعل اللبنانيين، كل اللبنانيين، من كل الاتجاهات السياسية والمذهبية، من اليمين إلى اليسار، ومن السنة إلى الشيعة إلى الدروز إلى الموارنة إلخ، يفتحون قلوبهم للمملكة إذ شعروا بالملموس، وبالأعمال قبل الكلمات، أن المملكة لا تريد غير الخير لبلدهم، وأنها لا تميّز في ذلك بين لبناني وآخر.
أفاض المؤلف بالتفصيل في استذكار المحطات تلك، واحدة واحدة، وفي استرجاع تفاصيلها ومعطياتها وحجم المساعدة السعودية للبنان، في كل محطة من محطات تاريخه الحديث، المؤلمة والمفجعة قبل السعيدة أو الجميلة. وفي ظني أن ما كان يدفع مؤسس العربية السعودية، كما سائر أشقائه الذين تولوا القيادة من بعده، إلى المواقف المحبة تلك ليس الإخاء والتضامن العربيين فقط، وإنما إلى ذلك عاملان إضافيان مهمان برأيي، أولهما ما وجده مؤسس المملكة عياناً وبالملموس من إخلاص عدد من المستشارين اللبنانيين الذين كانوا إلى جانبه منذ الثلاثينات وطوال فترة الأريعينات، وأولهم قاطبة الأمير شكيب أرسلان ثم أمين الريحاني، وكيف عملا على محاولة توحيد صفوف أمراء الحجاز ونجد والخليج خلف مشروع الملك عبد العزيز الاستقلالي والتوحيدي، ثم في بضع عشرات من اللبنانيين المجرّبين والمتخصصين الذين وضعوا خبراتهم الديبلوماسية والفكرية والتربوية والاقتصادية والتنظيمية في خدمة مشروع عبد العزيز الاستقلالي الصاعد. ولا يظنن أحد أن غاية أو منفعة ما كانت تقود مواقف اللبنانيين أولئك، فقد كانت المملكة تمرّ في الحقبة الطويلة تلك بأصعب الظروف المالية والسياسية. كانت مواقف اللبنانيين المنخرطين في مشروع الملك المؤسس يومذاك، وعلى عهد كبارهم في كل حين، منطلقة من شعورهم بالأخوة العربية أولاً ومن احتضانهم لكل دعوة عربية استقلالية حديثة. وهو ما مثله الملك المؤسس عبد العزيز المقتدر يومذاك. هوذا ما فعله الحاج حسين العويني ونجيب صالحة والديبلوماسي المحنك إبن عبيه فؤاد حمزه الذي كان سفيراً لعبد العزيز في لندن في إبان أشد لحظات الصراع مع الصهاينة على فلسطين وكان أيضاً وكيلاً للخارجية السعودية. ذكر المؤلف ذلك غير مرة، ولكن كان بودي أن يتوسع في ذلك أكثر ليبعد عن اللبنانيين، وبخاصة يومذاك، أية تهمة أو افتراء بمحاولة الانتفاع أو الكسب في علاقتهم الأولى وكذلك اللاحقة بالمملكة العربية السعودية، كما ببلدان أخرى بل بسائر بلدان الجزيرة العربية، من اليمن إلى الكويت فغيرهما من البلدان العربية الخليجية الشقيقة. كان اللبنانيون في البلدان تلك، وفي الأيام الصعبة الأولى، يؤدون عملاً وطنياً قومياً عربياً بامتياز. فهم السعوديون والكويتيون والإماراتيون والقطريون وسائر الزعماء الخليجيين هذا الملمح بدقة فبادلوا اللبنانيين الإخلاص بالعرفان بالجميل، فكانت قصة العلاقة الخاصة المتميزة بين لبنان والعربية السعودية وبلدان الخليج العربي الأخرى – وفي الحقيقة فإن قصة حياة كل واحد من اللبنانيين الرواد أولئك هي ملحمة بحد ذاتها، وتستحق أن تجري الإضاءة على تفاصيلها.
3
تحتاج هذا الملامح التي أضاء عليها الصديق المؤرخ عبد الرؤوف سنو إلى أكثر من هذه المحطة البروتوكولية السريعة كيما يؤتي عمله الضخم ثماره، وهو لن يكتفي كما اعتقد بهذه الإطلالة البروتوكولية.
