الشعر المنثور : الشعر المجهول

sharbel-dagher

د. شربل داغر

(أديب وروائي وباحث – لبنان)

 لماذا هذا العنوان؟ أهو سؤال استفزازي؟ أهو سؤال للإثارة الصحفية؟ أهو سؤال إشكالي، وسؤال مناسب وضروري بالتالي؟

هذا السؤال يحتاجه درس هذا الشعر، إذ هو شعر – على الرغم من ورود اسمه كثيراً – لا يحظى بمتن تعريفي مناسب له، ولا بدرس نقدي مناسب له. وهو أول ما نتبينه إن تعرفنا على مدونة هذا الشعر. فما هي مصادر الشعر المنثور، أي الكتب والدراسات التي تناولته؟

هذه المصادر قليلة للغاية، لو طلبتُ مقارنتها بما صدر من قصائد ومجموعات شعرية، وبعدد شعراء هذا الشعر.

مدونة الشعر

المصادر تقتصر على مقالات وأجزاء نقدية في كتابين، وكتاب مختارات، وكتاب دراسي وحيد ومتأخر.

تجتمع هذه المصادر، بداية، حول مجلة “الهلال” في العقد الأول من القرن العشرين، وحول كتاب من المختارات في العام 1922، وعلى مقالة يتيمة في العام 1929، وعلى معالجة نقدية عند أنيس المقدسي ثم عند سلمى الخضراء الجيوسي، وعلى كتاب حورية الخمليشي: “الشعر المنثور والتحديث الشعري”، في العام 2010.

ولو بلغنا السنوات الأخيرة لوجدنا مقالات صحفية عديدة توقفت للتعريف ببعض هؤلاء الشعراء، وقد صنفتهم من رواد “قصيدة النثر”، لا “الشعر المنثور”.

كما يمكن العودة خصوصاً إلى مجموعات ودواوين هذا الشعر للتعرف المزيد على هذا الشعر. فما هي؟ ومن هم شعراؤه؟

إنهم يتعدون الستين شاعراً، على ما أحصيت، وهو رقم يحتاج إلى تدقيق وإضافة من دون شك، طالما أن بعضاً من هذا الشعر لم يزل مطوياً في ثنايا الجرائد والمجلات، ولا سيما في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين.

هناك من الشعراء من هو معروف بل رائد في الشعر المنثور، وهما واقعاً: جبران خليل جبران، وأمين الريحاني.

وهناك منهم من هو مجهول تماماً، مثل: عيسى اسكندر المعلوف، محمد لطفي جمعة، محمد كامل حجاج، حبيب سلامة، منير الحسامي، محمد السباعي، توفيق مفرج، مراد رحمين ميخائيل، الياس خليل زخريا، خير الدين الأسدي، محمد حسن عواد، حسين خزندار، محمد حسن كتبي، سالم الكاتب، خليل الهنداوي، سيد عبده، وليم كاتسفليس، رئيف خوري، نقولا بسترس، أحمد السباعي، حسين خزندار، عزيز ضياء الدين، شحادة الخوري، سليم موسى العشي (المعروف بالدكتور داهش)، حبيب اسطفان، محمد منير رمزي، بدر الديب، علي الناصر، سليمان عواد، سليمان عامود، كمال فوزي الشرابي، الياس مسوح، مصطفى هيكل، أبكار السقاف وغيرهم.

وهناك من الشعراء المعروفين من نسبوا إلى “قصيدة النثر” فيما كتبوا الشعر من دون هذه التسمية في بداياتهم على الأقل، مثل: أورخان ميسر، محمد الماغوط، توفيق صايغ، جبرا ابراهيم جبرا، حسين مردان، أدونيس، أنسي الحاج، ألبير أديب، ثريا ملحس، إدريس الجاي، محمد الصباغ، ابراهيم شكر الله، نقولا قريان وغيرهم.

وهناك من الكتاب ممن لم ينسبوا إلى الشعر المنثور، وأبان الدرس لزوم ربطهم بهذه التجربة، مثل: مي زيادة، مصطفى لطفي المنفلوطي، راجي الراعي، ميخائيل نعيمة، خليل مطران، أحمد شوقي، مصطفى وهبي التل (المعروف بعرار)، لويس عوض، أمين نخلة، فؤاد سليمان وغيرهم.

ما أسباب قيام هذا الشعر؟

الشعر المنثور وليد “الشعر العصري”، حسب جرجي زيدان، أي “النزوع إلى روح العصر في النظم والنثر”، كما كتب. وهو أول مسعى في تعريفه، من دون أن يتوقف عند طبيعته البنائية المخصوصة. و”يغلب النزوع إلى الأساليب العصرية في المطلعين على الشعر الإفرنجي والآداب الإفرنجية. وربما اقتبسوا شيئاً من أساليبها أو معانيها”.

