ملامح الفضاء المكاني والزّماني
عبدالله لالي
(كاتب وناقد- الجزائر)
الفضاء المكاني ..
قالت بطلة الرّواية ( أيلول ) في ص 9 :
” ثمّ تذكّرت قول جدّي اليعقوبيّ آنذاك رغم أنني لم أستوعب قصده :
( الأرواح تسكن الأمكنة يا صغيرتي أيلول !! ).
لو قمنا بمسح سريع داخل مفاصل رواية ( نساء في الجحيم ) لنحّدد مجال الفضاء المكاني الذي توزّعت عليه أحداثها ؛ فإننا نجد مجالين رئيسيين لهذا الفضاء – وهو فضاء رحب لا يكاد يحدّد بدقّة – فالمجال الأوّل هو وعاء اللّحظة السرديّة التي يعيشها أبطال الرواية ، وهو وعاء سرعان ما يتلاشى ويختفي مؤقتا ، ليحلّ محلّه المجال الثاني ، وهو وعاء لحظة التذكّر والاسترجاع، وقد شغل المساحة الأكبر من حيّز الرواية.
تعدّد الأمكنة:
هناك الأمكنة الكبرى والرّئيسيّة التي جرت فيها أحداث الرواية ، وهي فلسطين الجزائر ، سوريا، إسبانيا ، وكانت الأحداث تدور فيها بشكل متناوب ومتداخل أحيانا حدّ التمازج،كما هو الشأن بالنّسبة لفلسطين والجزائر ، وأحيانا ينقلنا الراوي من مكان إلى آخر متّكئا على خاصيّة ( الاسترجاع ) الذي يطوّف بنا حيث شاء أبطال الرواية.
وهناك فضاءات فرعيّة أو ثانويّة مثل المدن والبلدات كـعكّا ومخيّم عين الحلوة وبيروت ، وقسنطينة، والقصبة والقدس ، وحتّى تلك الفضاءات الصغيرة ، مثل ركام البيت الذي تقف عنده البطلة (أيلول) مطوّلا ، ومطار باريس ومطار مدريد والحافلة التي قام المقاومون باحتجازها في ( حيفا ) ، والبيت الذي في مدريد حيث كانت غادة تنتظر عودة غسّان كنفاني ، قبل أن يجيئها نبأ مقتله (الفاجعة )..!
هذا الفضاء رحب جدّا ومتعدد ومتداخل ولكنّه يَضيق ..ويضيق كثيرا بأبطال الرواية لأنّه فضاء عاشوا فيه حياة الاحتلال والتدمير ثم التهجير والتّشرّد ، فلا يكاد يتسع أفقه في قلوبهم مهما كان رحبا..
ومن أمثلة الأمكنة التي نالت حظا وافرا من الوصف الدّقيق نذكر ( عكّا ) ، التي وقعت فيها جريمة التفجير البشعة وكانت هاجس البطلة ( أيلول ) على مدى معظم صفحات الرواية، وعبّرت عنها بتلك اللازمة الحزينة ( اللحظة الخرساء ) ، تقول المؤلّفة:
” عكّا حزينة ، المدينة الجميلة تناثرت كالهباء المنثور أمامي، الدّخان الأسود يتصاعد في الأفق، يلفّ أحلامنا، ورائحةُ لحوم بشريّة مشويّة تحترق، وخارج الأفق شمس محتشمة ، محجّبة بوشاح أسود يسرق ضياءها .. ” حتّى تقول :
” المدينة بعضها واطئ ، والآخر كومات من الرّكام ، وأنا لا أدري في أيّة نقطة من المدينة أقف!”
حالة المكان هنا تتفجّر حزنا وأسى ، وكلّ شيء فيه يوحي بعاصفة من اليباب قد اجتاحته ، واجتاحت أرواح أصحابه معه ، من مات منهم هو الأقلُّ ألما ، والأقلّ إحساسا بالمأساة على الأقلّ في نظر الأحياء ، مَن بقي منهم على كلّ حال بين حافة الهاوية وحافة التّشرّد والضياع، موت مضاعف يستشعره أولئك المنكوبون في مدينتهم ووطنهم في اليوم ألف مرّة ، وصراخهم المكتوم يزيدهم عذابا فوق عذابهم.
وإذا انتقلنا إلى مكان آخر من قارّة أخرى تبدو أكثر أمنا وأكثر شعورا بالحريّة والانطلاق ، لكنّ الأمر بالنّسبة لأولئك المشرّدين عن أوطانهم لا يختلف الأمر كثيرا ، تقول الكاتبة على لسان بطلتها ( غادة ) واصفة مشاهد من باريس:
” باريس باردة وصباحها بارد وهي ملفوفة في وشاح أبيض ، ضباب كثيف ووجوه شاحبة وباردة ..”