بورك عملك صديقي العميد سنّو، ومحظوظة بالتأكيد العلاقات العربية السعودية أن تجد فيك، وفي أمثالك، من يملك هذا الصبر والجلد العلميين لتقديم سفر تاريخي بهذا الحجم موثوق ويستوفي شروط الرواية التاريخية العلمية المدققة.
د. جورج نعمة
نلتقي في هذه الأمسية العلمية والثقافية لنشهد معا اطلاقَ وتوقيعَ كتابِ “السعودية ولبنان، السياسة والاقتصاد” كتابٌ قرأناه وسيقرأه اللبنانيون والمعنيون بتاريخ وطننِا وعلاقاتِه السياسية والاقتصادية مع شريكٍ عربي كان له دورٌ أساسيٌ ومفصليٌ في العديدِ من الاستحقاقاتِ والتطوراتِ التي شَهِدَها وطنُنا منذ استقلالهِ وحتى السنواتِ القليلةِ الماضية، قراءةٌ في التاريخِ الحديثْ والمعاصر تناولت العديدَ من المحطاتِ والاشكالياتِ، ووفّرت تحليلاً اقتصادياً يقتضي الرجوعُ اليه في الحاضرِ وفي المستقبل، إن أردنا السيرَ بمشروعٍ نهضويٍ فعليٍ وواقعي يقيّمُ كافةَ مراحلِ وطننِا لناحية بُنيتِه الاقتصادية وظرفهِ المتغير باستمرار بفعلِ مستجداتِ المنطقةِ والداخلْ.
لقد عانى لبنانُ وشعبَهٌ في السابقِ من الكثيرِ من التدخلاتِ والاستعمارِ والانتدابِ والأزمات التي كان لها وقعُها الاقتصادي القوي، فاستفادَ حينا من ظروفٍ اقليمية عَمِلَت لمصلحةِ اقتصاده الوطني وترنح أحيانا تحت وطأةِ انقساماتٍ وحروبٍ عَصَفَت بكيانهِ وبعيشه الواحدِ الداخلي وغَذَت انقساماتُه الداخليةُ القائمةَ بسبب تنوعِ مكوناتهِ وتقاسمِ السلطة فيه منذ ما قبلَ انشاءِ دولتِه ولا تزال هذه الصعوبات قائمةً ومؤثرةً حتى يومِنا هذا.
لقد نَجَح المؤلفُ سنّو من خلالِ فصولِ كتابِه السعودية ولبنان بعرضِ وتفصيلِ تاريخٍ طويل من العلاقاتِ الاقتصاديةِ بين المملكةِ العربية السعودية ولبنان، وتطرق كتابُه الى مستجداتٍ ومتغيراتْ أثرت في العديدِ من قطاعاتِه الاقتصاديةِ، انتاجيةٌ كانت أم خدماتيةْ، وشملت الاستثمارَ والاستهلاكَ، العلاقاتِ المصرفيةِ والودائعْ، السياسةَ الماليةَ والسياسةَ النقديةَ، العمالةَ والهجرةَ، التجارةَ والصناعةَ والزراعةَ، الخدمات، والسياحة، وقد شملت تغطيةَ فصوله العديدَ من المؤشراتِ الماكرو اقتصاديةْ كميزانِ المدفوعاتْ والميزان التجاري والنموْ الاقتصادي وسياسةْ سعر صرف الليرة اللبنانية وعلاقتَها بموجوداتِ وودائعِ القطاع المصرفي اضافةً الى دراسةٍ مفصلة لمكوناتِ التبادلْ التجاري بين البلدين عبرَ العقودْ وتأثرِ العلاقات بالنموذج الاقتصادي المتبع ومتغيراتِه الظرفية وتأثره بحروبِ وأزماتِ دولِ المنطقةِ التي أتت ايجابية في بعض الأحيان وسلبيةً في أحيان ومحطاتٍ أخرى.