عيسى اسكندر سعى إلى “التأصيل”، واجداً في سوابق في النثر القديم والمتأخر (ابن معتوق، الثعالبي، ابن الأثير وغيرهم) سنداً لهذا الشعر الناشىء.

الشعر المنثور بأثر من الشعر الأوروبي، حسب توفيق الياس إنجليل (من بيروت). وهو ما يتضح خصوصاً مع شعر وولت ويتمن وبودلير والسورياليين وطاغور وغيرهم.

وهو ما فعله رشيد الشعرباف إذ جمع بين عنوانين في مقالته: (les vers libres)، أي “الشعر الحر” بالفرنسية والشعر المنثور.

التأصيل على أساس ديني : سوابق للشعر المنثور في الشعر الديني القديم، حسب رشيد الشعرباف: “الأوروبيون اقتبسوه من الشرقيين”. وهو ما يؤكده حسين عفيف بدوره في محاضرة في العام 1938.

 كيف جرى درس هذا الشعر؟

الكل يحيل على أمين الريحاني من دون فحص أو تبصر في ما قاله؛ وهو ما استعاده بعده كثيرون من دون تدقيق أو مراجعة:

“يُدعى هذا النوع من الشعر الجديد بالإفرنسية (Vers libres)، وبالإنكليزية (Free verse)، أي الشعر الحر الطليق. وهو آخر ما اتصل إليه الارتقاء الشعري عند الإفرنج، وبالأخص عند الإنكليز والأميركيين. فشكسبير أطلق الشعر الإنكليزي من قيود القافية، وولت وتمن (Walt Witman)، الأميركي، من قيود العروض كالأوزان الاصطلاحية والأبحر العرفية. على أن لهذا الشعر الطليق وزناً جديداً مخصوصاً، وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عديدة متنوعة.

وولت وتمن هو مبتكر هذه الطريقة وزعيمها. وقد انضم تحت لوائه، بعد موته، كثير من شعراء أميركا وأوربا العصريين. وفي الولايات المتحدة، اليوم، جمعيات وتمنية، بين أعضائها فريق من الأدباء المغالين بمحاسن شعره، المتخلقين بأخلاقه الديمقراطية، المتشيعين لفلسفته الأميركية، إذ إن مزايا شعره لا تنحصر بقالبه الغريب الجديد، بل بما فيه من الفلسفة والخيال مما هو أغرب وأجد”.

العودة إلى الريحاني لازمة، إذ إنه قدَّمَ أول تعريف بهذا الشعر، وهو ما استعاده بعده كثيرون من دون فحص من جهة التعريفات نفسها، ولا من جهة موافقة هذا الشعر الجديد مع ما ينسب إليه في التجارب الغربية.

لجهة التعريفات، جمع الريحاني بين الشعر الفرنسي المعروف بالشعر الحر وبين شعر ويتمن تحديداً؛ وهو جمعٌ غير مناسب على ما انتهيت إلى الدرس. ففي الشعر الفرنسي يمكن التمييز بين “الشعر الحر” وبين “النثر الشعري” وبين “القصيدة بالنثر”؛ وهي تجارب شعرية مختلفة لا تتوافق مع ما شرع به ويتمن في مطالع النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

يتوجب التمييز في الحديث عن “الشعر الأبيض”، الإنكليزي، بين ما كان عليه في العصر الإليزابيتي، وما انتهى إليه لاحقاً مع شعراء مثل مكسويل أندرسون (Maxell Anderson)، وتي. أس. إليوت (T. S. Eliot)، إذ أصبح أكثر تحرراً من صيغته السابقة، وأصبح غير مقفى، موحد الطول ومنقسماً إلى شطرين.

ما سمي بـ”الشعر الحر” في الفرنسية (Les vers libres)، أو بالإنكليزية (free verse)، يشير إلى تجارب شعرية مختلفة: عنى عند الشاعر الأميركي وولت ويتمن (Walt Whitman) أسطراً قصيرة الطول، لها إيقاعية مستقاة من النثر، إلا أنها أكثر تنظيماً منه في استعمالاته الصرفة. بينما عرف “الشعر الحر” معنيين في التجربة الفرنسية: واحد قديم، يرقى إلى القرن السادس عشر، ويشير إلى تتابع من الأبيات المنتظمة ذات الطول المتفاوت، والتي لها قواف منتظمة، ومنوعة؛ وله معنى آخر، متأخر، يرقى إلى الشعراء “الرمزيين”، ويعني أبياتاً غير مقفاة وغير منتظمة، ذات جمالية تعبيرية متولدة من الإيقاع.

