د. خالد صلاح حنفي محمود
(مدرس أصول التربية- كلية التربية – جامعة الإسكندرية)
إن قراءة واقع التعليم وسياساته فى الوطن العربى تقتضى تحليل الخطاب التربوى المتحكم بهذا الواقع والمنتج لتلك السياسات، وتحليل الخطاب يتحقق من خلال الانفتاح على كافة مستوياته المعرفية والفلسفية واللغوية والسيمائية وإطاره السوسيوثقافى والجيوسياسى، حيث تحليل الخطاب ليس إلا تحليلاً يعكس واقع المجتمع العربى وبنيته الحضارية والسياسية وإفرازاتها على مستويات البناء المؤسسى والثقافى فى مجالات العمل السياسى والعمل التعليمي، حيث التعليم المدرسى فى جوهره هو عمل سياسى مقصود ومنظم. وتسعى المقالة الحالية إلى تحليل مفهوم الخطاب التربوي، وأشكاله وأنواعه، وأبعاده المختلفة ، ومظاهر أزمة الخطاب التربوى العربى، وأسبابها، وكيفية علاجها والتعامل معها.
أولاً: مفهوم الخطاب التربوي وخصائصه
الخطاب لغة على وزن فعال من خاطب، ومصدره خطاب، ومخاطبة على وزن مفاعلة ومعناه الكلام والمحادثة ومراجعة الكلام والمشاورة فيه، وقد خاطبه بالكلام مخاطبة وخطاباً، وهما يتخاطبان.
ويستعمل لفظ الخطاب إصطلاحاً بمعان شتى تختلف تبعاً لطبيعة الموضوع الذى ينصب عليه الخطاب، وتبعاً للأغراض التى يتوخى تحقيقها منه، ومعنى هذا أن الخطاب يتجاوز الشكلية اللغوية، ويمتد إلى وسائل الإقناع ونوعية البرهان وأدوات الأسلوب البيانى0 ويمكن تحديد معنى الخطاب على أنه .. اتصال إنسانى يتم بمقتضاه نقل المعانى والمفاهيم والأفكار والقيم ووجهات النظر فى موضوع أو أكثر إلى الآخرين، بما يجعل المرسل والمستقبل على موجة واحدة فى مواجهة رسالة معينة 0 وللخطاب التربوى رؤية فلسفية وأبعاد وتحولات، كما أن له طبيعة مرجعية يمكن تحديدها بصورة مباشرة أو تأويلية، ومن ثم لكل خطاب تربوى فلسفة وأيديولوجية تحدد أولوياته وموضوعاته وتحجم قوته، وتفاضل بين مفردات اللغة التعبيرية التى تنتج شكل الخطاب وتوحى بمضمونه أيضاً0
ثانياً- أشكال الخطاب التربوي وتوجهاتها التعليمية
يجمع الباحثون على أن الخطاب التربوي يقسم من حيث طبيعته وتوجهاته المجتمعية والسياسية والأيديولوجية إلى :
- الخطاب الرسمي: وهو خطاب يسعى إلى تحقيق الإجماع الوطني والوحدة القومية حول النظام السياسى وتوجهاته الفكرية والاجتماعية، ويهدف إلى تكوين الأفراد مهنياً، بحيث يوفر للوطن ما يحتاج إليه من أيد عاملة وكوادر وهو فى الغالب يتصف بالتفاؤلية والإصلاحية. (روبول، 2002: 19)
- الخطاب التربوي النقدى: وهو الخطاب النقيض للخطاب الرسمي، ويقوم على نقد المؤسسة، وانتقاد ما هو سائد، وهو ضد النموذج السائد للخطاب التربوي، والغاية منه التغيير الثورى، والعمل على بناء مجتمع مثالي خالى من الهيمنة الطبقية والأيديولوجية.
- الخطاب الإنسانى المتجدد والوظيفى: وهو يتسم بالدقة والفعلية، وينطلق من الطالب ومن الحياة ومن تربية إجمالية وجمالية، ويهدف إلى التفتح والتعاون والديمقراطية والتأثير فى السياق الاجتماعى والثقافى، والعمل على خلق تعليم يقود التنمية، ويوفر أسسس حياة تقوم على مفاهيم الحريات وحقوق الإنسان.
