رؤوف قبيسي
(كاتب- لبنان)
أخاطبك باسمك المجرد من لقب الرئيس لأنني واحد من مئات الألوف من اللبنانيين الذين لا يعترفون بنظامنا السياسي، ويعتبرونه إقطاعياً وطائفياً وعنصرياً، ويعتبرون ممثليه مجحفين في حق الوطن والمواطنين. كذلك لا أسمح لنفسي بأن أخاطب الآخرين في هذا النظام بألقابهم، ممن يحملون ألقاب دولة الرئيس، ومعالي الوزير، وسعادة النائب.
آمل يا سيد عون، أن لا تظن بي الظنون، أو يخالجك أدنى شعور بأني كنت أتمنى أن يختار نواب الطوائف رجلاً غيرك رئيساً للجمهورية. لست من هذا الحزب أو ذلك الحزب، ولا من هذا التيار أو ذاك، ولا من هذه الطائفة وتلك. أريد أن أكون مواطناً في دولة مدنية إنسانية، لا يحكمها لوردات الحروب وأمراء الطوائف، وأعتقد أن معظم اللبنانيين، خصوصاً الغالبية من شباب الوطن وصباياه، يشاطرونني هذا الرأي وهذا الشعور.
أنت لا ترضى بأن تخاطب أبا بكر البغدادي بلقب “خليفة المسلمين”، لأنك لا تعترف بهذا الخليفة، ولا بهذه الخلافة، علماً بأن نسبة من يؤيد “أمير الدواعش” في العالم العربي، والعالم المسمى بالعالم الإسلامي، أكبر من نسبة من يؤيدونك في لبنان، وأكبر بما لا يقاس من عدد الذين رقصوا وغنّوا وأشعلوا الشموع فرحاً بفوزك بكرسي الرئاسة. إذا قلت لي إن أمير “داعش” ليس مسلماً، وباسم الدين يقطع رقاب الناس، فسأقول لك إن السياسيين في لبنان يستغلون الأديان أيضاً ليتحكموا برقاب الناس، بل لا أتجاوز الحقيقة إذا قلت إن جرائمهم أكبر من جرائم البغدادي، لأنه لو كانت بلداننا تنعم بأنظمة مدنية حرة، لما ظهرت العصبيات الدينية هنا وهناك، ولا ظهر البغدادي وغيره، من الذين يستخدمون اسم “الله” ليشتروا بآيات الكتاب ثمناً قليلاً، ويكونوا أوصياء على الناس. اللبنانيون اليوم يريدون أن يكونوا أحراراً في دولة حرة، لا تكون المناصب فيها حكراً على الطوائف والقبائل والعشائر والعائلات وأمراء الإقطاع، وأنت خير من يدرك يا سيد عون، أنك لو لم تكن من طائفة معينة، لما أتتك الرئاسة منقادة، ولا كان الرؤساء الآخرون ومعهم “نواب الطوائف” الذين انتخبوك، وصلوا إلى المناصب التي هم فيها. هل ترضى أن أنتمي أنا إلى هذا اللبنان، وتنتمي أنت إلى هذا اللبنان، وينتمي أولادنا وأحفادنا إلى هذا اللبنان؟ حتى لو قبلنا على مضض بهذا النظام، أما كان من قبيل احترام المواطنين، أن تجرى مناظرة بينك وبين المرشحين الآخرين، كما الحال في الولايات المتحدة، فيطرح كل مرشح أمام الشعب، وبلغة سليمة رزينة، رؤيته للبنان المستقبل، وما في جعبته من حلول للقضايا الحيوية المتصلة بحياة الناس، كالماء والكهرباء، والصحة والتربية والدفاع، والطبابة واللاجئين، بدلاً من أن يشاهد تلك التسويات المريبة التي تمت فيها عملية الاقتراع، وجاءت بك رئيساً للجمهورية، وجاءت بـ”عدوّ” أمسك رئيساً للوزراء! لقد سمعنا رئيس الوزراء يقول إنه “استسلم”، وبرر تأييده لك رئيساً بالقول إنه فعل ذلك “لمصلحة البلد”! هل كانت “مصلحة البلد” فعلاً في باله ساعة “استسلم”، لو لم تكن المكافأة له على هذا “الاستسلام”، كرسي رئاسة الحكومة؟!
