هدى عيد
(روائية وشاعرة- لبنان)
بدايةً: التحيةُ لهذهِ الأرضِ الطيبة تضمُنا اليومَ ، وشكراً لهذا المركز الكريم يجمعُنا حول عملٍ أدبي رائد للكاتب الأستاذ صلاح عاصي.
إذا كانت الثقافةُ هي محصّلةُ ما يرسخُ في عقولِ الناس، ويطبعُ سلوكياتِهم، ويؤطّر إلى حدٍّ كبير مدى نجاحِهم أو فشلهم في الحياة العامة، فإنّ نوعيةَ النتاجِ الأدبيِّ شعراً ونثراً وفناً تشكّلُ السمةَ الأساسيةَ في تحديدِ طبيعةِ المنحى الثقافي لأي بلدٍ من البلدان.
نحنُ اليوم أمام رواية جديدة للكاتب صلاح عاصي صادرة عن دار غوايات . رواية هي ابنةُ الظرفِ الاجتماعيِّ/ التاريخيِّ المعقّد الذي نَحياه، والذي يكادُ يشكلُ الرحمَ الحقيقيَّ لكثيرٍ من النتاجات الأدبية/ الفنية التي يسعى مؤلفوها ” إلى ابتداعِ الكيفية ليرووا من خلالِها واقعَهم وأحوالَه وحكاياتِ ناسِه”.
تبدو روايةُ الضياع كشأنِ الكثير من الروايات العربية صوتاً بالغَ الاحتجاج ضد القمع، باحثاً بلهفةٍ عن الحرية والعدالة والمساواة. صوتاً يبغي تجسيدَ الظلم والجهل والتخلف، ونقدَ السلطة والثقافة الاجتماعية/ الدينية السائدة في المجتمعات العربية.
فهي روايةُ ترمي إلى تكسير نمط العلاقة الثقافية بالآخر محاولةً تفكيكَ التعصب، واختراقَ خطابِه : لتوليد إثارةٍ وخلقِ حدثٍ بالمعنى الروائي المتداول، وبذلك تهدفُ هذه الرواية إلى ممارسةِ دورٍ نقدي تجاهَ المهيمن منذ ما يقرب النصف قرن لصالح تظهيرها معانيَ إنسانيةً ووطنية بعيدةً عن التعصب والكراهية.
ونموذج التفكيك للتطرف الديني روائياً يأخذ أهميته الظرفية في ظل تصاعد الحركات الإرهابية المسيية التي أدلجت الدين الإسلامي منذ مدة، وتمسّحت به زوراً وبهتاناً وزوّرت الكثير من معانيه، فعكست واقعاً وجودياً وثقافياً مأزوماً لم يعد يستشعر لذةَ الحياة وقيمتها الحقيقية.
تبدأ الرواية بأزمة ناديا العصبية ، تلك الصبية الجميلة، المناضلة الوطنية والمنهارة عاطفياً إثر خروجها من معتقل العدو الصهيوني ، وإثر رحيل حبيبها سامر عنها، وما تولد عن هذا الحدث من تحولات وانقلابات.
هذه الأزمة النفسية/ العاطفية/ الاجتماعية ستكون محوراً رئيسياً في تكوّن أحداث الرواية، وتبلْوُرِ أساسِها الموضوعيِّ والدلالي ونموِّه وتشعبه، وفي جعْلِ الرواية، وفقَ منظومةِ تنامي الحدث، تتجهُ إلى المساحة الأكبر التي تندرجُ حياةُ الشخصية الرئيسية فيها، نعني مساحةَ المجتمعِ أو الواقعِ اللبناني، وتحديداً واقعِ المقاومة الوطنية في منطقة الجنوب الذي تنتمي الرواية إليه، وتتخذُ منه فضاءً لأحداثها في تجلياته بوصفه سلطة وجودٍ وثقافةٍ وإدارة.
لهذه البدايةِ من حيثُ هي موقعٌ يبدأ به خطابُ الرواية، كما هي بدايةُ كلِّ خطاب، أهميةٌ بنيويةٌ لأنّ الافتتاحَ كما يقول رولان بارت ” منطقةٌ خطرةٌ في الخطاب، وفعلٌ عسيرٌ… إنه الخروجُ من حالةِ… الصمت ” .
ويأتي مبتدأ الرواية هنا بعد العنوان ( الضياع) الذي يدفعنا دائما إلى محاولة التأويل لما يتضمنه العنوان عادةً من إيحاءات سيؤكدها فيما بعدُ خطابُ هذه الروايةِ وتداعي أحداثها.