التباين أكيد في الفرنسية بين “النثر الشعري” (prose poétique)، و”القصيدة بالنثر” (poème en prose)، وهو واقعٌ بين العهد الرومانسي ثم مع الشعراء بودلير ورامبو وملرمه. كذلك فإن التباين أكيد بين هاتين التجربتين وبين تجربة وولت ويتمن، حيث إن الثاني جدد صيغة “الشعر الحر”، المعروفة في الإنكليزية، في كتابه الشعري الشهير “أوراق العشب” (1855)، إذ استعمل فيه أسطراً متفاوتة الطول تقوم على الإيقاع، لا على أي نظم.

ماذا عن شعرية هذا الشعر الجديد؟

شهدت دراسة الأدب، بين نثر وشعر، نقلة جديدة مع اللسانية الحديثة المعطوفة على البنيوية، ابتداء من فردينان دو سوسير وصولاً إلى رومان جاكوبسون. وما يمكن البناء عليه، هو أن درس الأدب بات يعني درس التشكلات اللغوية فيه، ما يشمل سلفاً النثر كما الشعر. وإذا كان للدرس أن يميز بين قواعد خاصة بأنواع الشعر أو النثر، فإن هذه القواعد ترقى أو تحيل على نظام موضوع، فكيف إن كان هذا النظام يميز ويباعد عمداً بين النثر والشعر.

الشعر المنثور خرج على المعهود في النظام الأدبي العربي، فقرَّب بدل أن يباعد بين حدود النثر وحدود الشعر، بل عمد إلى تنافذ، إلى تخالط بين قواعد متبعة في الشعر، وأخرى متبعة في النثر.

هذا ما يتضح في مستويات بناء القصيدة المنثورة، وهي أربعة مستويات: الشكل الطباعي، والإيقاع، والنحو، والمعنى. ولقد وجدت أن قواعد متبعة في الشعر “دخلت” إلى القصيدة المنثورة (السطر شبه البيت، إيقاعية، مجازية، ومعان تستثير الانفعالات…)؛ كما وجدت أن الشعر المنثور استعمل كذلك قواعد متبعة في النثر عادة (الجملة الطويلة، والمترابطة، السرد، الإيضاح، التفصيل وغيرها).

هذا ما جعل القصيدة المنثورة تقوم وفق “بناء نزاعي”، كما أسميه، ما يتعين في قواعد متداخلة، من جهة، وفي تعطلها في الوقت عينه، من جهة ثانية.

ولقد خلصت إلى التحقق من قيام “كيان” كتابي جديد، واقع بين الشعر والنثر، وقد أتخذ أشكالاً بنائية مختلفة، وحمل في مبانيه مشروعات تعبيرية وإيديولوجية وجمالية متنوعة.

الشكل الطباعي : السطر المتصل، السطر المنقطع

أمكن الانتباه إلى أننا، من الناحية الطباعية والتكوينية، أمام إنتاج جديد، ما يظهر في القصيدة أو في الكتاب. هكذا ظهر في القصيدة المنثورة ما ظهر في القصيدة العصرية الموازية لها، أي مفاعيل دخول الطباعة على هيئة القصيدة وإنتاج الكتاب. فظهرت القصيدة المنفردة في فقرات أو أقسام داخلية؛ وهو ما أصاب الكتاب الشعري بدوره. كما باتت تتعيُّنُ القصيدة في تشكلات طباعية داخلية، ذات أرقام أو علامات طباعية وغيرها.

ولو طلبت اختصار الحديث في “الشعر المنثور” لقلت بأن تجاربه المختلفة تتعين بين جماليتين: جمالية السطر المتصل، وجمالية السطر المنقطع. فماذا عنهما؟

السطر الممتد: أقرب إلى النثر في امتداده الطباعي، في طول جمله المتتابعة؛

السطر المنقطع: أقرب – بمعنى ما – إلى البيت التقليدي، وإن من دون وزن أو قافية.

ما يميز تجربة الريحاني وجبران الرائدة هو انصرافها البين عن تجارب النثر الفني القديمة، وتجريبها لمساع جديدة في البناء. انصرف جبران تماماً إلى السطر المتصل، من دون أي صلة بالبيت العروضي، فيما نجد في شعر الريحاني تعايشاً بين قصائد تنحو صوب السطر المتصل وأخرى صوب السطر المنقطع.

لو أراد الدارس إنزال هذين البنائين في منازلهما التاريخية، لأمكنه ملاحظة أن السطر المتصل وسم بدايات هذه القصيدة حتى أربعينيات القرن العشرين، فيما شرع بالظهور بعدها البناء الآخر، أي السطر المنقطع.