هل ترضى يا سيد عون، أن يقبل المواطن اللبناني بعد، أن ينتمي إلى بلد يصعد الحاكمون فيه على سلّم هويات دينية مزورة، لا علاقة لها بالإيمان لا من قريب ولا من بعيد؟ أليس هذا ضرباً من ضروب استغلال الدين بأبشع الصور؟ من ثمّ أريد أن أسالك، هل النواب “السنة” والنواب “الشيعة” مسلمون حقاً؟! هل النواب “الموارنة” والآخرون من الطوائف التي تسمي نفسها مسيحية، مسيحيون حقاً؟! لماذا هذا الرياء، وهذا الضحك المتواصل على الناس إذن؟! كيف نتوقع من مواطن يحترم حاكماً يضحك هذا الحاكم عليه. لهذا المواطن المسكين المغبون المضحوك عليه الذي انتخب هذا النائب “المسيحي”، وذاك النائب “المسلم” أن يفعل ما يشاء. له أن يمجد الصنم ويعبده، ويطلق النار في الهواء الطلق حباً به. له أن يفديه بالدم والروح، ويسبغ عليه ألقاب الفخامة التي يشاء، لكن هناك في المقابل عشرات الألوف، بل مئات الألوف من المواطنين، الذين تأبى نفوسهم الحرة السير على هذه الدرب الطويلة من آلام الروح، لأنهم يدركون أنها طريق الجلجة التي مآلها الوطن على الصليب. أريد أن ألفتك يا سيد عون إلى شيء حدث في لندن حيث أسكن. أظنك تعرف من أصبح رئيساً لبلدية هذه العاصمة. قد يستحسن التذكير إن ينفع التذكير. هو شاب مسلم، من أصول باكستانية، اسمه صادق خان، ابن مهاجر باكستاني كان يعمل سائقاً في حافلة. كان منافسه على كرسي رئاسة البلدية شاب يهودي اسمه زاك غولد سميث. لم يعترض أحد من سكان لندن التي يزيد عدد سكانها على عشرة ملايين نسمة على صادق خان لأنه “مسلم”، أو لأن منافسه الآخر “يهودي”!
لندن العريقة التي عمادها الروحي التاريخي كنيسة إنكلترا، غضت الطرف عن دين هذا المحافظ الجديد. السبب أن صادق خان خاطب عقول الناس ولم يخاطب غرائزهم. طرح أمامهم برنامجه لتحسين مرافق الحياة في المدينة، فانتخبوه مرشحاً عن حزب العمال. لا أملك إلا أن أرفع القبعة لهذا الشعب، ويسعدني ألف مرة أن أخاطب صادق خان بلقب سعادة المحافظ، لكن لا أخفي عليك أني أشعر بالمهانة إذا خاطبت أهل الحكم في لبنان، بلقب الفخامة والدولة والمعالي والسعادة، لأن وجود السياسي اللبناني في الحكم، هو إهانة لكل نفس أبية، وأنت تعرف أن انتخابك تم بتسويات من لوردات الطوائف والمنافع والعشائر، وتنازلات ممن كانوا يعتبرونك عدواً، وممن كنت تعتبرهم فاسدين، وها وصولك إلى سدة الرئاسة، يعيدهم إلى التحكم بمقادير البلاد تحت شعار “مصلحة الوطن”! نيتي صافية يا سيد عون. لا أرمي إلى أي تجريح شخصي، لكن يحز في نفسي ويؤلمني إيلاماً لا أستطيع لك وصفه، وأنا أشاهد كيف يصبح الحاكم عندنا حاكماً. سأترك أوروبا وأقرن لبنان بدول تنتمي إلى ما يسمّى العالم الثالث، وأذكّر بدولة أفريقية مسلمة هي السنغال. أظنك تذكر يا سيد عون، أن هذه الدولة النامية جداً انتخبت في أحد الأيام رئيساً مسيحياً اسمه ليوبولد سنغور. كان سنغور شاعراً، واحتفينا به عندما زارنا في الستينيات وألقى علينا كلمة في “الندوة اللبنانية”. لم يتردد شعب السنغال الفقير “المسلم” في أن يولي مواطناً “مسيحياً” شؤون الحكم في بلده، في حين أن الدول العربية، التي تعتبر نفسها “أرقى” من الدول الأفريقية، تفرض أن تكون هوية الرئيس وقفاً على مذهب معين، وهذا يصح أكثر ما يصح في لبنان، “بلد الستة الآف سنة من الحضارة”!
لنأخذ مثلاً آخر هو الهند. أظنك تعرف يا سيد عون أن نائب رئيس جمهورية هذه الدولة التي يبلغ عدد سكانها 1300 مليون نسمة، يدين معظمهم بالهندوسية، مسلم اسمه محمد حميد أنصاري، كما أن ثلاثة من رؤساء الجمهورية التي تعاقبوا على حكم الهند كانوا مسلمين، آخرهم أبو بكر عبد الكلام الذي توفي العام الماضي. لم تعر الهند الديموقراطية العلمانية، أهمية لدين عبد الكلام فانتخبه المجمع الهندي بنسبة 90 في المئة من الأصوات، وأصبح من أكثر رؤساء الجمهورية شعبية في تاريخ البلاد، وقد سمّاه الهنود “أبا الشعب”، وبكته الملايين ساعة وفاته، بمن فيهم أطفال المدارس، وفي طول البلاد وعرضها.