واقع الخطاب التربوي العربي:
يمكننا التمييز بين نوعين من الخطاب التربوي الذي يهيمن في الساحة الفكرية التربوية في هذه المرحلة الحساسة والدقيقة في تاريخ التطور الحضاري للمنطقة فى فترة ما بعد ثورات الربيع العربى، وهما:
- النوع الأول يتمثل في الخطاب التقليدي السائد الذي يعلي من شأن الأوضاع التربوية القائمة، ويتجلى في الكتابات العربية التربوية، حيث يقوم كثير من التربويين العرب بتقديم أنظمتهم التربوية على أنها الأفضل عالمياً والأجود عربياً. ويأتي ذلك بتأثير عدد من المتغيرات الاجتماعية والفكرية والسياسية. ويشكل هذا الاتجاه أحد أخطر عوامل الأزمة الحضارية والتربوية في العالم العربي وأشدها فتكاً وتدميراً، حيث يشكل جبهة لرفض التوجهات النقدية والعقلانية للتربية العربية.
- النوع الثاني: الخطاب التربوي ذو الطابع النقدي، ويمثل هذا الاتجاه طليعة من المفكرين الذين تناولوا التربية العربية من منظور نقدي. وتتمثل أزمة الفكر النقدي التربوي في نمط من الشعارات التي لم تتغير والمقولات التي لم تتبدل على مرّ الزمن. وهذه الأزمة تشكل المهاد الحقيقي لأزمة ثقافية تربوية تتمثل في عقلية تقليدية مضادة للتجديد والتطوير، كما تتمثل في تغييب كبير لكل مقومات الفكر النقدي والفلسفي والانكفاء على منظومة من الرؤى والمقولات المتقادمة تاريخياً.
مظاهر الأزمة الراهنة:
تتنوع مظاهر أزمة الخطاب التربوى العربى لتتضمن:
- عجز الخطاب التربوي والنظم التعليمية العربية عن مجابهة المشكلات الكبرى التى يعانى منها الواقع العربى، وعجزه عن الانخراط فى قراءة الواقع الاجتماعى والحضارى لصياغة خطاب فكرى تساؤلى نوعى يسهم فى تغيير هذا الواقع طبقا لرؤية علمية.
- عجز النظام التربوى عن التأسيس لثقافة تسهم فى الديمقراطية الحقيقية للمجتمع العربى وفى تكريس مبادئ التكافؤ الشامل فى الفرص التعليمية والاجتماعية، واستقراء واقع المدرسة العربية يؤكد على تقصير الخطاب التربوى العربى فى تحقيق العدالة التعليمية كمقدمة لتحقيق نوع من تكافؤ الفرص من جهة، وتقصيره فى إبداع أشكال وهياكل وصيغ تمأسس للديمقراطية، وتعمل على تأصيلها عربياً. (نادر وهبة، 2002:9)
- انفصال مضامين التربية وغاياتها وتوجهات التعليم وكيفياته عن الأوضاع الثقافية والاجتماعية، والعمل على تسييد مفاهيم تعليمية وتوجهات تربوية سلطوية المضمون غيبية الشكل وذلك يرجع إلى تحكم التوجهات الآتية فى الخطاب التربوى وعمل المؤسسات التربوية:
- التركيز على المعرفة التقنية وتأهيل الكوادر البشرية، وذلك بسبب الهيمنة التكنولوجية على الثقافة المعولمة، و الإهمال المتعمد لقضايا الإنسان والمجتمع.
- ابتعاد المدرسة عن المجتمع، وتقلص دورها كمؤسسة فاعلة فيه تهدف إلى تفعيل الحراك الاجتماعى، والعمل على الوصول إلى المهمشين للارتقاء بهم لتحقيق نوع من تكافؤ الفرص بغية إحداث نقل الفعل التعيمية من فعل ينشئ نخب إلى فعل يؤنسن المجتمع.