لقد قام المؤلفُ بعرضٍ تحليليٍ لأبرز المحطاتِ الاقتصاديةِ المفصليةِ في تاريخِ لبنان وقد نجح من خلالِ عرضِه في تقديم بياناتٍ ومعلوماتٍ وتحاليلَ ستساهم في فهمٍ شاملٍ ورسمِ صورةٍ عامةٍ ومفصلةٍ يمكن الرجوع اليها في اطارِ عملٍ وطنيٍ يهدف الى تخطيطِ مستقبلٍ لاقتصادِ لبنانْ، كذلك الأمرُ لباحثين يعنون بالشأنِ الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، في بلدٍ قلَّ فيه وللأسف الانتاجُ العلميُ والثقافيُ وغابت فيه الاحصاءاتُ المركزيةُ، مما أدى الى نشوءِ عوائقَ أثرت سلباً في الأبحاثِ، ودفعت، للأسفِ، العديدَ من الباحثين الى التخلي عن اشكالياتِهم العلميةِ عند يقينهم أن في لبنان هناك غيابٌ شبهُ تام للاحصاءات والبيانات التي تشكلُ الشرطَ الأساسيَ لتمكينِهم من اتمامِ أبحاثِهم ودراساتِهم ومراجعاتِهم.
“السعوديةُ ولبنان” كتابٌ تخطى المعوقاتِ والصعوباتِ وهو اليومَ نتاجٌ علميٌ ووطنيٌ يرى النورَ في هذه الأمسيةِ الجميلةِ، ليشكلَ دافعا معنوياً ومادياً ونموذجاً واضحا يطلقُ صرخةً علميةً في سكوتٍ مخيفٍ ومدمرْ، يؤكد من خلال محتوياتِه وفصولِه، أن البحثَ والكتابةَ والقراءةَ، وإن في مجالٍ اقتصادي مبنيٍ على معلوماتٍ وبياناتٍ وأرقامٍ، لا يزال ممكناً في بلدِنا، ويتوجبُ على الباحثينَ الاقتصاديين وغيرِهم أن يكْمِلوا المسارَ ويستعينوا بهذا الكتابِ لتسهيلَ عملِهم ولتحقيقَ رسالتِهم.
لقد شرح المؤلف أهمَ المراحلِ والمحطاتِ في تاريخ البلدين، سياسيةٌ كانت أم اقتصاديةٌ، وقد خلص الى مدِّنا بعرضٍ منهجيٍ للمتغيرات التي عصفت باقتصادِنا الوطني عبرَ محطاتٍ كثيرةٍ ومتتاليةٍ وأذكر منها:
أولا: لبنان قبل الحرب
لبنانُ في المرحلة العثمانية وفي مرحلة الانتداب: دورٌ تجاريٌ أساسي ونموذج اقتصادي حر في محيط سيطر فيه الاقتصاد الاشتراكي والموجه.
لبنان في مرحلةِ الخمسينيات: شراكةٌ استراتيجيةٌ مع المملكةْ وقناةٌ أساسيةٌ لتصديرِ نفطِها الى الغربْ. وقد وصلَتْ العلاقةُ بين البلدين الى مستوى اعتبرَه المؤلفُ بالاستراتيجي بفعل التشابهِ بين البلدين في البنيةِ الاقتصاديةِ، لناحية أهمية القطاعِ الخاص والاعتماد على المبادرةِ الفرديةِ.
لبنان بعد ١٩٥٦: لناحية استقطابِ أموالِ البرجوازيةِ العربيةِ الفارة ِمن بلادِها بفعل سياساتِ التأميم.
ثانيا: لبنان خلال الحرب
لبنان في مرحلة حرب السنتين: حيث عملت الميليشياتُ على نهبِ الأسواقِ والممتلكاتِ الخاصةِ والعامةِ واستحوذتْ على ايراداتِ الدولة التي انخفضت، وبدأ العجز يظهر وينمو وقد أمكن تعويضه جزئيا من خلال التحويلات الخارجية لاسيما السعودية منها. وتزامنَ اندلاعُ الحربِ اللبنانيةِ مع نهضةٍ صناعيةٍ مميزةٍ حقَقَتْها المملكةُ وجعلت التبادلَ التجاريَ يسيرُ في الاتجاهين فدخلتِ الصادراتُ السعوديةُ الى لبنان في مرحلةٍ تأثرت فيها صناعاتُه الوطنيةُ وتباطأتْ بنسبةٍ كبيرة.