الشكل الإيقاعي : الموسقة وتعطلها

يمكن القول، بداية، إن ما تحقق إيقاعياً في القصيدة المنثورة لا يشبه أي نمط شعري معروف، لا في الشعر الأوروبي ولا في الشعر الأميركي. كما يمكن القول إن هناك مقادير من التلاقي الإيقاعي بين تجارب عربية بعينها، وإن هناك اختلافات فيما بينها. وأخلص من هذا القول إلى عدم وجود نمط إيقاعي ثابت وأكيد لهذه القصيدة، وعدم وجود قواعد مستقرة ومقرة لها، وإنما هناك ما يشبه القاعدة وما يقوم على تعطلها في الوقت عينه.

ولو شئت تمثيل ذلك لذكرت أن الريحاني جرب في قصائد بناء تشكيلات إيقاعية، مستندة إلى تفعيلات أحياناً أو إلى السجع أحياناً أخرى، فيما تجنب جبران ذلك تماماً مفضلاً البحث عن إيقاعية تقوم على “موسقة” الجملة وتعاطف الجمل بعضها ببعض. وهو ما أجمله في عدد من الخلاصات:

انصرفت هذه القصيدة انصرافاً عمدياً عن الوزن، وعن القافية، وعن التفعيلة، إلا في تجارب قليلة واستعمالات محدودة؛

بانت في القصائد، في خيار متعمد أو تلقائي، تشكلات إيقاعية، متتابعة في النادر، وتنقطع عنها في السطر الواحد، أو بين فقرة وأخرى؛

هذه التشكلات الإيقاعية بلغت أحياناً ما أطلقت عليه تسمية: “المَوْسقة”، وعنت “مَيَلاناً” بعينه لتدافعات الكلام النثري؛

إلا أن هذه التشكلات عنت توليد نمط، والقطع معه في الوقت عينه، ما أبقى القصيدة المنثورة، في هذا المستوى على الأقل، عرضة لتجاذبات بنائية أكيدة.

الشكل النحوي : أولوية الجملة على البيت

أخذ الشعر المنثور من الشعر السابق عليه، لكنه تأثر بفنون النثر أيضاً: اللافت في كثير من تجارب الشعر المنثور تعويلها الضمني، والبنائي، على فنون النثر. هكذا يمكن الكلام من دون مواربة عن: قصيدة-مقالة، قصيدة-خطبة، قصيدة-رسالة (شكوى، مناجاة…)، قصيدة-عظة وغيرها.

انتقلت القصيدة من البيت، ومن “وحدته” البانية للقصيدة القديمة، إلى السطر: أولوية الجملة على البيت؛

هذا الانتقال أتاح للجملة وللجمل أن تتشكل “بحرية” مزيدة عما كانت عليه في “لزوم” التقيد بحدود الوزن القديم في البيت الواحد، ما جعل الجملة تطول، وتترابط، وتتيح عطف الكثير إليها، من جهة، وأتاح لها، من جهة ثانية، قيام جمل مقتضبة، ما كان يقصر عن البيت في الشعر القديم؛

هذا ما جعل الجملة تحفل بأبنية تركيبية متعددة، ما مكَّن الشاعر من التجريب والتنويع، ومن استعمال أدوات الربط والعطف وغيرها بطرق لا تخلو من الحذاقة أحياناً ومن الابتكار؛

توسعُ السطر على البيت، وإمكانُ انتقاله أو امتداده في أكثر من جملة وفقرة، جعلا البناء قابلاً لتشكلات متأتية من السرد والمناجاة والغناء وغيرها؛

هكذا انفتحت الحدود وتبلبلت في الوقت عينه، ما جعل البعض يكتب “شبه قصة” أو “حكاية” أو غيرها، من دون أن تتبين دائماً مقادير الشعرية من النثرية الإيضاحية فيها؛

هذا ما أتاح للقصيدة “قبول” تبعات مذاهب وعقائد، وأساليب مختلفة، في متنها، ما جعلها شديدة التعدد والتنوع والتباين.

أشكال المعنى : الحراك في الزمن

تعايش الشعر المنثور، وتفاعل مع محركات عصره، ابتداء من الجريدة مروراً بالإيديولوجيات (الماركسية خصوصاً، والهامشية)، والمذاهب الأدبية والجمالية (رومنسية، سوريالية وغيرها)، فضلاً عن تأثره بشعراء من العالم وفق خيارات ذوقية (من بودلير إلى طاغور وصولاً إلى تي إس أليوت).