- واقع المدرسة العربية حيث تقدم المعارف بشكل منفصل ومتباعد، وانفصال المعارف المدرسية عن تجربة الناس وعن واقع الثقافة المجتمعية، فلم تسهم الثقافة المدرسية فى بناء الإنسان أو المواطن ذى الشخصية الفاعلة، المنسجمة وعياً وسلوكاً وتصوراً مع مهمته لمواجهة الواقع والمستقبل. (محسن، 1999: 28)
- عدم إسهام الفعل المدرسى ومخرجاته فى تحديث قطاعات العمل والتنمية ولا فى تغذية وتنمية الطاقات الإنتاجية والاقتصادية و الثقافية، وانفصال مخرجات النظام التعليمي العربي عن واقع احتياجات المجتمع، مما أدى إلى الإبقاء حالة التخلف الاقتصادى والثقافى والفنى من جهة، وتكديس حملة الشهادات بلا عمل، وهجرة معظم الكفاءات إلى خارج المجتعات العربية.
أسباب الأزمة الراهنة:
إن أحد أبرز العوامل التى أثرت على الخطاب والعمل التربوي هو غياب المشروع المجتمعى الواضح، فهناك ضبابية فى الرؤى والغايات، مما أبقى العمل التربوى رهين الجدل والعشرات من الرؤى المختلفة التى تشير إلى خلل فكرى فى قضايا مثل: مانوع التنمية المطلوبة؟ ما هى طبيعتها وحدودها أهى نخبوية أم شعبية أم هى بشرية أم مستدامة، وهناك إشكاليات أخرى مثل إشكالية الديمقراطية، والتى تدلل على الاختلاف المنهجى والاختلاف فى المرجعيات، والأسس الكبرى.
أبعاد الأزمة الراهنة :
إن أزمة الخطاب التربوى العربى هى أزمة سياسية اجتماعية تمثل أزمة النظم السياسية العربية القائمة، وهناك عدة آليات ساعدت على تكوين الأزمة الراهنة:
- المعرفة المدرسية والخطاب التربوى:
إن النظرة الفاحصة للفعل المدرسى العربى تكشف الأهمية المحورية للكتاب المدرسى كمقرر ولعمليات التلخيص والتلقين، وتحويل المعرفة إلى معلومة تلقن وتخزن، عبر الخطابات الصفية المستهلكة وغير الفاعلة والتى تكرست لأسباب أيديولوجية تسعى لتكريس القائمة، وأسباب سياسية تعنى بالحقيقة الواحدة، وثقافية تستند إلى المطلق والجاهز ولا تؤمن بالحوار والبحث والسعى وراء المعرفة.
- المعلم والخطاب التربوي العربى:
إن الغاية من الصورة التى يتم تكريسها للمعلم فى الذهن العام وما فيها من حط من مكانته والحط من رسالته التنويرية والتغييرية، وهى صورة تؤثر سلباً على وعى المعلم، فى ظل هشاشة الخطاب التربوى، وتدنى إمكانيات المدرسة، وفى ظل غياب العوامل المادية والمعنوية لتفعيل دور المعلم والحفاظ على رسالته، والذى يتم تصويره كأنه سبب الأزمة الراهنة وجوهرها مع أنه أحد مظاهرها وتجلياتها. (الجلال، 2001: 27)
واغتراب المعلم عن مهنته ليس بسبب تدنى راتبه أو قلة الموارد المادية التعليمية، ولا بسبب حرمانه من حقوقه النقابية والوظيفية- على أهميتها فحسب- بل بسبب ما يعانيه من إهمال من قبل الخطاب السائد والمسيطر، فلا يشارك المعلم فى اتخاذ القرار فى المدرسة، بل يخضع لتعليمات محددة، وتقييم من قبل جهات متنوعة دون إعطائه أهمية فى الاختيارات التربوية والتضييق المستمر لهامش الحرية المسموح وهو لذلك “يفقد شخصيته وثقته بنفسه” . (الجلال، 2001: 87)
- الطالب والخطاب التربوى:
إن اهتمام الخطاب التربوى العربى بالمعارف واعتماده على النقل والتلقين وسيلة، جعل هذا الخطاب ينعزل عن الطالب، ومنع الطالب أن يكون محوراً للعملية التعليمية، وبالتالى منع تحقيق التعليم كحوار وكممارسة بحثية استقصائية وتأملية.