لبنانُ في فترةِ الاجتياحِ الاسرائيليِ: حيثُ ازدادَ الوضع سوءاً، فتعطلتِ المرافقُ والمؤسساتُ ودمرتْ بُنيتُه التحتيةُ وعانى اقتصادُه من غزوِ أسواقه بسلع إسرائيليةٍ، وازدادتْ استدانة الدولةِ، وعمدتْ اسرائيل الى القيامِ بترتيباتٍ اقتصاديةٍ لناحيةِ حرية انتقالِ الأشخاصِ والبضائعْ، واتخذت المملكةُ بالمقابل سلسلةَ ترتيباتٍ جمركيةٍ خشيةَ من تسربِ البضائعِ والسلعِ الاقتصاديةْ الاسرائيليةْ الى دول الخليجِ، فتراجع استيرادُها من لبنان بهدف المحافظةِ على المقاطعةِ العربيةِ لاسرائيل.
لبنانُ في مرحلةِ التدهورِ النقدي: وقد عانى لبنان في الثمانينات من انخفاضِ اضافي في عائدات الدولةْ التي لجأت الى الاستدانةِ عبر طرحِ سنداتِ خزينةٍ بفوائدَ عاليةً أرهقت خزينَتَها؛ فبدأ الدينُ العام يتدحرجُ وينمو الى مستوياتٍ غيرَ مسبوقةٍ في تلك المرحلةِ وخسرتْ العملةُ الوطنيةُ من قيمتِها أمامَ الدولارِ بشكل تدريجيٍ منذ العام ١٩٨٤ حتى العام ١٩٨٨.
ثالثا: لبنان في فترة ما بعد الحرب
لبنانُ بعد انتهاءِ الحرب، حيث واجهتِ الدولةُ اللبنانيةُ العديدَ من التحدياتِ في فترةٍ ما بعد اتفاقِ الطائفْ، كانت أهمُها وأولُها حلّ غالبيةِ الميليشياتِ وانخراطِ أعدادٍ من مقاتليها في القطاعِ العام ومؤسساتِ الدولة، فعادت الى الواجهةِ مجددا مشكلةُ صعوبةْ زيادة الايراداتِ وخفضِ الانفاقِ وتقليصِ عجزِ الموازنةِ والدينِ العام وخدمتِهْ.
لبنان في مرحلة مجيءِ الرئيس رفيق الحريري الى رئاسةِ مجلس الوزراء، حيث دخل لبنان ابتداء من العام ١٩٩٢ مرحلةَ تحولٍ مهمٍ من ناحيةِ احداثِ صدمةِ ثقةٍ ايجابيةٍ باقتصاده الوطني، فتحسنَ سعرُ صرفِ الليرةِ بعد اندلاعِ آخرِ موجةٍ مضاربةٍ عليها في التسعينيات، وتم تثبيتُ النقدِ مقابلَ الدولارْ، وتعززَ احتياطُ المصرفِ المركزيِ بالعملاتِ الأجنبيةِ لحمايةِ الليرةْ. فبدأت المؤسساتُ العربيةُ الماليةُ والصناديقُ العربيةُ تتجاوبُ مع حاجاتِ لبنانْ، فقدَّمت للبنانَ قروضاً ميسرةً ساهمت في اعادةِ اعمارهِ، تزامنتْ مع اصدارِ قوانينَ جديدةٍ اعادت هيكلةَ القطاعِ المصرفيِ وأدخلت لبنانَ في شراكةٍ اقتصاديةٍ مع الدولِ الأوروبيةِ والمتوسطيةِ وأطلقتِ العملَ بالمفاوضاتِ لانضمامِه الى منظمةِ التجارةِ العالميةِ فكانت الانعكاساتُ ايجابيةٌ لناحيةِ تعزيزِ الثقةِ باقتصادِهِ وتحسينِ سُمعتِه في المنطقة.
لبنانُ في مرحلةِ الاعتداءاتِ الاسرائيليةِ المتكررةِ: وقد عانى في التسعينياتْ من اعتداءاتٍ اسرائيليةٍ متكررةٍ، خاصةً ما عرف بعملية “تصفيةُ الحساب” عام ١٩٩٣ وعملية “عناقيدُ الغضبِ” عام ١٩٩٦، فدمرت اسرائيل البنى التحتية والفوقية في أكثرِ من منطقةْ وحاصرت الشواطئَ ومنعت التبادلَ التجاريَ وقصفتْ مرارا محطاتَ توليدِ الطاقةِ الكهربائيةِ، فكانت الحاجةُ دائما الى تقديمِ المساعداتِ للنهوضْ، وجاءت المساعداتُ من قبلِ الدولِ العربيةِ، ولعبت المملكةُ دوراً أساسياً في تأمِينها واستمرِارها عبرَ السنواتِ الصعبةِ التي رافقتْ الاحتلالَ الاسرائيلي.