شعور الغربة والوحدة والتشرّد يرافق أبطال الرواية حتّى ولو كانوا في بلاد الجنّ والملائكة ، وأذكر هنا قول شوقي :
(هب جنّة الخلد اليمن * * لا شيء يعدل الوطن)
وهناك مدينة أوربيّة أخرى استوقفت بطلة الرواية أيلول طويلا وأمعنت في وصفها ، هي العاصمة الإسبانيّة مدريد ، وهي ذات الإرث التاريخي الإسلامي بمسحة شرقيّة لا تخطئها عين الرائي وتقول عنها:
” وأنا أغوص في هذه المدينة الكبيرة، أراها كحسناء صامتة عن ماضٍ اغترفت منه الخطايا الكبرى، تقاسيم وجهها تجسّده فسيفساء مبانيها، وهويّة ضائعة سرقت ملامحها الجميلة ومن كحل عيون بائسة عانت من الدّمع والقهر ..” ص 198
ثمّ تتحدّث في موقع آخر عن إسبانيا كلّها ، وتقول أنّها تذكرها بمدينة أخرى في الجزائر هي مدينة قسنطينة ، وهذه المقارنة واستحضار مدينة جزائريّة في أثناء الكلام عن إسبانيا له رمزيّته التّاريخيّة ، التي تحفر عميقا في قلب البطلة ، وتشكل إحدى ملامح شخصيّتها، ويتضح ذلك جليّا عندما تقول في ص 217 :
” كان شعور الماضي يتكلّم بداخلي ، حنين عميق يجذبني نحو إسبانيا المدينة التي جعلت التاريخ وحده ينطق بين شفتيّ …”
ولا تغفل المؤلّفة أيضا أن تصف الجزائر في شيء من المرارة على لسان الكاتب الفرنسي الشهير ( ألبير كامو ) إذ تقول:
” صاحب ( الغريب ) ” ألبير كامو ” ابن أمّه فرنسا تغنّى بالسّحر الرّباني الذي حبا به الله الجزائر ، والتي عاش أهلها بؤسا اجتماعيّا من جراء الاستعمار الفرنسي، إذ يقول:
” ليس أشدّ وقعا على المرء من أن يرى ذلك البؤس في أحضان أجمل بلد في العالم ” ص 176
وكلمة ( ابن أمّه فرنسا ) لم تكن عابرة في هذا السياق السّردي ، بل هي مقصودة ولها مدلولها الخاص فهذا الكاتب الفرنسي الشهير رغم حبّه للجزائر ، وقضائه لفترة طويلة من عمره فيها، وأسفه لبؤس أهلها ، إلا أنّه وقف إلى جانب وطنه القومي فرنسا ، وهي تزيد البائسين بؤسا وتطحنهم بحافرها الاستئصالي الأعمى ، ولم يقف ألبير كامو موقفا مشرّفا ضدّ هذا المحتلّ الغاشم.. ! ومن ثمّ نفهم معنى قول المؤلّفة ( ابن أمّه فرنسا ) ..
الفضاء الزماني
” ..ولكن الماضي يا نابلس هو الإحساس بالذّات المبتورة وآلامها ، ومن الصّعب أن نفصل بين ذات الماضي وذات الحاضر ..” ص 109
ربّما كان الفضاء الزماني الأكثر بروزا والأكثر حضورا في الرواية ، لأنّه انفتح على التاريخ والتاريخ يجعل من الحياة عدّة حيوات..
وقد وزّعت الروائيّة أزمنة الرواية إلى ثلاثة أزمنة رئيسيّة:
الزمن الأوّل: الزمن الآني وهو زمن الحكي أو السّرد أو لحظة الاسترجاع..وهو الزمن الأقلّ في أحداث الرواية. توزّع ما بين مخيم عين الحلوة وعكا وإسبانيا غالبا ..
الزمن الثاني: ويمثّل الماضي القريب ، حيث يروي بداية الاحتلال 1948 والتهجير والتّشرد، والمقاومة، ومن أمثلته ( بداية النكبة وعمليات القتل والإبادة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي في حقّ الفلسطينيين ، وما حدث أثناء الثورة الجزائريّة ، وعمليّة احتجاز الحافلة الإسرائيلية )، وغيرها من الأحداث التي ترجع إلى الماضي القريب..
