قراءة نقديّة في رواية “نساء في الجحيم ” لعائشة بنّور (الحلقة الرّابعة)

 البناء الفنّي في الرّواية..

abdallah-lalli

عبدالله لالي

(كاتب وناقد- الجزائر)

اعتمدت الروائيّة على تقنيّات متنوّعة في بنائها الفنّي لروايتها، وطعّمتها بأساليب سرديّة متعدّدة أكثر جذبا وإغراء للقارئ، وسنتحدّث عن بعض تلك التقنيات والأساليب بشيء من التحليل..

شعريّة الأسلوب:

وهي سمة تكاد تكون طاغية في معظم الرّوايات الحديثة بحيث تبثّ في مفاصل السّرد الفنيّ روحَ الشعر وكثافتَه ونفسَه المرهف ، وصوره السّامقة ، وألفاظه المنتقاة بعناية بالغة ، وفي كثير من الأحيان يغرق القارئ في لجّة ذلك الأسلوب حتّى ليَظُنّ نفسه أنّه يقرأ قصيدة من الشعر منثورة بشكل فاتن ، وتغلب الشعريّة في رواية ( نساء في الجحيم ) على الحوار وعلى سرد الأحداث بشكل روتيني معتاد ، ولا تلجأ الكاتبة إلى الأسلوب المباشر إلا مضطرّة وفي حالات قليلة ، لما يتطلّبه من سرد بعض الأحداث وإدارة الحوار أحيانا ، والانتقال من حدث لآخر .

وهذه مقتطفات حيّة من ذلك الأسلوب الشفّاف أخذناها من فصول متعدّدة من الرّواية:

عندما تتحدّث عن مجاهدات الثورة التحريريّة الجزائريّة تقول:

” تحوم الشهادة على وجوه باسمة ، ترفرف روحها مزهرة ، قابضة على روح الألم بقوّة ، تذرف داء الحريّة بغزارة ، لم تضيّع شارع الحبّ خلفها ولا رعشات الكبرياء جسور قسنطينة من الاهتزاز تحوّلها شهادتها إلى قصائد من الحريّة والعزّة والكرامة لتبدأ رحلة الكلام ترسم وطنا من لوعة ، ووطنا من ماء ، ووطنا من صخر عتيد “

لو وصف شاعر هذا المشهد المذهل ماذا كان سيضيف إليه غير الوزن والقافية..؟ !، ومشهد آخر تجلبِبُه الشاعريّة من مبدئه إلى منتهاه :

” سنعود لضيعتنا ولحقولنا ، ولصوتنا المبحوح على المآذن والمصلوب على المعابد ، سنعود كحمائم العشّاق لجنائن الهديل ولأعراسنا ولألحاننا الحزينة ومواويلنا وأهازيجنا ” ص 129.

هذه ( أيلول ) تحلم بيوم العودة إلى الوطن فتعزف أنشودة من الحنين بكلمات من بهاء الوجد ، وأريج الأمل ، تزفر بموسيقى الكلمات ، ويُرجِّع الكون من حولها الصدى ، إنّها شعريّة الأسلوب التي تجعل من الكلمات كأنّها أرواح تطير فوق النّص ، وتصيب القارئ بنشوة التذوّق الفنّي العالي ـ وتقتنصه من لحظته ، لتوقعه في لحظة المتخيَّل السّاحر.

وعندما تتحدّث المؤلّفة بلسان غسان كنفاني وهو يصف والدته ومعاناتها ، يأتي النّص مفعما بالشعريّة كأنّه الموج الهادر :

” كنت أحاول أنا الطّفل العكّاوي أن أسرق منها شموخها الماثلَ أمامي وهي مزهوّة بولادتي، تحاصرها حرقة المكان وفي الأفق ملامح وطن يشيّده الحنين ونار الشوق نازفة تنخر جسدها المتعب في زاوية معتمة من هذا المكان ..” ص 186.