لبنانُ بعد التحرير وفي مرحلة انعقادِ مؤتمراتِ باريس ١ و ٢: شكلت نتائجُ المؤتمرين في العامين ٢٠٠١ و ٢٠٠٢ اضافة الى الانسحابِ الاسرائيلي من لبنانْ، صدمةً ايجابيةً من ناحية مساعدةِ الاقتصاد الوطنيْ على تحفيزِ نموهِ، وعودةِ الاستثماراتِ وتمويلِ الدين العام، وكبحِ عجز الموازنة، وتراجعِ خدمة الدين وخاصة بعد التحريرِ عام ٢٠٠٠، ومع انتهاء أزمةٍ سياسيةٍ ألمت في لبنان في العام ١٩٩٨. فتصاعدتْ موجةُ الثقةِ والتفاؤلِ في مستقبلِ لبنانْ، واستمرتْ المملكةُ في دعِمها له من خلاِل الصناديقِ العربيةِ والودائعِ المصرفيةِ والعمالةِ اللبنانيةِ في أكثرِ من قطاعْ.
لبنانُ بعدَ اغتيالِ الرئيسِ الشهيدْ رفيق الحريري: أدى التمديدُ للرئيس اميل لحود واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام ٢٠٠٥ الى أزمةٍ سياسيةٍ ضخمةٍ ضربَتْ لبنانَ واقتصادَه، مما أدى الى خفضِ النموِ الاقتصاديِ الى مستوياتٍ متدنيةٍ وتباطؤِ الاستهلاك وخسائرٍ في القطاع السياحي وفي حركةِ الاستثمارْ.
لبنانُ في مرحلة حرب تموز ٢٠٠٦: مع اندلاعِ حربِ تموز التي قامت خلالَها اسرائيلُ بتدميرٍ منهجيٍ ضخمٍ للبنان، طال بُنيتَه التحتيةُ والفوقيةُ، اضافةً الى حصارِ بحريٍ وجويٍ كاملْين، وقع لبنانُ في أزمةٍ اقتصاديةٍ كبيرةٍ، أدت الى انعدامِ نموهِ وضربِ سياحتِه وهجرةِ الآلاف من أبنائه وتشردِ عائلاتِه. فوقع البلدُ في حالٍ صعبةٍ تأثرتْ خلالها علاقاتُه التجاريةُ مع الخارجِ، واستدعتْ دعماً مادياُ مباشراُ قامت بتأمينِه العديدُ من الدولِ، ومن بينِها المملكةُ العربيةُ السعوديةُ التي لعبتْ دورا هاماً من ناحيةِ اعادةِ اعمارِ ما تهدمْ وتقديمِ المساعداتِ للمتضررينَ والنازحينْ.
لبنان في أزمةِ العام ٢٠٠٨: حيث ازدادَ الانقسامُ الداخليُ اللبنانيْ ووصلَ الى أعلى مستوياتِه، فتعطلتْ المؤسساتُ وتقطعتْ الطرقُ واحتدمتْ الصراعاتُ مما أدى الى تراجعٍ اضافيٍ ومتراكمٍ في كافةِ المؤشراتِ الماكرو اقتصاديةْ وتباطؤٍ شديد في الدورةِ الاقتصاديةِ وانعدامِ نموِ الناتج المحلي.
لبنانُ بعدَ اتفاقِ الدوحةِ: لقد شهدَ لبنانُ في فترةٍ ما بعد انعقادِ اتفاق الدوحةْ، مرحلةً اقتصاديةً مميزةً وايجابيةْ للغاية، كانتِ الأفضلُ من ناحيةِ مؤشراتِها منذ انتهاءِ الحربِ الأهليةْ. فعادتِ الثقةُ في لبنانَ ومؤسساتِه، وارتَفَع النموُ ليصلَ الى معدلاتٍ تاريخيةٍ غيرَ مسبوقةٍ، وارتفعَ دخلُ الأفرادِ، وتحسنتْ الماليةُ العامةُ، حيث انخفضتْ نسبةُ الدينِ العامْ من الناتجِ المحليِ الى مستوياتٍ تعتبرُ الأدنى منذ عقدينْ، وتدفَقَتْ الأموالُ والودائعُ المصرفيةُ بوتيرةٍ متسارعةٍ واستمرَ المانحون العرب وبخاصةٍ المملكة العربيةُ السعوديةُ في تقديمِ الدعمِ للبنانِ واقتصادهِ وشعبِهْ.
