ولكـــن ماذا بعـد الصدمــة؟

guilaf-nisaa

الدكتور دليلة مكسـح

(كاتبة وباحثة- الجزائر)

كـــل شيء يبدأ من العنــوان، وإليه يعـــود، وكثيرة هي العناوين الصادمة لقارئها، ولكن ماذا بعد الصدمــــة؟ (نساء في الجحيم) للكاتبة عائشة بنور.

عنوان يبدو للوهلة الأولى صادما، ومثيــــــرا للانتباه، لارتباطه بمرجعية دينية تُبرز المآل الذي يؤول إليه الإنسان بعد موته، فإما جنة وإما نار، فتتوالد الأسئلة من خلاله لتقف على ماهية هذا الجحيم، وعلى ماهية النساء المرتبطات به، اللواتي قدمتهــــــن الكاتبة بصيغة التنكير، لتخرجهن من دائرة التعريف والتحديد، ما يفتح الذهــــن على تأويلات عدة، لا تجد جوابها التقريبي إلا بعد قراءة الرواية، التي تشتغل ظاهريا على بُعدين، بُعد نضالي تحرري ذو ارتباط بالقومية، التي تمتد في فضاء يتحرك من الجزائر حتى فلسطين، وبُعد نوستالجي متخمة به تفاصيل العمل، حيث تتحرك الشخصيات التي كان أغلبها نسائي ضمن فضاء انفعالي رهيب سمته الاغتراب، والانسحاق في تفاصيل واقع مرير ومبهم، والاغتراف من ذاكرة مشتتة عبر تقنية الاسترجاع، التي تقود تلك النماذج النسائية نحو الماضي هروبا من الحاضــر، وحتى المستقبل الذي لا يبدو جميلا في مخيلاتهن، انطلاقا مما عانينه من تهجير وضياع وفقد.

ويتنوع الاسترجاع بين ذاكرة ذات صلة واقعية بالشخصيات النسائية، تتعلق بحياتهن الماضية، وبين قصص نضالية لنساء أخريات سمعن عنهن أو قرأن، والمشترك بينهن هو المعاناة والألم والعذاب، هذا الاشتغال على الذاكرة رغم سوداويتها، تـُحَوِّلها الكاتبة في الباطن إلى شكــل من أشكال المقاومة، فالذاكرة وحدها هي التي تحفظ هوية الشخصية، وتعيدها إلى جادة الصــواب، وتمنحها حضورها رغم إذعانها لوطأة الواقع، فإذا كانت تلك الشخصيات من أيلول إلى غادة إلى يافا…لم تستطع أن تنقل وطنها بمنازله وأشجاره وتلاله وسكانه معها إلى المنفى، فهي تستطيع حمله في قلبها، وفي ذهنها، وترتحل به إلى أي مكان دون أن يحاسبها أحد..يمكنها أن تتذكـــر وطنها كيفما شاءت، ويمكنها أن تسمع للصوت الفيروزي متى شاءت، والذاكرة هنا وإن بـدت شكلا من أشكال المقاومة، فهي تبدي في جانب آخر حجم المعاناة التي يعيشها الشعب العربي، من خلال نموذج النساء العربيات المقهورات، والمسلوبات كرامتهن وأحلامهن وحاضــــــــرهن ومستقبلهن، لا يملكن غير الماضي الذي يستعدنه بكل ألم وشغف أيضا، وهو ما يبرز قســـاوة الواقع رغم أنه لا يوجد أفضل من الدفاع عن الوطن، والكاتبة إذ تلفت الانتباه لمعاناة النساء فهي لا تبخسهن حقهن في النضال، ولكنها تريد أن تضيء ذلك الجانب المعتم الذي يقبع وراء عملية النضال، والذي يمتلئ بروائح الخوف الدائم من الفقد، والوجع بعد الفقد، واليأس من الحياة ولذتها، والمثير أيضا أن تلك الشخصيات بعد تهجيرها بقيت منعزلة، فهي لم تتغلغل في الأمكنة إلا بحثا عن آثار هوية باقية هناك، بحثٌ عن مجد ضائع، وهروب نحو الماضي، ولا نجد ذلك التفاعل العميق بينها، وبين المجتمعات التي صارت تعيش فيها، وكأنها فقدت بوصلة الحياة كلية.