■ ■ ■
أيّد الجميع خطاب القسم الذي ألقيته في مجلس النواب… لكن بعد ماذا؟! كان خطاباً أُعد سلفاً لأنك كنت مدركاً بالتسويات المريبة وراء الكواليس أن انتخابك رئيساً أمر مؤكد، في حين تفرض الديموقراطية الصحيحة أن يطرح المرشحون الآخرون برامجهم أمام الشعب والنواب قبل الاقتراع، وعلى أساسها يتم اختيار المرشح الأفضل. إن انتخابك رئيساً حرم الشعب اللبناني معرفة برامج المرشحين الآخرين، وهذه قد تكون أفضل لتسييس البلاد مما جاء في خطاب قسمك، هذا على افتراض طبعاً أن لديهم برامج! أما القول إنك رئيس “صنع في لبنان”، كما سمعنا هذه العبارة غير مرة، فاسمح لي بأن أقول لك أن هذه “قوس لا تركب على النشّاب”، كما تقول أمثال عرب البوادي، علماً أن ليس كل “صناعة وطنية” هي بالضرورة أفضل من كل “صناعة أجنبية”! قد أغالب مشاعري، ويغالب الكثيرون من المواطنين مشاعرهم، فنقبلك رئيساً شرعياً لهذه الجمهورية، إذا وقفت اليوم وقبل الغد، وقلت إنك ستعمل على تغيير النظام من أساسه. إذا اتفق وحصل ذلك، سيرفع اللبنانيون لك القبعات إجلالاً واحتراماً، ويسجل لك التاريخ أنك كنت الرئيس الشرعي الوحيد في تاريخ الجمهورية، وبطل الاستقلال الحقيقي. لكن أرجوك أن لا تتحدث عن الفساد وإعادة الإعمار، وما شابه، لأن لا معنى من ذلك كله، إذا الأساس غلط. لا معنى من إنفاق الملايين على تحسين عمارة من الداخل والخارج، ورصف أرضها بأجمل البلاط، وطليها بأجمل الألوان، وتأثيث غرفها بأجمل الأثاث، إذا كان الأساس مختلاً مصدعاً، وأنت تعرف يا سيد عون أن أساس نظامنا مختل مصدع، والدليل أن البلايين التي استدانها لبنان وصارت عبئاً عليه لم تنفع، لأن النظام لا يزال في أساسه، إقطاعياً طائفياً عنصرياً، وها هو الفساد لا يزال مستشرياً، وها هي الكهرباء تقطع في بعض المناطق ساعات ساعات في اليوم، والماء شحيح، والنفايات على الطرق والشواطئ والسهول، والمواطن لا يزال قلقاً على حياته وعلى ومصيره.
شيء آخر لا معنى له يا سيد عون، هو أن تدعو اللبنانيين مرة ثانية إلى الاحتفال بعيد “الاستقلال”، ذلك أن التباهي بأنك الرئيس الوحيد في تاريخ الجمهورية الذي “صنع في لبنان”، يعني أن “الاستقلال” لم يكن في يوم من الأيام تاماً، (هل هو اليوم تام؟!) وأن الاحتفال به عيداً وهمٌ وذر رماد في العيون، وأن اللبنانيين لم ينعموا، منذ رحيل الفرنسيين عن ديارهم، بيوم واحد من الاستقلال الحقيقي! ليتهم “المستعمرون الفرنسيون” بقوا في ديارنا 23 سنة إضافية، لكنا تعلمنا منهم أصول الدولة المدنية، بالقدر الذي تعلمنا فيه لغتهم، لكن زعماءنا “الوطنيين” أرادونا أن نكون “أحراراً”، وأن نكون “مستقلين”! “أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك”، قالتها مدام رولان، وهي في طريقها إلى المقصلة زمن لويس السادس عشر! لا أحد في ذاته ذرة وطنية، يريد حكم المستعمر وحكم الأجانب، لكن نصيب اللبنانيين من الكرامة زمن الفرنسيين، كان أكبر ألف مرة من نصيبهم منها تحت حكم زعمائنا “الوطنيين”. هؤلاء حكموا البلد ولا يزالون يحكمونه بشراهة. شوهوا سمعته وأشعلوا فيه الحروب، وساموه كل ألوان الذل والعذاب، وأوجدوا تركيبة قائمة على الضغائن، وعلى تعدد الولاءات، ليبقى كل واحد منهم، أميراً على منطقة وطائفة!
هذا نظام لا يمكن إصلاحه يا سيد عون، ولا بد أن يتغير، ومن الأساس يجب أن نبدأ.
*****
(*) جريدة الأخبار، 5 ديسمبر 2016.