كما أظهر الدرس، من ناحية المعنى، أشكالاً ومضامين على قدر واسع من التجدد والتنوع، ما يمكن اختصار بعض سماتها:

إن تحرر القصيدة المنثورة من “القِفْلين” (أي الوزن والتفعيلة، فضلاً عن القافية)، مَكَّن النحو من أن يقيم علاقات أكثر تحرراً، وأقل “ضغطاً” مما سبق (في القصيدة العمودية)؛

العلاقات المستجدة، بين النحو والمعنى، جعلت القصيدة أكثر تلبية لمقتضيات ناشئة في العرض والحض والغناء وغيرها من حاجات التعبير، مما يطلبه الشاعر، في “موقفه” و”نظرته” وربما “عقيدته” أو “إيديولوجيته”، أو “مذهبه” الفني أو الجمالي؛

هذا ما جعل القصيدة حاملة لحمولات تعبيرية متعددة ومتنوعة، فضلاً عن تجديدها لوسائل استثارةِ انفعاليةِ القارىء، بوصفه متلقياً إنسانياً وإيديولوجياً؛

وهي حمولات قامت على تشبيكات من المضامين، ذات الإحالات (الرومانسية، الرمزية، الوجودية، الماركسية…)، والمشتملة خصوصاً على “نبرة” فردية، بين الطبيعة والمدينة، فضلاً عن نزوع متأخر صوب البوهيمية أو “الصعلكة” الجديدة.

“ثورة النثر”

انصرف الدراسون والنقاد والشعراء، في درس الشعر، إلى قواعده يحتكمون إليها ويدرسون بالاستناد إليها، غافلين عن حقيقة الفعل الكتابي، والتجربة الكتابية عينها. كتب أبو حيان التوحيدي في “المقابسات”: “في النثر ظلٌّ من النظم، ولولا ذلك ما خفَّ ولا حلا ولا طاب، وفي النظم ظلٌّ من النثر، ولولا ذلك ما تميزت أشكاله، ولا عذُبت موارده، ولا بحوره وطرائقه، ولا ائتلفت وسائله وعلائقه”.

لم تدرس كفاية علاقات النثر بالجريدة ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ولم تدرس كذلك التوليدات الجديدة للنثر المحدَّدة ببروز أفق جديد لها غير الديوان والسلطان ومجالس الأدباء ومناظراتهم (النثر الديواني والأخواني)، وهو: القارىء. وهو ما يمكن للدارس الانتباه إليه في فنون مستجدة مثل: المسرحية، والرواية، والمقال الصحفي وغيرها.

لهذا كان من السهل التوليد الأدبي والفني في نطاق النثر (وهو ما تحصل للنثر لطواعيته الأكيدة، ولخروجه من القواعد المعدودة التي تحكمه)؛ ولهذا كان من الصعوبة بمكان التوليد الجديد في نطاق الشعر نظراً لقيود عديدة تحدده وتضبطه.

هكذا سارع ناثرون إلى إجراء موازنات ومفاضلات بين النثر والشعر، ولا سيما في القاهرة، بلغ ببعضهم، مثل طه حسين ومحمد حسين هيكل، إصدار “شهادات البراءة” في الإبداع، وفي السبق، وفي “الشجاعة” عي مواكبة التطور والثقافة والعلوم.

يكتب محمد حسين هيكل في العام 1927: “خطا النثر بأكتاف قوية عريضة بين الجماهير يهزها ويحركها ويلفتها إلى ناحية النور الجديد، ويلهمها فضل الآراء الحديثة (…). لا سبيل إلى جدة الشعر إلا أن تؤدي إليها ثورة كالتي أدت إلى جدة النثر”. وهو ما يؤكده طه حسين بدوره وبعنف أشد، إذ يرى الشعر غافلاً عن العصر، ويجد الشعراء غير قادرين على مواكبته. وهو ما يتابعه عباس محمود العقاد في السنة عينها، أو ابراهيم الحوراني… فيما نجد شعراء عموديين، مثل جميل الزهاوي ومعروف الرصافي وغيرهما، يتخذون مواقف “قابلة” لفنية النثر، من جهة، وناقدة لتعسف القافية، من جهة ثانية.

اندفاعة النثر قوية، متمادية حتى أيامنا هذه، ما يجعل الرواية تتصدر المشهد الأدبي منذ عقود في العالم العربي، فيما يخفت صوت الشعر، وتزداد وحشته بعد طول إقامة فوق المنابر.

ما يفسر ظهور الشعر المنثور قد يجد باعثه في اطلاع شعراء عرب على تجارب غربية هنا وهناك، إلا أن ما حصل لهذا الشعر، وما عرفه من تجارب، علينا أن نجد أسبابه في تدافعات الشعر العصري ابتداء من “عصر النهضة”. وهي تدافعات طلبت الخروج من العروض، بل من مترتبات البيت الشعري، كما أمكنني التحقق.

