واسيني الأعرج
(أديب وروائي جزائري)
آليَّات الكِتَاب الخفيَّة هناك جزء مهم من حركة الكتاب تظل مخفيَّة، لا يراها إلاَّ المحترف. في آليَّة النشر والتوزيع والشهرة، من حقِّ الكاتب أن يشعر ببعض الاهتمام بنصوصه، بإيصالها إلى قارئها بجعلها مرئيَّة. في الغرب، الكاتب ليس كيانًا سلبيًّا، فهو يسهم بشكل طبيعي وفاعل جدًّا في حركيَّة الكتاب.
دار النشر توفر له فرصة أن يتحرَّك مع كتابه، وهو يقوم بالباقي، أيّ اللقاء بجمهوره الذي ينتظره في مدن كثيرة. وهذا في حدِّ ذاته يشكل حالة وفاء تتمُّ بشكل وفاقي ضمني بين الكاتب ودار النشر. رؤية الكاتب والتحاور معه ليست مسألة ثانويَّة، لكنَّها في صلب العمليَّة التسويقيَّة. ولا يمكن أن يخذل جمهوره بعدم الحضور، أيَّ أنَّ الكاتب يلعب دورًا طبيعيًّا لأنَّه لا يقع خارج الاهتمام بنصِّه. النص هو مادة تجاريَّة توضع في السوق، ولها أن لا تبقى مكدَّسة، وهو ما يُسمَّى في لغة دور النشر الاهتمام بالكتاب، أو «الماركتينغ». هناك ميزانيَّة في دار النشر، في الغرب، مخصصة لهذه الحركيَّة الإعلاميَّة حتَّى يصبح الكتاب جسدًا محسوسًا وملموسًا، وليس مجرد افتراض في وسائل الاتصال الحديثة. بلغة أدق، الانتقال من الفكرة الافتراضيَّة إلى المادة الحيَّة والمتحرِّكة.
وتبدأ عمليَّة المرافقة، من مدينة الإقامة والانطلاق، إلى مدن البلاد، إلى الفضاء اللغوي الواسع، مثلا الفرانكفونيَّة التي تخرج الكاتب من دائرته ومدينته ووطنه، أو وطن إقامته نحو مساحات أوسع، أيّ الانتقال من مدينة باريس، إلى المدن الفرنسيَّة، إلى كندا وسويسرا وبلجيكا والبلدان الإفريقيَّة، وغيرها. أيّ أنَّ الكتاب والكاتب يصلان إلى كل المساحات المفترض أن يهمها النص المطبوع.
هذا باختصار ما يحدث في الغرب. في العالم العربي، يختلف الأمر جذريًّا. فالناشرُ العربيُّ في الأغلب الأعم يسير وفق منطق الصدفة لا أكثر. يكفي أن نعرف أن الناشر لا يخسر مليمًا واحدًا من أجل الدعاية للكتاب الجديد. حتَّى بالنسبة لكُتَّابه الكبار الذين يحملون الدار بأعمالهم، على عواتقهم. بما في ذلك كبريات دور النشر الكبيرة. مسار التسويق والشهرة والتوزيع الواسع، واللقاء مع القراء، يصنعه الكاتب بالدعوات الخاصة والمحاضرات، في الأماكن الثقافيَّة كالجامعات، والمنتديات، والمراكز. وتكمل صدف الجوائز الباقي. أمَّا الناشر، فيظل في الخلفيَّة، ولا يظهر إلاَّ عندما يبرز الكتاب، بحيث لن يصبح في حاجة له. رأيت في الكثير من المعارض العربيَّة كيف يصطف الناس لشراء كتاب من الكتب، وكثيرًا ما يكون كتابًا دينيًّا؛ لأنَّه يوفِّر لقارئه بعض الراحة الداخليَّة، في زمن مادي شديد الصعوبة. ليست الدعاية هي التي قادت الجمهور نحوه، لكن خصوصيّته الدينيَّة.
رأيتهم أيضًا يتزاحمون لشراء باولو كويلو، لأنَّ وراء هذا الأخير ماكنة منظمة فرضته عالميًّا، والعالم العربي جزءٌ من العالم الذي تمسه هذه الماكنة. إضافة إلى حاجة الناس إلى الاستكانة، والأمان، والبحث عن الحلول التي تورث بعض الراحة، على الرغم من أن كتبه لا تُقدِّم معرفة استثنائيَّة. يجب أن نعترف بأن هناك شيئًا خفيًّا في عمق كل كتاب، لا أحد يستطيع أن يعرفه بشكل مسبق. هناك كتب عادية تتفرد بالاهتمام الإعلامي والشهرة، بينما هناك كتب مهمَّة جدًّا وتشكل لحظة فكريَّة فارقة، لكنها تمر عادية في النهاية. طبعًا هذا لا يمس مطلقًا حقَّ الكاتب في الاهتمام والتعريف بكتبه، كلما كان ذلك ممكنًا، ولكن وظيفة الكاتب الأساسيَّة هي الكتابة وليس خارجها.
لا يمكنه أن يتحوَّل إلى مركز دعاية لكتبه، لأنَّه لا جدوى من وراء ذلك بالخصوص عندما يحل الكاتب محل دار النشر، ومؤسساتها الدعائيَّة. السلطان والهيمنة ليست سمة سياسية فقط، فهي تمس الحقول كلها بما في ذلك حقل الإبداع، وقد تجعل من بعض الكُتَّاب العصابيين آلهة صغيرة، تنسى بسرعة هشاشته وصمت وقلق الإبداع، وكأنَّها تريد أن تفرض نفسها على القارئ على افتراض أنَّه يمكن إدهاشه بالخطاب السهل. القارئ قوة مفكرة، وليس غبيًّا حتَّى ولو وقع تحت تأثير الصحافة الأدبيَّة والمرئيَّة الصانعة للكاتب أو المفبركة له أحيانًا. القارئ المحترف، يتشمم الحقيقة، ويدركها بحواسّه الفنيَّة.
ويذهب نحو الكتب التي يرى بأنَّها تستجيب لضالته الثقافيَّة العميقة. يستحق كل الاهتمام والتأمُّل، ثالوث النشر: دار النشر بمؤسساتها المختلفة بما فيها «الماركتينغ»، الكاتب بوصفه المنتج للمادة الثقافيَّة، والمستعد للتعاون مع مؤسسات الدار، من أجل إيصال الكتاب إلى القارئ من خلال المساهمة في النقاشات التي تخصُّ نصَّه، ثم القارئ، القوة الثابتة والحيَّة، الذي يجب التعامل معه لا كمستهلك جاهز، ولكن ككيان مُفكِّر يستحق كل الاحترام والتقدير، كيفما كانت حاجات هذا الأخير الثقافيَّة
*****
(*) صحيفة المدينة