“مفهوم الدَّولة الإسلاميَّة” لأحمد جبرون… أزمة الأسس وحتميَّة الحداثة

khaled-ghazal

 خالد غزال

(كاتب وباحث- لبنان)

ما يزال موضوع الدَّولة الإسلاميَّة مطروحاً بقوَّة في المرحلة الرَّاهنة من تطوّر المجتمعات العربيَّة والإسلاميَّة. خلال القرن العشرين، ومنذ إنهاء الخلافة في تركيا، صعد شعار العودة إلى الخلافة على يد حركة الإخوان المسلمين، في كون هذه الخلافة هي تجسيد للدَّولة الإسلاميَّة الَّتي يجري الادعاء بأنَّها تشكّل أحد أركان الإسلام، وأن تحقيقها من الواجبات المطروحة على المسلمين، سواء أكان الأمر سلماً أم حرباً.

خلال العقود الأخيرة، ومع انهيار المشروع النَّهضويّ العربي، وبعدها انهيار الدَّولة الوطنيَّة، وتحوَّل الولاءات إلى العصبيات الموروثة، وفي أعقاب الانتفاضات العربيَّة، ارتفع شعار الدَّعوة إلى إقامة الدَّولة الإسلاميَّة بقوَّة. مقابل الأدب الغزير الَّذي خرجت به التيَّارات الإسلاميَّة وتقديم النَّظريات المؤيّدة لقيام هذه الدَّولة، شهد العالم العربي والإسلامي، ولا يزال يشهد، نقاشاً مضادًّا وسجالاً قويّاً يفضح زيف ووهم الدَّولة الإسلاميَّة، سواء أكان في التَّاريخ أم في الزَّمن الحديث، حيث لم يشهد التَّاريخ مطلقاً لقيامها، فيما سار العالم، ويسير، نحو تكريس دول وطنيَّة قائمة على قاعدة حقوق الإنسان والمساواة بين المواطنين على قاعدة عدم التَّمييز في الجنس والدّين والعرق، إضافة إلى الفصل بين الدّين والدَّولة بما يضمن حقوق الدّين وحريّته في ممارسة شعائره، وبما يؤكّد سيادة قوانين وضعيَّة تطبّق على جميع المواطنين من دون أي تمييز. من الكتابات الَّتي تناولت هذا الموضوع كتاب “مفهوم الدَّولة الإسلاميَّة، أزمة الأسس وحتميَّة الحداثة” لأمحمد جبرون. صدر الكتاب عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات” في بيروت.

يشير الكاتب إلى أن أطروحة الكتاب تقوم على “أن سؤال “الإسلاميَّة” ليس هو المشكلة الحقيقيَّة، بل هو مجرَّد مظهر لمشكلة أعمق وأعقد هي مشكلة العطب الإصلاحي – التَّاريخيّ الَّذي حدث قريبا في عهدنا خلال القرن التَّاسع عشر، واستمرَّ بعد الاستقلالات الوطنيَّة.. وفشل الحركة الإصلاحيَّة العربيَّة بأجنحتها المختلفة في تكييف مبادىء الإسلاميَّة (البيعة والعدل والمعروف) مع متطلّبات الدَّولة – الأمَّة”. يتحمَّل منهج قراءة النَّص الشَّرعيّ من قبل الإسلاميين المسؤوليَّة في هذا المجال حيث ركَّزوا على الأحكام والجزئيات من قبيل أحكام الحدود والردَّة والنّظام الاجتماعي، فيما المطلوب أوَّلاً وأساساً تحرير النَّص الشرعي من التَّاريخ ومن آثار الثَّقافة العالقة بفهم الموروث وكيفيَّة ترجمته في الواقع، لأن “الثَّابت والمقدَّس والمطلق على مستوى آيات الحدود هو العدل، وليست وسائله أو أشكاله الماديَّة والثَّقافيَّة”.