ففي غير تجربة سبق لي درسها تحققت مما قاله رفاعة الطهاطاوي عن “ضيق القافية”، ومما ذكره كثيرون عن إمكان عدم التقيد بالقافية أو بتنويعها.

هذا الخروج وجد في الشعر المنثور اندفاعته الأقوى، إذ خرج شعراؤه تماماً على مقتضيات العروض بكاملها.

هذا الشعر جديد في العربية، بل شكل عنصر إقلاق متمادٍ في الشعر العربي: إقلاق على مستوى التعريف، إقلاق على مستوى التجربة، إقلاق على مستوى القصيدة. إلا ان هذا الإقلاق علامة حياة، علامة تجدد وتجديد في عالم العربية.

جرى إطلاق تسميات كثيرة عربياً على تجارب التجديد الشعري، منها: “الشعر الأبيض” (نجيب الحداد)، و”الشعر الحر الطليق” (أمين الريحاني)، و”الشعر الطليق” (نقولا فياض)، و”الشعر أو النظم المرسل المنطلق” (أحمد باكثير)، و”الشعر الحديث الحر والمطلق” (زكي نجيب محمود)، و”الشعر الجديد” (محمد مندور)، و”شعر التفعيلة” (عز الدين الأمين)، و”الشعر المستحدث” (إبراهيم الأبياري)، و”الشعر المنطلق” (محمد النويهي)، و”الشعر الحديث” (مجلة “شعر”) وغيرها.

من يدقق في هذه التسميات المختلفة يلاحظ أنها ترجمات مختلفة لمسمى شعري واحد، أو هي تسميات-مقترحات تكفل بها النقاد أنفسهم. وما أمكنت مراجعته هو أن التسميات الأجنبية لا تعدو كونها معدودة للغاية، بين التجربة الفرنسية والتجربة الإنكليزية والتجربة الأميركية، مع تقاطعات مع التجربة الألمانية خصوصاً في العهد الرومانسي. وهو ما يحتاج إلى مزيد من الفحص والتدقيق والتصحيح أحياناً:

قامت حورية الخمليشي بمجهودات في فحص “اصطلاحات” الشعر المنثور، وما رافقه من تسميات اصطلاحية أخرى، وتبينت مقادير الخلط فيها؛ بل شددت على أنه “لم يُعرف أي جنس من الشعر ما عرفه الشعر المنثور من إشكالية المصطلح”. وهو ما تعقبتْه في تعريفات البعض من شعراء هذا الشعر وغيرهم، بمن فيهم الريحاني نفسه، متنبهة إلى الاختلاط المفهومي فيها: “هكذا نلاحظ عدم اتفاق الشعراء والنقاد على توحيد المصطلح الشعري مما أدى إلى عمومية مدلول الشعر المنثور”. إلا أنها، بدل أن تفسر هذا الخلط المفهومي وتثبت حصوله، جنحت – بعد عرض نصوص قديمة، ومنها نصوص غير عربية – إلى القول بأن ما فعله الريحاني “خاطىء” لجهة صحة المصطلح، لكنها وجدت “جذوراً له (للشعر المنثور) في الثقافة العربية”، بل في آداب العالم القديم. ولقد أظهر التحليل والتتبع في هذه المحاضرة (وقبلها في الكتاب) كون شعراء القصيدة المنثورة لم يباشروا هذه القصيدة ابتداء من الجاحظ أو ابن عربي، بل ابتداء من الحراك التجديدي المنفتح على القصيدة الأوروبية والأميركية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والذي أدى في تدافعاته هذه إلى بروز “الشعر المنثور”. بل يمكن التنبه إلى أن أحمد شوقي قام في العقد الثالث من القرن العشرين بمحاكاة هذا الصنيع المستجد في كتابه: “أسواق الذهب”، والذي أعلن فيه عن نسبة نصين فيه إلى “الشعر المنثور”. وهو ما كانت سلمى الخضراء الجيوسي قد شددت عليه، إذ اعتبرت أن الشعر المنثور “لم يكن تطوراً طبيعياً في الشعر العربي الحديث”.

الفوضى معممة، ابتداء مما قاله أمين الريحاني نفسه، وما استعاده كثيرون من دون فحص أكيد.

هناك مرجعيات للقصيدة المنثورة أو إحالات لها، إلا أن هناك – قبل ذلك – تجاربها نفسها، أي توليداتها، كما تتجلى في قصائدها.