حلول الأزمة الراهنة:
من أبرز مؤشرات عمق أزمة الخطاب التربوي العربى هو التصاعد المستمر فى الحديث عن تلك الأزمة وعن خطابات الإصلاح، ومن أهم مظاهر تلك الأزمة والدلائل على عمقها واستفحالها هو موقف خطاب الإصلاح منها، حيث يتعامل معها على أنها أزمة طارئة وذات طبيعة تقنية وشكلية، وهذا الخطاب الإصلاحى هو نفسه جزء من الأزمة لأنه يسطح الأزمة ويخفى حقيقتها بما أنها أزمة بنيوية تمتد جذورها فى كل البنيات التربوية، وأنماط القول والخطاب التى تحكمها وتسيرها والأطر السوسيوثقافية المحددة لها.
والسؤال الذى يطرح نفسه : هل الأزمة الراهنة هى مجرد خلل وظيفي طارئ يمكن تجاوزه وإصلاحه من خلال بعض التغييرات والإصلاحات، أم أنها مجموعة من العوائق والعراقيل والمشكلات البنيوية اللتى تأصلت فى بنية النظام التربوى نفسه مما يتطلب إجراء تغيرات عميقة وبنيوية أم أنها أعمق وأبعد من ذلك لأنها أزمة شولية متعددة العوامل تتسم بالتشابك العلاقاتى المركب؟؟
يرى الكثيرون إن الإصلاح التربوي الفعال القادر على تجاوز ما يسمى أزمة التعليم في المجتمعات العربية هو ذلك الإصلاح الراديكالي الذي يقوم على تضافر كل الجهود الوطنية في استغلال كل المصادر التربوية المتاحة في المجتمع وكل الأنماط والوسائل التعليمية الممكن استغلالها استغلالاً فعالاً لتحقيق التنمية القومية الشاملة، والإصلاح التربوي بهذا المعنى هو بالأحرى مسألة نضال سياسي واجتماعي تقوم به الجماهير الواعية في إطار حركة تغير شامل. ومن هذا المنطلق فإننا لا نحتاج إلى تطوير أو إصلاح أو ترقيع، بل نحتاج إلى تغيير جذري، إلى (تثوير) تربوي حقيقي، إلى هدم لأركان النظام التربوي القائم وإعادة بنائه على أسس حضارية إنسانية جديدة تتجاوب مع تطلعات المجتمع وطموحاته الكبرى في عالم لا يعرف غير التقدم والتطور والحداثة والثورة. إننا في عالم يطفح بالثورات ثورة الميديا والجينات وثورة المعرفة والثورة الرقمية والثورة في مختلف الميادين وهذه الثورات المعرفية تتطلب اليوم أكثر من أي وقت مضى ثورة في مجال التربية والمعرفة، ثورة إبيستمولوجية تحطم كل عوامل الجمود والانغلاق والعبثية والصراعات الأيديولوجية من أجل بناء مجتمع حضاري متقدم ينطلق على مسارات تربوية بعيدة المدى.
المراجع:
وطفة ، على أسعد (2016). الدور الحضارى للتربية فى دول الخليج العربي: من أزمة الفكر إلى أزمة الإصلاح، مجلة آراء حول الخليج، مركز الخليج للأبحاث، المملكة العربية السعودية، إبريل، عدد 106.
الجلال، عبد العزيز عبد الله (2001). مكانة المعلم الخليجي وانتماؤه لمهنته، مجلة المعرفة، العدد (75)، سبتمبر، الرياض: وزارة المعارف السعودية.
روبول، اليفي(2002). لغة التربية. ترجمة: عمر أوكان، ط1، الدار البيضاء: أفريقيا الشرق للنشر.
الريماوى، مالك، أزمة الخطاب التربوى العربى. مجلة رؤي تربوية، العدد (16).
من أفضل الأساتذة العرب الذين كتبوا فى هذا الموضوع وتتميز كتاباته بالعمق والدقة فى تشخيص الواقع وتحليله واستفدت منه فى هذا المقال أ.د. على أسعد وطفة