فناديا البطلةُ في حالةِ ضياعٍ جراء هجرانِ حبيبها وأمانِ روحها/
وعامر صديقُها يعاني ارتباكا وضياعاً نتيجةَ تسربِها منه ومن أهلها ورفاق نضالها/
وسامر البطل الرئيسي حبيبُها الطبيب المقيم في فرنسا ضائعٌ بين حبها وبين حبيبته الفرنسية المتلهفِ على جسدها/
وفيما بعد سيبرز ضياعه الأكبر ما بين علمانيته ونضاله ومواقفه السابقة، وما بين اتجاهاته الدينية المستجدة ومواقفه الحادثة من المرأة والخمرة والجغرافيا.إذ ينتقل الرجل فترة إلى إيران إبان الحرب الإيرانية العراقية ليتابع دراسة الطب هناك ناشداً خلاصه الجسدي والروحي معاً/
والضياع الأخير الذي يتبدّى هو ضياعُ هوّيةِ المقاومة التي أطلقتها القوى الوطنية العلمانية عقب الاجتياح الصهيوني، وانتهت فيما بعد لتصبح مقاومة لبنانية ذات هوية دينية محددة (مع التأكيد على عقد الآمال عليها).
يحاولُ الكاتب عبر الراوي العليم الذي وظّفه أن يقولَ الواقعيَّ والأيدلوجيَّ الذي يؤمن به، ما دام فعلُ القص هو إعادةَ القراءة لهذا الواقعيّ، وتقديمَه فنياً عبر لعبةِ القول اللغوي، بهدف اكتساب أحقيةِ الكلام في زمنِ مصادرةِ الكلام من قبل المؤسسة السياسية التي تُحكم قبضتَها على منطوقِ البشر.
وهذا بالذات هو ما نقرؤه على لسان الشخصية المساعدة عامر إذ يخاطب ناديا بعد شفائها ومعاودتها نشاطَها ودراستها ” عزيزتي أنا فخورٌ بقلمك الحرّ، ومقالاتك الصادقة لكنني أخافُ عليك، فأنت تعرفين، في عالمنا العربي أنّ معظم أصحاب الأقلام الحرة منفيون خارج بلادهم ” ص 212.
لذلك يندفعُ الكاتب إلى القول لأنه يجد ” المجتمعَ اللبناني الممزقَ طائفياً بحاجةٍ إلى هزّةٍ صادمة ومصارحةٍ بالواقع لعلّ ذلك يوقظُ المخدرينَ بالعصبيات والنائمينَ سعداءَ على أسرةِ جهلهم” ص 213.
هكذا يبدو القصُّ في الروايةِ، وكأنه يعيشُ كما ترى الناقدة يمنى العيد ” زمنَ الحرياتِ الفردية، زمنَ الثقافة وقدرةِ الإنسان على أن يكونَ له صوتُه في صداماتِ الحياة وأوضاعِ المجتمعات فيها”. فيصبح بذلك القولُ السردي هو الأيديولوجي المتشكل فنياً عبر اللغوي الناتج في الرواية موضوعِ الكلام.
وقد حاول كاتبنا عبر هذا الشكلِ الفني الذي اتخذه مادةً لنثرِه وأعني الرواية أن ينتج الأيديولوجي العائد إليه وإلى مجموعة القوى الوطنية اللبنانية كذلك ، ينتجه من خلال الأدبي كديناميةٍ تُحتسب له في تاريخ الوطن المعاصر، عساهُ بذلك يحيلُ عبرَ القراءة على واقعِ الناس الذين يعيشون علاقاتِ الصراعِ من أجل تغليب عوامل الحياةِ لا عواملِ الموت في أشكاله المختلفةِ وفي تفاصيله العديدة.
أمّا على صعيد الشخصيات:
فإذا كانت الروايةُ ليست إلاّ قصةَ لقاءِ الشخصياتِ مع بعضِها وإخباراً بالعلاقات التي تنشأ بينها، على ما يذهب إليه الناقد شارل كريفَل، فإن هذه الروايةَ هي قصةُ الحبّ المشتعلِ بين سامر وناديا وقصة التقاطعات الاجتماعية/ السياسية والدينية التي تفاعلت بينهما .
تعكس مسيرةُ سامر من حيث وظيفتُها السردية منطقاً فكرياً هشاً سريعَ العطب، فهو شخصيةٌ بالغةُ الانكسار، تغرقُ في الرثاء والبكاء عند الأزمات، بعد أن كان في ماضيه مناضلا شجاعاً صاحبَ أفكار ومبادئ، جذاباً لمرافقيه ولحبيبته نجدُه يغرق إثرَ أزمة ناديا في الانطواء والهروب إلى حمأة الشهوات الجسدية سواءٌ من خلال علاقته المضطربة بزميلته الفرنسية إيفا، التي ستنزل به عقاباً قاسيا في نهاية الرواية حين تمنعه من رؤيته وحيدَه أو التعرف عليه .