*****

(*) محاضرة في “المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت”، الثلاثاء، 2 حزيران-يونيو 2015.

مدونة الشعر المنثور

زيدان، جرجي :

“الشعر العصري”، مجلة “الهلال”، جزء تاسع، السنة الثالثة عشرة، يونيه-حزيران من سنة 1905.

“الشعر المنثور في اللغة العربية”، مجلة “الهلال”، س 14، ج 10، يوليو-تموز من سنة 1905.

مجلة “الهلال”، القاهرة، ج 4، يناير-كانون الثاني من سنة 1906.

“الأدب العصري والشعر المنثور وليالي الروح الحائر”، “الهلال”، العدد 12، 1912.

المعلوف، عيسى اسكندر : “الشعر المنثور والوزن والتقفية في الشعر العربي”، مجلة “الهلال”، القاهرة، ج 10، يوليو-تموز من سنة 1906.

إنجليل، توفيق الياس : “الشعر المنثور”، مجلة “الهلال”، القاهرة، ج 3، ديسمبر-كانون الأول من سنة 1906.

شحادة، بولس : “الشعر الموزون غير المقفى في اللغة العربية”، مجلة “الهلال”، القاهرة، يناير-كانون الثاني من سنة 1906.

سلامة، حبيب : “الشعر المنثور”، دار الهلال، القاهرة، 1922.

كرم، كرم ملحم : “الشعر المنثور والمفتتنون به بضاعة رائجة كاسدة”، في “الأحرار المصورة”، بيروت، العدد 20، 25 أيار-مايو 1926.

الشعرباف، رشيد : “الشعر المنثور” (Les vers blancs)، مجلة “لغة العرب”، بغداد، الجزء 4 من السنة 7، عن شهر نيسان-ابريل سنة 1929، صص 369-371.

أنيس المقدسي : “الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث”، بعد الحرب العالمية الثانية.

الخمليشي، حورية : “الشعر المنثور والتحديث الشعري”، دار الاختلاف – مدينة الجزائر مع الدار العربية للعلوم – بيروت، 2010.

الواصل، أحمد :

“مجلة الأديب لصاحبها ألبير أديب”، مجلة “الغاوون”، العدد 40، تموز-يوليو 2011.

“ثريا ملحس… التائهة بنشيدها الأبدي”، مجلة «الغاوون»، بيروت، العدد 41، آب-أغسطس 2011.

بو عيسى، ألبير أسعد : “أدب وسيرة، من خلال أحاديث الشيخ الياس خليل زخريا” (رسالة جامعية)، الجامعة اليسوعية، بيروت، 1982.

مجلة “القصيدة” (: نوري الجراح)، عَمان، العدد الأول، خريف 1999.

مجلة “المعرفة” الشهرية، وزارة الثقافة السورية: ملف خاص : “أورخان ميسر بعد عشر سنوات”، من إعداد : سعد صائب ومحمد الزايد، دمشق، 1975.

مجلة “المعرفة” الشهرية، وزارة الثقافة السورية : عدد خاص عن أورخان ميسر، في العام 2006.

ألكسندريان، ساران : “جورج حنين، رائد السورياليين العرب”، تحقيق وترجمة: كميل قيصر داغر، دار الجمل، كولونيا (ألمانيا)، 1999.

الحجيري، محمد : “توفيق صايغ الكركدن المحاصَر”، مجلة “الغاوون”، بيروت، العدد 38، 1 أيّار-مايو من سنة 2011.

مجموعات من الشعر المنثور

أديب، ألبير : “لمن؟”، دار المعارف، القاهرة، 1954.

الأسدي، خير الدين : “أغاني القبة : نفحات صوفية” (طبعة أولى، 1950، حلب، مطبعة الضاد)، طبعة ثانية تكفل بها وبشرحها وتقديمها جميل منصور، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2007.

الجاي، إدريس : “السوانح”، مطبوعات القصر الملكي، الرباط، 1971.

جبرا، ابراهيم جبرا :

“تموز في المدينة”، (دار مجلة شعر، بيروت، طبعة أولى، 1957)، طبعة ثانية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1981.

“الأعمال الشعرية الكاملة”، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1990.

جبران، جبران خليل : “المجموعة الكاملة لمؤلفات جبران خليل جبران – العربية”، أشرف عليها وقام بها : ميخائيل نعيمة، 1949، من دون ذكر اسم دار النشر، بيروت.

الحسامي، منير : “عرش الحب والجمال”، مطبعة الأرز، بيروت، 1925.

دبي-جوري، ليليان : “على الأنهار وعلى البحار”، دار الكرمل، القدس، 2007.