لقد اشتغلت الكاتبة عائشة بنور على رصد التفاصيل النفسية للشخصيات، التي كانت تحت وطأة المنفى القاتل، كأني بها عايشت معهن التجربة وقاسمتهن المعاناة، أو كأني بها استمعت لإدوارد سعيد، وهو يقول ذات يوم عن المنفى: “المنفى هو أحد أكثر الأقدار مدعاة للكآبة…والمنفي يعيش حالة وسطية لا ينسجم تماما مع المحيط الجديد، ولا يتخلص كليا من عبء البيئة الماضية، تضايقه أنصاف التداخلات، وأنصاف الانفصالات، وهو نوستلجي وعاطفي من ناحية، ومقلد حاذق أو منبوذ لا يعلم به أحد من ناحية أخرى..” هذه النوستالجية التي أوقفت الزمن روائيا، حين لم تستطع الشخصيات التخلص من ماضيها أو تجاوزه، وكل حركة منها هي في عمقها حركة نحو ما مضى، ما يجعل الأحداث متراكمة سكونيا، فالحياة متوقفة في أذهان النساء الموجوعات، والحاضر لا وجود له، سوى أنه لحظة للتذكر وللتألم أكثر، تقول الكاتبة على لسان أيلول: ” أشياء كثيرة كنت أبحث عنها في ذاكرة تجرني إلى الوراء، وتستوطنني حد العجز.” هذا العجز الذي يقودها إلى البحث عن بديل مكاني وزماني أيضا، من خلال نموذج إسبانيا، ولا أظن أن اختيار الكاتبة له كان عشوائيا، فهو المكان المعبق برائحة الحضارة العربية في عصرها الذهبي، وهذه العودة النوستالجية إليه، هي تعويض عن الخسارات الحاضرة، وكأن أيلول تريد شيئا ملموسا ومرئيا أمام عينيها، بعد أن صار الوطن مجرد ذكريات، إنها محاولة للتجذر في مكان جديد، ولكن دون القدرة على قبول الجانب الآخر فيه، إنها لا تتنصل عن هويتها، ولا تندمج مع الآخر، إنها تبحث عن هويتها في ما تركته حضارة أجدادها، ومن هذا الموقف بالذات تتحدد رؤية الكاتبة تجاه الوضع العربي العام، وتظهر إرهاصات البديل الذي تصبو إليه، وإن لم تشر إليه مباشرة، بديل يستنبت من لحظة الضياع والفقد، ردة فعل مقاوِمة، تبدأ من الذاكرة باسترجاعاتها المختلفة، لتتمَّ إعادةُ تجذيرها في الحاضر، ثم الانطلاق بها نحو المستقبل، ولكن هل يا ترى فكرت المبدعة عائشة بنور في دفع نساء الجحيم نحو أفق أرحب؟ تبدأ انطلاقتهن من الذاكرة المنشطرة باتجاه مقاومة مستقبلية تبدأ من اللحظة الآنية، يتم فيها الاشتغال على بث الروح في النماذج النسائية بخاصة شخصية أيلول، والخروج بها من إطار الخوف والسكون، إلى إطار الحركة والجرأة والبحث عن التغيير.

إن رواية نساء في الجحيم هي في نظري محطة أولى، بحاجة إلى أجزاء أخرى مكملة لها، نتمنى من الكاتبة أن تشتغل عليها لتوسع من فكرة هذه الرواية، فتحول الأبعاد النضالية التي ارتبطت بذاكرة موجوعة ومكسورة، إلى فعل واقعي، بإخراج الشخصيات من حصار الحنين، والبكائية إلى فضاء الرفض، والمقاومة، لِيَكُنَّ نموذجا حيا وفاعلا ومسهما في تحريك الواقع الروائي، الذي يسير نحو استشراف تفاؤلـــي..فالمعركة القادمة قد تكون معركة نسائيـــة بامتيـــاز..

اترك رد