أما فيما يختص بنموِ وتطورِ الاقتصادِ السعودي، فقد قام المؤلفُ بعرضٍ تحليليٍ لأبرزِ المحطاتِ والمتغيراتِ الاقتصاديةِ التي وقعتْ في تاريخ المملكةْ منذ توحيدِها عام ١٩٣٢ حتى العام ٢٠١١. وقد شرحَ مراحلَ تطورِ الاقتصادِ السعودي وتحولِه من اقتصادٍ قائم على الرعي والترحالِ الى اقتصادٍ يقومُ على التنميةِ الاجتماعيةِ والاقتصاديةْ. وقد ساهَم اكتشافُ النفطِ وتدفقِ عائداتِه على الداخلِ السعودي ابتداء من الأربعينياتِ، في الانفاق على العديدِ من البرامجَ التنمويةِ، كالاهتمامِ بالتعليمِ والصحةِ، وتطورِ شبكاتِ المواصلاتْ، ووسائلِ الاتصالِ الحديثةْ، وتحديث الجيشِ وتسليحِه، اضافة الى انشاءِ المدنِ وازدهارِ البناءِ والبنى التحتيةِ. وقد استفادت المملكةُ من انعكاساتِ الطفرةِ النفطيةِ في الأعوام ١٩٧٣ و١٩٨٠، مما مكَّنها من تسخيرِ عائداتِ النفط في مشاريعَ هائلةٍ في القطاعين العام والخاص. في التحليلِ، استطاعتِ المملكةُ أن تحسِنَ توظيف عائداتِها، فجرى تنفيذُ تسعَ خططٍ خمسيةٍ للتنميةِ المستدامةِ وقد نجحتْ نسبياً في تنويعِ قاعدة ِمواردهِا الاقتصاديةِ للحد من اعتمادِها على النفط، فاستثمرَتْ في القطاعين الصناعي والزراعي ونجحت في تحقيقِ مستوياتٍ مرتفعةٍ من صادراتِها نحو دولِ مجلسِ التعاونِ وكافةِ الدول العربية ومن ضمنِها لبنانْ. كما احتلتْ المملكةُ مراكزَ متقدمةْ جدا على المستوى العالميِ والعربيِ لناحيةِ جذبِ الاستثماراتِ الخارجيةِ وقدمتْ الحكوماتُ السعوديةُ حوافزَ قيمةً للمستثمرينَ الأجانبْ فحقَقَ انتاجُها وصناعاتُها قفزاتٍ كبيرة وتطورتْ خدماتُها بشكلٍ مستمرٍ ومن دون انقطاعْ، قبلَ وما بعد حربِ الخليجْ. ولعل أبرزَ مظاهرَ وانجازاتِ السياساتِ الاقتصاديةِ والتنمويةِ في المملكةِ، كان انشاءُ المدنِ الاقتصاديةِ وكلِ ما تتطلبُه من بنى تحتيةٍ ومؤسساتيةٍ والاشرافِ عليها وتطويرهِا لتحقيقِ التنميةِ الشاملة،ِ فوصل عددُها مؤخرا الى أكثرَ من ٣٢ مدينة شمل التوسعُ في انشائها البلادَ كلِها وفق رؤيةٍ تنمويةٍ شاملةٍ وتخطيطٍ اقتصاديٍ واستراتيجيْ، الشيءُ الذي غابَ في لبنانْ ولم يرى النورَ منذ الاستقلالِ حتى أيامِنا هذه.