ولو تتبّعنا فصول الرواية كلّها لخرجنا بنسبة لا تقلّ عن 80 بالمائة منها يمثُل فيها الأسلوب الشعريّ بيّنا وضّاحا لا مرية فيه ، فضلا عمّا يختلط ببقيّة النّسبة الأخرى من مزاوجة والتداخل بين الشعريّة والحوار والصور الفنيّة الخلابة..

guilaf-nisaa

تعدد ضمير الخطاب السّردي:

ومن الأساليب الفنيّة المميّزة التي اتخذتها الكاتبة ريشة فنّان في رسم مسار الأحداث ؛ طريقة تنويع الخطاب الروائي ، بحيث يتغيّر ضمير السّارد ( الرّاوي ) من حين لآخر ، وقد يتعدّد عند السّارد الواحد بحيث في الفصل نفسه يحيل السّارد الدّفة لسارد آخر يتولّى مهمّة الحكي، وهي طريقة فيها بعض الصّعوبة ، وتفرض على القارئ تركيزا كبيرا ، بحيث لا يمكن أن يستنيم إلى قراءة آلية ، بل لابدّ عليه أن يعرف صاحب الخطاب في كلّ مرحلة يقطعها من تقفّي منحنى الأحداث ، لاسيما وأنّ ضمير الرّاوي لا يظهر أحيانا من بداية النّص، بل يتأخر إلى أن تصرّح به بعد شوط معتبر من السّرد الروائي..

من المعتاد في الكتابة الروائيّة أن يتحدّث الراوي بضمير المتكلّم والذي يكون البطلَ غالبا. وفي بعض الأحيان يتولّى المؤلّفُ نفسُه سردَ الأحداث وهي طريقة عليها بعض المآخذ ، إذ رفض كثير من النّقاد تدخّل الكاتب في أحداث الرواية بإظهار شخصيّته في طواياها ، فيقطع بذلك انسيابيّة الأحداث وسلاستها، وقد ينوّع المؤلّف بين هذا وذاك.

لكنّ الروائيّة عائشة بنّور في ( نساء في الجحيم ) نوّعت في هذا الضمير وعدّدته ، لتعطي مجالا للحديث عن بعض شخوصها من منظور خارجي ، لكنّها غالبا اعتمدت على البطلة الأساسيّة ( أيلول ) في تولّي دفّة السّرد ، لكنّها في الفصل الثاني تمنح الدّور لـ ( يافا ) فتتولّى عمليّة السّرد، ثم أرجعت إليها زمام الأمر مرّة ثانية ، ثمّ تحوّل السّرد إلى غادة ومرّة رابعة إلى غسّان ، ثمّ في مرحلة من المراحل إلى أندريا ليتحدّث عن نفسه ، في آخر المطاف تعود إلى (أيلول ) لتختم ما بدأته ..

وقلّما أظهرت الكاتبة ضمير السّارد ( المؤلّف ) ؛ مثلما فعلت في الفصل الذي بعنوان اللّحظة الخرساء في صفحة 76 ، ولم يظهر الرّاوي البديل للكاتبة إلا بعد صفحة ونصف ، ولا يَحسُن أن يُظهر المؤلّف نفسه في الرّواية إلا إذا كان يتحدّث عن حياته الشخصيّة ، أو أنّه هو نفسه أحد شخوص الرواية بمشاركته في الأحداث ، وهنا يكون ظهوره طبيعيّا ، ومستساغا.. !

تقنية الاسترجاع:

وهي تقنيّة فعّالة دائما في الأسلوب السّردي ، لأنّ في الاسترجاع نوعا من استحضار الماضي بقداسته ، والإنسان لأمر ما يقدّس الماضي ، وينظر إليه بإجلال وإكبار ، كما أنّ الحدث التاريخي يفرض علينا استعمال هذه التقنيّة ليعوّض المؤلّف على القارئ ما فاته من فرصة معايشة الأحداث في حينها ورؤية أصحابها ، كما أنّها تكسر رتابة السّرد ، ورغم أنّها تقنية قديمة إلى حدّ ما إلا أنّها لم تفقد فعّاليتها إلى الآن .. وما تزال تستهوي القارئ والسّارد على السّواء..

ورواية ( نساء في الجحيم ) اعتمدت على تقنية الاسترجاع بشكل كبير ، ونعود إلى نماذج من تلك التقنيّة داخل الرواية نستنطقها ونعرضها على القارئ ليتمتّع معنا بأسرار الدّهشة فيها:

أوّل جملة في الرواية خطّتها الكاتبة بعد العتبات التي قدّمتها بين يدي المتن ؛ هي عبارة عن استرجاع واعتصار للذّاكرة الموجوعة وذلك عندما تقول في 7 :

” ارتعدت فرائصي وانتابني إحساس بالمرارة عندما استعدت ذاكرتي المشروخة عبر أحد شوارع المدن التي أزورها اليوم وأبكي في صمت قاتل ..”