قبل التَّعرض إلى ما يعرف بأصول الحكم في الإسلام، يعرض جبرون لآراء بعض من تناولوا مفهوم الدَّولة الإسلاميَّة. فحسن البنَّا، مؤسّس حركة الإخوان المسلمين يقول بشموليَّة الإسلام وضرورة إعادة الاعتبار له في المجال السّياسيّ، ليصل إلى القول بأنّ نظام الحكم الإسلاميّ يفترض تعديل القوانين المعمول بها لتتوافق مع الشَّريعة الإسلاميَّة. أمَّا أبو الأعلى المودودي فقد ربط إسلاميَّة الدَّولة بعنصر “الحاكميَّة” الَّتي تتجلَّى في الخصائص الآتية: الحاكم الحقيقيّ هو الله، التَّشريع لله، الحكم بشرع الله. عبد القادر عودة يرى أنَّ الدَّولة الإسلاميَّة هي حكومة قرآنيَّة تحكم بشرع الله، وهي حكومة خلافة. خالد محمد خالد ربط إسلاميَّة الدَّولة بجملة صفات أهمّها الشُّورى والقرآن والسُّنَّة والإجماع والتَّسامح وحريَّة الأقلّيات. راشد الغنوشي ربط إسلاميَّة الدَّولة بشرطين: النَّص والشُّورى، حيث أنَّ “في الإسلام نظاماً للحكم صادرًا عن الله نطق بتشريعاته القرآن والسُّنَّة”.

في استعراض تاريخيّ لمسار الدَّولة المدعاة إسلاميَّة، يشير الكاتب إلى المرحلة المباشرة لوفاة النَّبيّ، وسعي الخلفاء لبناء منظومة تحافظ على هدي الإسلام في السّياسة، أي البيعة والعدل والمعروف. في السُّؤال عمُّا إذا كانت “دولة الرَّاشدين” قد نجحت في إرساء نموذج دولة إسلاميَّة، شكلاً ومضموناً، سيكون الجواب سلباً. لم تشكَّل “دولة الرَّاشدين” نموذجاً دولتيّاً متكاملاً، بمقدار ما كانت بحثاً عن هذا النَّموذج. يمكن تلخيص طبيعتها بأنَّها كانت “دولة العصبيَّة” بامتياز. هذه الدَّولة العصبيَّة الَّتي رسَّختها “دولة الرَّاشدين” ستؤبّد نظريَّة الحكم في المجتمعات الإسلاميَّة لعقود طويلة. لعلَّ طريقة الوصول إلى الحكم تشكّل المفتاح لقراءة مضمون الدَّولة الإسلاميَّة وفق نظرة القائلين بها. كانت شرعيَّة الدَّولة الإسلاميَّة في عهد الرَّاشدين تقوم على البيعة، بما هي حقوق الأمَّة في اختيار الحاكم. لم تدم هذه المقولة سوى مرحلة بسيطة لتحلَّ محلها العصبيَّة في كونها الأساس لقيام الحكم ولطبيعة الحاكم. هذه العصبيَّة لم تولد فجأة، فجذورها تعود إلى السَّاعات الأولى لوفاة النَّبيّ والسّجال الَّذي دار داخل قريش والأنصار حول من يحقُّ له تولي الخلافة، وأيَّة قبيلة أو فخذ منها هو الواجب تسليمه السُّلطة. وهو أمر يتَّصل بطبيعة النّظام الاجتماعيّ القائم في الجزيرة العربَّية والمستند إلى موروثات تاريخيَّة في التَّصنيف “الطَّبقي” للقبائل وداخل كلّ قبيلة. لذلك لم يكن غريبا أن تتكرَّس دولة العصبيَّة مع زوال حكم الرَّاشدين وانتقال الخلافة إلى الأمويين، حيث مثَّلت دولتهم تحوّلا تاريخيًّا وتكريساً لقواعد في الحكم، قائمة بشكل أساسيّ على القهر والطَّاعة. وهو ما أنتج أدباً فقهيّاً غزيرًا في السَّنوات والعقود اللاَّحقة ظلَّت قائمة حتَّى العصور الحديثة، بل يستعيدها الإسلاميون اليوم في وصفها من قواعد الحكم في الإسلام.