وقد تطرقَ المؤلفُ الى دراسةٍ معمقةٍ ومدعمةٍ بالأرقامِ والبياناتِ لخصوصيةِ العلاقةِ بين لبنان والمملكةَ والتبادلِ التجاري بينهما. وقد شرحَ كيف لعبتْ المملكةُ العربيةُ السعوديةُ دوراً هاماً في تاريخِ لبنانْ من ناحيةِ دعمِه اقتصادياً ومالياً، فكانت تُعْتَبرْ في الماضي سوقا رئيسيةً للصادراتِ اللبنانيةِ، وبخاصةٍ الصناعية والزراعية، وقد تأرجح الميزانُ التجاريُ بين البلدينْ فكان يميلُ لصالحِ لبنانَ في فترةٍ ما بعد الحربِ العالميةِ الثانيةِ وأصبحَ لمصلحةِ المملكةِ في التسعينياتْ. ولعب لبنانُ دورا أساسيا في تصديرِ النفطِ السعوديِ بعد النكبةِ الفلسطينيةِ، فاستفادتْ خزينتُه من عائداتٍ هامةٍ وضخمةٍ في تلك الفترةْ. وحصلَ لبنانُ على النفطِ الخامِ بأسعارٍ رمزيةٍ مقارنةً بالأسعارِ العالميةْ. وقد تضاعف حجمُ التبادلِ التجاري المباشرْ بين البلدين مراتٍ عدة عبر الطريقِ البريةِ السوريةِ، وقد نمتْ العلاقاتُ التجاريةُ في عدةِ مراحلْ من تاريخِ البلدين لا سيما بعد حربِ ١٩٦٧ بسبب اقفالِ قناةِ السويسْ وتحولَ لبنانُ الى معبرٍ لسلعِ الترانزيتْ. وقد ساهمَ ارتفاعُ مداخيلَ المملكة بعد أزمة ١٩٧٣ في زيادةِ استيرادِها من لبنان تزامُناً مع تطبيِقها لخططِ نهوضٍ اقتصادي وتنميةٍ مستدامةْ.
وقد أوضح المؤلفُ أن العلاقاتَ التجاريةَ بين البلدين قد شهدَتْ عدةَ اتفاقاتٍ تجاريةٍ ومؤتمراتٍ وملتقياتٍ منذ ١٩٥٣، مروراً بالأعوام ١٩٥٦ و١٩٥٩ و١٩٦٧ و١٩٧١ و٢٠٠٤ و٢٠٠٧ و٢٠٠٩ حيث تم اطلاقُ حريةِ الاستيرادِ والتصديرِ بين البلدينْ متزامنةً مع اعفاءاتٍ جمركيةٍ واعطاءِ تسهيلاتٍ للشركاتِ القائمةِ حينَها، وتشجيعِ الحجِ والسياحةِ والاصطيافِ، وقد شهدت العلاقاتُ التجاريةُ تغيراتٌ مستمرةٌ حيث كان البلدان يوقعان اتفاقات حيناً ويعلقان العمل بها أحيانا تبعا للمتغيراتِ السياسيةِ والأقتصاديِةْ.
لقد لعبت المملكةُ العربيةُ السعوديةُ ولا تزالْ، دوراً هاماً وداعما للاقتصادِ اللبناني منذ تأسيسِ دولتِه، وفي فترةِ نموهِ وازدهارهِ، ودَعَمَتْهُ خلالَ حربهِ الداخليةِ، وفي وجهِ الاحتلالِ الاسرائيلي واعتداءاتِه وحروبِه المتكررةِ، دعمت المملكةُ لبنانَ من خلال ايراداتِ خزينتِه ومن خلالِ استيراد بضائعه، مرورا بالترانزيتْ ودعم سياستِه النقدية، وصولا الى اعادةِ اعمارِ بنيتِه التحتيةِ وتمويلِ مشاريعِه التنمويةِ بقروضٍ مسهلةٍ وطويلةِ الأمد، والمشاركةُ السعوديةُ الفعالةُ في السياحةِ اللبنانيةِ وقطاعِ العقاراتِ وقد شرحها المؤلفُ بعنايةٍ مدروسةٍ وبأمانةٍ علميةٍ وقد استندَ الى مراجعَ كثيرةِ للوقوف عند الاحصاءاتِ والأرقامِ والبياناتِ، ولم ينسَ التطرقَ الى أهميةِ الاقتصادِ السعوديِ من ناحيةِ استقطابِ العمالةِ اللبنانيةْ الى الداخلِ السعودي، وتأمينِ فرصِ عملٍ لعشرات الآلاف من اللبنانيين الذين يُضخونَ أموالاً وتحويلاتَ هامة وحيوية في الاقتصادِ الوطني اللبناني.