كانت هذه البداية.. استرجاعا لذاكرة مشروخة ، وتتساءل بعد ذلك عمّا يفعل غسّان بتلك المدينة..؟

وتقول بعدها في الصّفحة التاسعة مؤكّدة على مركزيّة عمليّة الاسترجاع في الرواية:

” كنتُ غائبة عن الوطن بكلّ الألم الذي يسكنني ، وعند عودتي توقّفت مع ذكرياتي وصور حميميّة ومؤلمة أسترجعها مع أولئك الذين جمعتني بهم الأقدار ، أو رسموا لحياتي معالم وشكّلوا من روحي نبض الحياة الجديد ” .

الاستذكار حاضر دائما حتّى أثناء عمليّة الحوار بين شخصين من شخوص الرّواية ، مثلما كان مع أيلول ودلال المغربي التي كانت تستحضر بطولات وتضحيّات نساء الجزائر أثناء الثورة التحريريّة ، وما كانت ترويه لها مما قرأتْه عنّهن أو شاهدته في أفلام سينمائيّة ، تستذكر كلّ ذلك وكأنّها عاشته معهن دقيقة بدقيقة ..

ولح وريّة عمليّة الاسترجاع ومركزيّتها تطبع بعض عناوين فصول الرواية بطابعه ، مثل فصلي (الذّاكرة المشروخة ) و( بين تلافيف الذّاكرة ) ، فهذا الاسترجاع ليس استعادة لذكريات حزينة وحسب ، بل إنّ الذاكرة التي تقوم بذلك مشروخة أيضا ، وكأنّها جدار أصابه زلزال عنيف ، ورسم فيه شروخا لا تُرمّم ، أو من الصّعب ترميمها ، أو أنّه يحبس ( الاسترجاع ) أبطاله بين تلافيف ذكرياته فلا ينفصمون عنها.. !

وخلال هذا الاسترجاع تطاردها اللحظة الخرساء باستمرار ، تقول في صفحة 105 :

” مازلت أشهد في زحمة الفوضى ، على امرأة بُترت أوصالها أمامي في لحظتي الخرساء ورضيع يبكي من الألم ، وأرواح أخرى أنهكها الوجع ” .

وحتّى اللحظات الأخيرة من الأحداث تظلّ الذاكرة تطاردها مثلما تطاردها لحظتها الخرساء التي سكنت في أعماقها ، تقول في صفحة 199 :

” وقفتُ للحظات أرقب الصّورة ، اغرورقت عيناي بالدّموع، وأنا أحضن ذاكرتي ولحظتي الخرساء بين ضلوعي “.

الصور الفنيّة:

أيّ رواية جيّدة لابدّ أن تحمل حشدا معتبرا من الصور الفنيّة التي تكون بمثابة الطعم الذي يجتذب القارئ ، أو النجوم الهادية التي تساعد على تحمّل ذلك الطريق الشاق والطويل الذي يرسمه له المؤلّف ويحاول إغراءه بتتبع آثاره ، والتوقّف عند بعض مفترقاته متأملا أحيانا ومستفسرا في أحايين أخرى ، إنّ الصور الفنيّة تقدّم لنا الفكرة في طبق من ذهب ، وأحيانا محاطة بحشد من الرياحين والزهور..

وكان نصيب ( نساء في الجحيم ) حشدا هائلا من تلك الصّور البديعة الفاتنة ، ولنتملّى جمال الرواية بشكل أكبر ؛ لزام علينا أن نقف عند بعضها متأملين ومستمتعين..

الصورة الأولى:

تقول أيلول في ص 13 :

” وغطست كسمكة صغيرة في عمق فراشي “

وفي هذا التشبيه صورة لطيفة جدّا ، كثيرا ما تحدث للأطفال في صغرهم ، عندما ينزلقون تحت الأغطية في فُرُشِهم ، وتكون أقرب صورة لذلك المشهد وأجملها هي صورة السمكة التي تنزلق في الماء. وربّما كانت هذه الصورة من الصور القليلة في الرواية التي توحي بالبهجة والفرح، إذ غلب على جلّها الحزن والكآبة والمعاناة الشديدة.

الصورة الثانية :

عندما تتحدّث ( أيلول ) عن أبيها سالم البكري تقول :

” أهرع إليه محتضنة في مخيلتي كلّ أطياف السّماء ..”

صورة غير اعتياديّة فيها نوع من الجدّة الملفتة ، إذ تجعل البطلة من أشواقها إلى أبيها ، وشدّة حبّها له وتعلّقها به ( أطيافا ) ، لكن لا تراها وتكتحل عينها برؤيتها وحسب بل تحتضنها وتضمّها بعنفوان ، ولكن ليس في صدرها إنّما في مخيّلتها .. يا لَلَوعة الاشتياق .. !