guilaf-jabroun

غلاف الكتاب

البيعة

يرى الكاتب أنَّ أصول الحكم في الإسلام ثلاثة: البيعة، العدل والمعروف. انطلاقاً من هذه المبادئ الثَّلاثة يحاكم تجربة الحكم في الإسلام منذ العهد الأمويّ وصولاً إلى العصر الحديث، وما إذا كان هناك التزام حقيقيٌّ بتطبيق هذه القواعد على مدار التَّاريخ الإسلاميّ. بالنّسبة للعنصر الأوَّل المتّصل بالبيعة، وفي قراءة لتطوّر المفهوم وتطبيقه على امتداد التَّاريخ الإسلاميّ، نجد أنفسنا أمام مفاهيم مختلفة وممارسات متناقضة. في زمن الرَّسول، كانت البيعة أصل العلاقة بين الرَّسول الإمام (القائد السّياسيّ) والمسلمين (المواطنين). أي أنَّ البيعة كانت شكلاً للعلاقة السّياسيَّة بين النَّبيّ وجماعة المؤمنين الَّتي أخذت بالتَّحوُّل إلى جماعة سياسيَّة بعد ارتفاع عددها ودخولها في نشاطات متنوّعة. وفي العودة إلى السّياق القرآنيّ وتجربة الرَّسول التَّاريخيَّة، “لا يستمدُّ الحاكم أو الإمام شرعيته من روابط النَّسب والقبيلة، أو السَّطوة وقانون القهر والغلبة، لكنَّ مصدر شرعيته تعاقد حرٌّ وإراديٌّ بينه وبين جماعة المسلمين، يلتزمون بموجبه بالسَّمع والطَّاعة وتنفيذ بنود العقد، وهو الآخر يلتزم لهم بما ألزموه”.

في عهد الرَّاشدين، قامت جماعة المسلمين بأربع بيعات مختلفة بعضها عن بعض من حيث الطَّريقة والأحوال والشُّروط. من شروط صحَّة البيعة: الشُّورى، الَّتي تعتبر إلزاميَّة قبل انعقادها، والعهد من إمام سابق لأحد المرشحين يستخلفه وينصبه حاكماً، ثمَّ توفَّر موافقة الأغلبيَّة من النَّاس خصوصاً منهم قادتهم. يمكن القول أنَّ البيعة في عصرا لراشدين كانت عبارة عن اجتهادات شديدة الصّلة بالواقع التَّاريخيّ وملابساته في تلك المرحلة من تاريخ الجزيرة العربيَّة.

بعد انتهاء عصر الرَّاشدين بأزمة وفتنة بين المسلمين، سيشهد التَّاريخ الإسلاميُّ تطوُّرًا جديدًا في مفهوم البيعة قائم على العصبيَّة. لم تعد الأمَّة قادرة على ممارسة سيادتها والتَّعبير عن استقلالها السّياسيّ والحضاريّ إلاَّ من خلال عصبيَّة قويَّة فاعلة، فباتت هذه العصبيَّة العنصر الحاسم في شرعيَّة السُّلطة ودوام الدَّولة. باختصار، يمكن القول إنَّ الدَّولة انتقلت في عهد معاوية من “دولة الأمَّة إلى دولة العصبيَّة”. بعد أن كرّس معاوية سلطته، كان عليه أن يمهّد الولاية لابنه يزيد، ضمن هذه البيعة بالتَّهديد لأبناء الصَّحابة ولسائر أصحاب النُّفوذ، وأكره العصبيات الأخرى على القبول بإبنه. اختفت شروط المؤهّلات المطلوبة للإمام، وبات مقياس استقرار الدَّولة ومنع الفتنة هو السَّائد. هكذا، “منذ خلافة معاوية وخلافة ابنه يزيد، وحتَّى مشارف العصر الحديث، ارتبطت البيعة بعصبيَّة الدَّولة، فرضاها وقبولها شرط لازم لنفاذها واستمرار الدَّولة”. والَّذي يرفض البيعة الَّتي اجتمعت عليها العصبيَّة يكون مصيره التَّنكيل والقهر. يقول جبرون شرحاً لما آل إليه هذا الوضع قائلاً :”إنَّ اعتراف فقهاء المسلمين بالتَّغلُّب والقهر أو الإكراه في الظَّفر بالولاية أو الإمامة لم يكن مظهرًا من مظاهر الانحطاط الأخلاقيّ، بل كان موقفاً عقلانياً حكيماً يعكس وعياً علمياً وسياسياً بالطَّبيعة المعقَّدة الَّتي أضحت عليها مسألة السُّلطة في المجال الإسلاميّ”. ساد نظام البيعة الَّذي كرَّسه معاوية مختلف العصور اللاَّحقة، فطبقته الدَّولة العباسيَّة بمزيد من التَّصلُّب والقهر، ووصل ذروته في العهود العثمانيَّة.