كذلك الأمر من ناحية دورِ لبنان المساعد في تصريفِ النفطِ السعوديِ في فترةِ الأزماتْ، ومد المملكةِ بسلعٍ انتاجيةٍ غيرِ متوافرة فيها في فتراتٍ عديدةٍ من تاريخ علاقاتِ البلدينْ، اضافةً الى مساهمةِ العمالةِ اللبنانية في ازدهارِ الاقتصادِ السعودي ومشاريعِ الانشاءات الضخمة واقتصادِ المعرفةِ وتطوير البنى التحتيةِ السعوديةِ والمشاركةِ اللبنانية الفعالةِ في مواسم الحج.
وقد تطرقَ المؤلفُ أيضاً الى تفنيد فصولِ العلاقاتِ الاقتصاديةِ بين البلدينْ عبر الزمان وفي كافةِ القطاعاتِ، بالارقامِ والبياناتْ، بمنهجٍ تحليليٍ وبتسلسلٍ زمنيٍ يتخطى السردَ المملَ، ليعتمدَ الشرحَ المفصلْ والتحليلَ الاقتصاديَ والسياسيَ والاجتماعيَ لمحتويات فصولِ الكتابْ. وقد استفدتُ شخصيا من فرصةِ قراءة كتاب “السعوديةُ ولبنان” للاطلاعِ على تاريخِ علاقاتٍ حافلٍ بالمحطاتِ ومليءٍ بالمتغيراتِ وغنيٍ بالتحاليل والأرقامْ، معلوماتٌ قيمةٌ وثَقَتْ مضوناً ضخماً، سيسمحُ للقراءِ والمعنيينَ أن يطلعوا على تاريخِهم وأن يعوا حاضرَهم وأن يرسُموا مستقبلَهم، إن كان لهم فضولُ الاطلاع وحسُ المعرفة وحسنُ الادارة. كتابٌ سيشكلُ حافزا للباحثين في أكثرِ من مجالٍ للاستنادِ والرجوعِ اليه، مرجعاً تاريخياً واحصائياً وتحليلياً، وسيمدُهم بمعلوماتٍ وببياناتٍ غير متوافرةٍ على حدِ علمي المتواضعْ، فكتابُ “السعوديةُ ولبنانْ” سيشكلُ مرجعاً سياسياً واقتصادياً لكلِ من يريدُ أن يطلعَ على حقيقةِ الحالِ، ولكل من يريدُ أن يتعظَ من التاريخِ، ولكلِ من ينوي أن يخططَ للمستقبلْ. فهو موسوعةُ أرقامٍ وتحاليلَ وحقائقْ شملت المؤشراتُ كافةً ووصفت المراحلَ، كل المراحلِ، وحللتْ المتغيراتْ، من دونِ أن تقتصرَ على المؤشراتِ العامة. فتطرقَتْ الى كافةِ القطاعاتِ والأسواقِ وفندتْ الأشخاصَ والمعنيينَ والمؤثرينَ بتاريخِ العلاقاتْ.
أحبائي، علينا جميعا أن نسألَ أنفسَنا ونتساءَلَ معا عن نتائجَ هكذا أعمالٍ علميةٍ ووطنيةٍ وثقافيةٍ، هلْ منْ يسمعْ؟ هل من يستفيدْ؟ هل من يتعظْ؟ أما الحقيقةُ فتعرفونَها جيداً.
كلُ الشكرِ والتوفيقِ للصديقِ الكبيرْ وصاحب الفضلِ البروفسور عبد الرؤوف سنو متمنياً له المزيدَ من العطاءِ والنتاجِ والحيويةِ والنجاحِ والصحةْ، وأقول له، سننتظر المحطاتْ المقبلة وكلنا أملٌ وشوقٌ لقراءةِ المزيدِ من نتاجِك العلمِيِّ والوطنيِّ وللاستفادةِ من كرمِ حبرِكَ، فلا تَبخُلَ علينَا ولا تُطيلَ الانتظار.
د. عبد الرؤوف سنو
وفي ختام الندوة، شكر سنّو الحضور، لافتاً إلى أن ما توصل إليه كتابه من نتائج سيكون مفيداً للبلدين الشقيقين على الأصعدة السياسية والاقتصادية، ولتفعيل ما بينهما من علاقات أُخوة تاريخية وإستراتيجية.
*****
(* ) مجلدان، دار الفرات للنشر والتوزيع، تموز 2016.