أو لناحية علاقاته العابرة بالنساء الأخريات مصدر ندامته فيما بعد، وهو يحاسب نفسه على فعل الزنى.
وتتأكد هذه الهشاشة عندما ينقلب الطبيب إلى ملتزمٍ مع إحدى الجماعات الدينية ، ثم يتراجع بعد سنة تقريباً عن خطهم ليعاود نمط حياته المفرنسة، لكن بإحساس عارم بالذنب وبالضياع الأمر الذي يدفع الأب المقيم في الوطن إلى تقريعه أكثر من مرة لمغادرته ،أي ابنه، قيمَه الشرقية الموروثة.
في المقابل برزت شخصية الإعلامية المناضلة ناديا أكثر ثباتاً ومقاومة، وقدرة على الاستمرار والانتاج والتحدي والتوازن، فقد استطاعت المباشرة بفعل التغيير عبر القول الواعي ( الصحافة)،وعبر الالتزام السياسي، فكرست بذلك مفهومَ المرأة المستقلة بذاتها ، ووعيَ المجتمع المحدَث بها، إذ هي جمعت بين الجمال والجدية والثقة بالنفس رغم قساوة تجربة الأسر في المعتقل التي عرفتها ( وإن كنا نأخذ على الكاتب تلويحه دائما بالحديث عنها دون أن يفعل أعني تجربة الأسر).
بالتوازي بين هذين النموذجين : الرجولة المتداعية الهشة رغم إمكانياتها العلمية وتفوقها، والأنوثة المقاومة المكينة والمنتجة الفاعلة المتخطية لأزمتها، يتنامى فعلُ القول في هذه الرواية التي نسجتْ خطابها اللغوي بدراية وعناية، وبشعرية حقيقية صافية وهي تقول الوجداني الجميل، وتستدعي العواطف البشرية الخالصة في ألطف تجلياتها من خلال الحوارات الغزلية الحميمة التي أتقن الكاتب سبكَها ( وهنا نسجل أن الكاتب لم يستطع خلع ثوب أستاذ الأدب نهائياً في رحلته الروائية الثانية فكل أبطاله ، رغم دراساتهم المتنوعة، كانوا يخفون في أعماقهم شعراء أو قدرة على الاستشهاد بشعر المتنبي وسواه أو بمقولات الأدباء كالجاحظ والإمام علي إضافة إلى شذرات عن المذاهب الأدبية المبثوثة في متن الرواية )!
هذه الرواية سادتي هي خطاب النخبة الثقافية التي يعوقها الواقع المأزوم عن الاختيار الحقيقي، عن الرغبة، عن فضاء الحرية من داخلٍ ومن خارجٍ كبطلها.
خطابٌ بدت لنا معه الذاتُ الساردة، وكأنها تنتقل من مستوى الفعل الإنشائي إلى مستوى الفعل التسجيلي والتوثيقي أحياناً، إذ تنقلُ في متنها بعضَ التاريخي الذي شهدته ثمانينات القرن الماضي، ملوّنةً إياه بدلالة ذاتيتِها المنتميةِ إلى موقعٍ لم يعدْ يعيشُ هذا الواقع، فتبرزُ لنا نوستالجيا رومانسية مندفعة لاستعادةِ عالمِ الفطرة والبراءة والعذريةِ والطهر، وذلك قبالةَ الحاضر الذي يغدو بائساً منفراً.
لذلك نبيحُ لأنفسنا الحديثَ عن هوّيةٍ متصدعة وذاتٍ منقسمة سردياً وإيديولوجياً، ذاتٍ تعيشُ الحاضرَ بوطأته، وتعيشُ الماضيَ الذي هو ذاكرتُها وحنينُها وقيدها، ذاتٍ متموضعةٍ في مَقامٍ مجتمعي/ ثقافيٍّ معين، لكنها في المقابل تبقى ذاتاً إنسانيةً /كونية تبحثُ عن وجودٍ إنسانيّ حقيقي حرٍّ… وعادل… ومقدام .
******
(*) ألقيت في حفلة توقيع رواية المربي صلاح علي عاصي الثانية “الضياع”، بدعوة من المؤلف بالتعاون مع “مركز كامل يوسف جابر الثقافي الاجتماعي” في النبطية في 18 نوفمبر الحالي في قاعة الاحتفالات الكبرى في المركز، وتخلل البرنامج إلى كلمة الروائية هدى عيد، كلمة المربي ماهر الحاج علي، النائب ياسين جابر، فكلمة شكر للمؤلف. قدم الاحتفال الشاعر حسين شعيب