ahmad-jabroun

أحمد جبرون

العدل

العنصر الثَّاني في نظام الحكم الإسلاميّ هو العدل، وتفاوتت النَّظرة إليه وتطبيقه بين عهد وآخر. فالعدل من المباديء الأساسيَّة الَّتي تفرض نفسها على المتلقي السّياسيّ للقرآن والسُّنَّة، فالآيات والأحاديث الَّتي تحدَّثت عنه كثيرة ومتنوّعة، ودلالاته الدّينيَّة أكبر بكثير من دلالاته السّياسيَّة ،”لأنَّ العدل في التَّلقي الأوَّل من الله هو الدّين بمعناه الشَّامل: التَّوحيد وإعطاء الحقوق لمستحقيها والإنصاف للمظلومين”. في زمن النَّبيّ الَّذي سعى إلى إقامة أركان العدل الإسلاميّ، اضطرَّ إلى استخدام ما هو متوفّر من الثَّقافة السَّائدة في زمنه، فتعامل مع الأوضاع والأحوال بكلّ مرونة، ولم يلجأ إلى تجاوز الأعراف والتَّشريعات الَّتي كانت سائدة بين العرب، إلاَّ ما اعتبرها مخالفة ومناقضة لمنطق العدل وأهدافه. وفي عهد الرَّاشدين، أسند أمر العدالة إلى الخلفاء وولاتهم، وشاركهم القضاة الَّذين كانوا يعينونهم. كان النّظام القضائي يومها بسيطاً في شكله وطرق ممارسته، لكن مجتمع الرَّاشدين لم يكن مجتمعاً مثالياً أو “مدينة فاضلة” تخلو من التَّجاوزات وأشكال التَّعدي. يقول جبرون :” إنَّ الجهات الَّتي شاركت القضاة وظيفتهم خلال العصر الرَّاشدي، هي نفسها الجهات الَّتي كانت تستقلّ بوظيفة القضاء قبل الإسلام، وهي أساساً بعض حكام القبائل أو حكمائهم ووسطائهم”.

في العصور اللاَّحقة، الأمويَّة والعبَّاسيَّة والعثمانيَّة، خضع العدل لجملة تشريعات وأحكام فقهيَّة لا حدود لها، تفاوتت في تطبيقها بين مرحلة وأخرى وحسب طبيعة الحاكم وفقهائه وقضاته. انتقلت الشَّريعة من طور العفويَّة والممارسة التلقائيَّة الَّتي كانت سائدة زمن الرَّسول والرَّاشدين إلى طور التَّقنين حيث أصبحت الشَّريعة فقهاً (علماً)، وبات لها فقهاؤها الَّذين تفاوتت سلطتهم حسب الحكم السَّائد. لعلَّ أبرز الفقهاء الَّذين تركوا أثرًا ضخما على الشَّريعة الإسلاميَّة وعلى نظام العدل فيها كان الإمام الشَّافعي الَّذي كانت نظريته تقوم على أنَّ كلّ نازلة لا تنزل بأحد من أهل دين الله، إلاَّ وفي كتاب الله الدَّليل على سبيل الهدي فيها، وإنّ العدالة تتحقَّق كلَّما استطاع الفقيه أو الحاكم، أن يحكم بما أنزل الله، أي أن يأتي بحكم نصّي من كتاب أو سنة، وأن يربط حكمه بنصّ، أي من خلال أعمال القياس. يرى جبرون “إنَّ الإصرار على التَّفكير في قضايا العصر بمنطق أصول الشَّافعي سيؤدّي بنا لا محالة إلى الخروج من العصر والعجز أمام الإشكالات القانونيَّة الَّتي يطرحها الرَّاهن على الإسلام والمسلمين”.