الراعي، راجي : “قطرات ندى”، مطبعة “زحلة الفتاة”، زحلة، 1924.

الريحاني، أمين :

“كشكول الخواطر”، تقديم ودراسة : جان داية، دار فجر النهضة، بيروت، 2014.

“شذرات من عهد الصبا”، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980.

زخريا، الياس خليل :

“جنينة البنفسج”، مجلة “الأديب”، كانون الثاني-يناير من سنة 1945، ص 11.

“أوراق الورد”، مجلة “الأديب”، شباط-فبراير من سنة 1945، ص 5.

زيادة، مي : “المؤلفات الكاملة”، تحقيق : سلمى الحفار الكزبري، (مجلدان)، مؤسسة نوفل، بيروت، 1982.

السباعي، بشير : «بلاء السديم – مختارات من أعمال كاتب سوريالي»، دار بيت الياسمين، القاهرة، 2013.

سليمان، فؤاد :

“أغاني تموز”، دار الأحد، بيروت، طبعة أولى 1953.

“تموزيات”، دار الأحد، بيروت، طبعة أولى، 1955.

“درب القمر”، طبعة الشركة العالمية للكتاب، بيروت، الطبعة السادسة، 1986.

شكر الله، ابراهيم : “الأعمال الكاملة”، جمع ودراسة : ابراهيم الموافي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2003.

صايغ، توفيق : “الأعمال الكاملة، المجموعات الشعرية”، رياض الريس للكتب والنشر، لندن، 1990.

الصباغ، محمد :

“العبير الملتهب”، المطبعة الحسنية، تطوان، 1953.

“شجرة النار”، المطبعة المهدية، تطوان، 1956.

طاغور، رابندرنات : “البستاني”، معربة نظماً ونثراً: وديع البستاني، مطبعة المعارف، القاهرة، من دون ذكر التاريخ.

عفيف، حسين :

“مناجاة”، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1933.

“الأغنية”، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1940.

“الأعمال الكاملة، المجلد الأول : الأعمال الشعرية”، إعداد وتقديم : عبد العزيز الموافي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2002.

عبد المقصود، محمد سعيد وعبد الله عمر بلخير: “من وحي الصحراء”، 1936، مطبعة عيسى الحلبي وشركاه، القاهرة.

عواد، سليمان :

“سمرنار”، مطبعة الجمهورية، دمشق، 1957.

“”شتاء”، مطبعة الجمهورية، دمشق، 1957.

“الأغنية الزرقاء الأبدية”، دار مجلة الثقافة، دمشق، 1986.

عواد، محمد حسن :

“أعمال العواد الكاملة”، مجلد “تأملات في الأدب والحياة”، دار الجيل للطباعة، القاهرة، 1981.

“ديوان العواد”، الطبعة الثالثة، الجزء الثاني، مطبعة دار العالم العربي، 1979.

فايق، نيفين مع محمود، سيد : “رسائل ونصوص مجهولة لرائد الشعر المنثور: حسين عفيف، شاعر المناجاة”، جريدة “أخبار الأدب”، القاهرة،، 10 يونيو-حزيران 2012..

قربان، نقولا :

«نيسان»، دار الكاتب العربي، بيروت، 1955.

«سلة شعر»، دار فينوس، بيروت، 1957.

«نشيد الرخام»، دار الروائع، بيروت، 1964.

جريدة “النهار”، “الملحق”، عدد 8992، 28 آذار 1965.

الكاتب، سالم : “مواكب الحرمان”، دار المكشوف، بيروت، 1949.

الماغوط، محمد : “الآثار الكاملة”، دار العودة، بيروت، د. ت.

مفرج، توفيق :

“على ضفاف النيل” (“تاريخ مصر من مينا إلى يومنا”)، القاهرة، 1949، من دون ذكر دار النشر أو المطبعة.

“آلام وأحلام”، من دون ذكر دار النشر، أو سنة النشر.

ملحس، ثريا :

“النشيد التائه”، دار الكتاب، بيروت، 1949.

“عشر ملحنات”، المكتبة الأهلية، بيروت، 1951.

“عشر نفوس قلقة”، بيروت، من دون ذكر دار النشر، 1955.

المناصرة، عز الدين : “إشكاليات قصيدة النثر: نص مفتوح عابر للأنواع”، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت-عمان، 2002.

المنفلوطي، مصطفى لطفي : “النظرات” (3 أجزاء)، الطبعة الرابعة، المطبعة الرحمانية، القاهرة، 1923.

ميسر، أورخان :

“سريال”، (طبعة أولى، 1947، مطبعة السلام، حلب)، طبعة ثانية، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1979.

“مع قوافل الفكر”، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1974.

 

اترك رد