الزّمن الثالث: تستخدمه الكاتبة لاسترجاع الماضي البعيد بشقيه، المظلم والمنير ، شقّ مشرّف يستنهض الهمم ، وشقّ آخر يحيل على المقولة المحيّرة التي دوّخت المفكّرين ( التاريخ يعيد نفسه )، ومن أمثلته ( ما حدث في غرناطة عام 1492 م لعائلة أبي عبد الله الصّغير الذي ضيّع ملك آبائه وأجداده ، وتقابله صفحة مشرقة عن ابن حزم وأبي مدين التلمساني ) …
كما نجد أيضا حضورا للمكان والزمان في أسماء أبطال الرواية مثل ( يافا ) وهي إحدى المدن الفلسطينيّة الشهيرة ، و (أيلول ) وهو شهر سبتمبر ، تقول المؤلّفة على لسان بطلتها أيلول:
” أتذكّر عمليّة أيلول الأسود في أولمبياد ميونيخ ، وهو الاسم الذي حُفر في ذاكرة أبي فأطلقه عليّ “
وعلميّة أيلول الأسود هي عمليّة احتجاز رياضيين إسرائيليين رهائن في أولمبياد مونيخ بألمانيا 1، من طرف فدائيي منظمة أيلول الأسود، وانتهت العلميّة بمقتل 11 رياضيّا إسرائيليا ، و5 فدائيين فلسطينيين وكانت العمليّة ردّا على عمليات الاغتيال التي يقوم بها الصّهاينة ضد الشخصيّات الفلسطينيّة البارزة في الخارج.. وجاءت التسمية بأيلول الأسود بسبب المنظمة التي قامت بهذا العمل ، وتشكلت على إثر الأحداث التي نُكبت فيها المنظمات الفلسطينيّة التي كانت مستقرّة في الأردن ووقع بينها وبين نظام الحكم عام 1970 م صداما عنيفا انتهي بإخراجها من الأردن بعد معارك عنيفة ودامية.فأيلول رمز للمحنة التاريخيّة والنّكبة التي انطبعت في مخيال الزمن الفلسطيني ، ولكن انقلبت الآية وصار اسم أيلول رمزا للشجاعة والبطولة والفخر بعد عمليّة ميونيخ، وحضور هذه المسمّيات في هيئة أسماء أبطال الرواية لها دلالاتها القويّة ومغزاها العميق..
وفي نقلة زمنيّة أخرى ضاربة في عمق التاريخ تقفز بنا البطلة إلى استحضار الزمن الأندلسي الغابر :
” ضُعضع كيان غرناطة حينما غلبت الملذّات على شهوات النّفس وفتح بابها على مصراعيه لصراع السيّدات الحالمات بالملك ومحاولة الظفر بالسّلطة لأولادهنّ كما يقول التّاريخ، وذلك حينما تزوّج مولاي الحسن وهو في سنّ متقدّمة من الفتاة الإسبانيّة النصرانيّة ايزابيلا دي صولي ، والتي كانت جارية عند السّلطان أبي الحسن والتي أسلمت ظاهريّا وسمّيت ثريّا وأنجبت منه وأصبحت سيّدة القصر الأولى …” ص218
ربط عجيب وقويّ بين الحال الذي صارت فيه الأمة العربيّة والإسلاميّة اليوم ، وما كانت عليه الأندلس قبيل سقوطها. فعلا التاريخ يعيد نفسه ، تتغيّر الأصباغ والألوان وتتبدّل الشخوص ، وعرائس خيال الظلّ ، والوضع هو هو ، في حالة من التردّي والسقوط ، وكأنّ الإنسان لا يتعظ بالتاريخ ولا يستفيد من الماضي ..!
وهذا الولع الكبير باستحضار التاريخ من مراحل مختلفة وحقب زمنيّة متعددة بعضها قريب وبعضها بعيد ، وأجرأة كثير من أحداث الرواية عليها ، تفسّره المؤلِّفة بأنّ بطلتَها مولعةٌ بالتاريخ ، تغلغل في دمائها وشرايينها ، تقول في صفحة 104 مستنطقة بطلتها:
” قرّرت يا أمّي أن أكمل دراستي وأدخل قسم التّاريخ ، أحبّ التاريخ وأكرهه لأنّه سرق منّي نور عيوني.
أريد أن يجيبني عن أسئلة كثيرة أيقظتها بداخلي الطائرات المقنبلة والقبّعات العسكريّة والأسلاك الشائكة والحدود ووحدات التّفتيش والمداهمات اللّيليّة والسّجون العسكريّة ” . وقد تكون في دراسة التّاريخ بعض السلوى ، ولكن كثيرا ما ينكأ الجراحَ ويستثير الأشجان ، ويذكّرنا بقول الشاعر الباكي عمر أبي ريشة:
أمتي هل لك بين الأمم * * منبر للسّيف أو للقلم…
أمّتي كم صنما مجّدته ** لم يكن يحمل طهر الصنم2
وببراعة كبيرة تمكنت الروائيّة عائشة بنّور من التطواف الزمني عبر حقب عديدة ، لتوزّع عليها أحداث روايتها في تناسق وتناغم رائع يجعل من الأحداث والشخوص أكثر إقناعا وأكثر تأثيرا في القارئ أو المتلقّي ويتظافر البعد الزماني مع البعد المكاني ليشكل نسيجا متلاحما ، يقدّم لنا الواقع في صورة فنيّة بديعة هي أشدّ إبهارا من الخيال المجنّح ، الذي لا صلة له بحياة النّاس سوى الألفاظ والتعابير القاموسيّة..
(يتبـــــع..)
ــــــــــــــــــ
1 – الموسوعة الحرّة الإلكترونيّة.
2 – من قصيدة (أمّتي) الرّائعة لعمر أبي ريشة.