الصورة الثالثة:

في فصل بعنوان ( وجع الانتماء ) تبدأ الكاتبة حديثها بهذه الصورة الفنيّة ، التي تشبه مَن يمتح الماء من بئر غار ماؤها ولم يبق فيه سوى الوَشَل ، يُبقي على رمق الحياة البئيسة ، تقول الكاتبة على لسان ( أيلول ) :

” في يوم عاصف وبارد انفلتت خيوط شمس باهتة من سحب متراكمة في الأفق تضيء ملامح وجوهنا المتعبة..”

للصورة دلالة كبيرة على مبلغ الشقاء والبؤس الذي وصل إليه الوضع في فلسطين ، وما صار يعانيه أهلها من قساوة ظروف الحياة وقساوة الاحتلال ، وهنا كان لابدّ من صورة مشهديّة مركبة، في ظاهرها لا تدلّ على أكثر من فصل من البرد ، وشدّة الشتاء وكآبة منظره الذي تمنع سحبه ظهور خيوط الشمس إلا بصعوبة ، لكنّ المشهد بالرّجوع إلى عنوان الفصل أولا ( وجع الانتماء ) ، وثانيا إلى بقيّة الأحداث تصبح الصورة مؤشرا فاضحا للوضع المزري الذي صار يعيشه الفلسطينيون ، والذي لا يسمح بتسرّب بصيص النّور إلا بصعوبة بالغة.. ! إنّها دائما تذكرنا بالريشة الفنيّة التي تشكل مشهدها بالحروف لا بالألوان والأصباغ.. !

الصورة الرّابعة:

وهذه صورة أخرى تشبه الصورة التشكيليّة الحزينة التي رسمها فنّان بدموع عينيه ووجع روحه:

” الخراب الضّارب أطنابه يرثي المدينة ، يرثي الأسوار المنقوشة ببصمة الأجيال البائدة التي نفخت فيها من روحها ، وتفنّنت فيها من صبرها ، وما أراه اليوم لا يعدو كومة أشباح لوجوه تلاشت في زحمة الحكايا واللّهب ” .

صورة ضاجة بالألم والوجع بلا شكّ صورة تمزج بين الشعريّة والتصوير التشكيلي البديع، رغم الحزن الهائل الطافح من جنباتها .. !

الصورة الخامسة:

وهذه الصورة لا تقلّ دهشة عن سابقاتها ، تقول أيلول على عادتها في رسم الألم بمخالب الذاكرة المشروخة ، وبشكل دراميّ يمزّق الأكباد مخاطبة غادة في ص153 :

” حاولت إقناعها بأنّنا أشلاء فوق الأرض ، لكنّها تستعيد تلك التفاصيل وبعض الأشياء بثقة وكبرياء ، بصراحة كنت أفضّل أن تزرع مساحات الودّ والمحبّة والعطف على أرضي القاحلة ، لاسيما حينما تبدو أثار الدّهشة تتوزّع على ملامح وجهي المصفرّ “

صورة شعريّة مركبة من عدّة تعابير مجازيّة قويّة ( أشلاء فوق الأرض ) كناية عن مدى الألم والقهر والوجع الذي أصابهم ، ( تزرع مساحات الودّ والمحبّة والعطف على أرضي القاحلة ) جعلت الودّ والمحبّة والعطف أشياء يمكن أن تزرع في أرض نفسها القاحلة ، وكلّها تعبيرات بليغة ، لو صيغت بطريقة عادية ومباشرة ، لكانت شيئا أليفا لا يستحقّ أن يوصف بأنّه إبداع فنّي.. وسرعان ما يموت على شفاه القرّاء من القراءة الأولى ، لكنّه بهذه الطريقة يستحق أن يحيا ويُقرأ مرارا ويُتَمثّل به.. !

والصّور الفنيّة في الرواية لا تكاد تحصى ولا تخلو صفحة من صورتين أو ثلاث ، أو أكثر أحيانا ، فبعض الصفحات كلّها لوحات تشكيليّة بديعة ، وذلك أحد أسرار نجاح الروايات واستلابها لقلب القارئ والنّاقد معا .. إنّها تستثير النّاقد وتستفزه فيحبّ أن يغوص في أغوارها، ويفكّكها إلى عناصرها الأوليّة بحثا عن سرّ الجمال فيها، ثمّ هو بعد ذلك يحاول أن يجاريها (جماليّا ) في نسج نصه الإبداعيّ..!

(يتبـــــع)

اترك رد