terrorisme 112

المعروف

يشكّل المعروف أحد الأقانيم الأساسيّة في الإسلام ومعه الاجتماع. فالمعروف وفق المفاهيم القرآنيَّة هو الأكثر تعبيرًا عن الاتّجاهات السّياسيَّة والدُّنيويَّة للاجتماع الإسلاميّ وروحه. فـ”المعروف في الاستعمال القرآنيّ هو لفظ جامع لمعاني الدّين المختلفة، العقديَّة منها والأخلاقيَّة والمعاملاتيَّة.. فهو التَّوحيد والإيمان، والتزام الأوامر، واجتناب النَّواهي، والإحسان، والفضائل”. أمَّا في الاستعمال النَّبوي، فهو يطال جميع أعمال الخير، سواء ما قال بها الشَّرع، أم دلّ عليها العقل. لذا يصبح المعروف مسألة عامَّة ليست محصورة بالدّين، بل يتَّسع لمعاني الدُّنيا من قبيل الخير الاقتصاديّ والاجتماعيّ.

لكن المعروف المنصوص عنه في القرآن تحت اسم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، جرى الانحراف عن مضمونه الدّينيّ والأخلاقيّ على يد الفقهاء والحركات الأصوليَّة على امتداد التَّاريخ الإسلاميّ، ليصبح المبدأ أداة في يد السُّلطات السّياسيَّة والمؤسَّسات الدّينيَّة تستخدمه لردع كلّ معارض لتوجهاتها ولقراراتها، كما بات سلطة قهر وأداة تكفير لكلّ من يحاول الاجتهاد في النَّص، فيرمى بالتَّكفير والارتداد. لعلَّ أبرز تعبير عن الانحراف بالمفهوم هو ما يعرف بـ”الحسبة” حيث يحقّ لأي شخص اتّهام شخص آخر بالانحراف عن الدّين، وطلب تطبيق عقوبات عليه استندادًا إلى قانون المعروف والنَّهي عن المنكر. يحفل التَّاريخ الإسلاميّ بنماذج كثيرة من الَّذين طبَّقت عليهم أحكام المعروف، وجرى اضطهادهم وقتلهم وتعذيبهم ونفيهم.. هكذا تحوَّل قانون الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر إلى ممارسة لا تختلف بشيء عمَّا طبقته محاكم التَّفتيش في أوروبا في العصور الوسيطة على كلّ من يخالف أوامر الكنيسة أو يجتهد في قراءة النَّص الدّينيّ.

إنَّ النّقاش في الدَّولة الإسلاميَّة ومفهومها استنادًا إلى التَّجربة التَّاريخيَّة زمن النَّبيّ والخلفاء الرَّاشدين لم يعد له محلّ في التَّاريخ الحديث. وإمعان النَّظر في ما يسمَّى دولة الرَّسول لم تكن جواباً إلهياً أو وحياً طبقه النَّبي وأصدر بموجبه قوانين على غرار ما أتى به الوحي في شأن العقيدة الدّينيَّة. كانت دولة الرَّسول، ومعها كلّ المنظومات الَّتي أتت تحت إسم دولة أو ما يشابهها من المفاهيم، إنَّما كانت استجابة لحاجات المجتمع ولمتطلّبات أفراده، وهو القانون العام الَّذي حكم ولا يزال يحكم منطق نشوء الدُّول. لم يشهد التَّاريخ الإسلاميّ قيام دولة إسلاميَّة على امتداد تاريخه حتَّى اليوم، بل ما شهده كان دوماً دولة سياسيَّة وظَّفت الدّين في خدمتها وإسباغ المشروعيَّة على سلطاتها وقرارتها، ممَّا يعني أن الدَّعوة المطروحة اليوم لدى الإسلام السّياسيّ لإعادة بناء الدَّولة الدّينيَّة إنَّما هي دعوة لا مكان لها في المجتمعات الحديثة على الإطلاق.

اترك رد