خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنان)
مؤلف هذا الكتاب هو مدير سابق للأمن في تركيا اسمه حنفي أوجي، والكتاب يروي تجربته مع التنظيم السري لفتح الله غولن حليف حزب «العدالة والتنمية» التركي قبل أن يختلف مع الحزب ومع رئيسه رجب طيب أردوغان. صدر الكتاب قبل الانقلاب الفاشل في تركيا، بل تعود طبعته الأولى الى العام 2010، لكنه لاقى رواجاً هائلاً بعد حصول الانقلاب بالنظر الى صلة مضمونه بما جرى في تركيا، حيث بيع أكثر من مليون نسخة منه في فترة قصيرة جداً. فالكتاب بات كاشفاً لحقيقة الأحداث في تركيا، وأكثر الكتب إلقاءً للضوء على تنظيم غولن وحجم اتساعه في تركيا. (ترجم الكتاب وقدم له محمد زاهد جول، وصدر عن «دار ابن حزم» في بيروت).
يقول المؤلف في المقدمة: «إنني في مركز لا يمكن للكثيرين الوصول إليه بسهولة، وقد تدخّلت في أحداث مهمة كثيرة لا أعرف عددها وفعلت الكثير من الأمور المهمة، ولكني قمت بهدم بعض ما بنيت، لأنني اعتقدتُّ بأنه كان يجب ان يهدم، وأنني سأحاول هدم قسم جديد منه – أيضاً – في هذا الكتاب. لقد كبرتُ حاملاً قيماً في النهج اليميني، وهو نهج أخلاق ووطن وشعب وبلد محدد. كبرتُ وأنا أنظر للأعلى، ولكني مع الزمن بدأت أتساءل عن هذه القيم المثلى العليا، كانت إحداها، أو قسم منها، سبباً كافياً لكتابة هذا الكتاب». في كتابه هذا يسعى الى تبيّن حال الدولة ومدى الفساد الذي كانت تعاني منه. ومن موقعه الأمني كشف ان أجهزة الدولة نفسها وكبار المسؤولين هم من رعاة الفساد، بل بالأحرى هم شركاء فيه. كما يكشف في فصول متعددة حقائق عن النظيم السري الذي يمارس دور الوصاية على الدولة وحكوماته المنتخبة، وعن مسؤولية هذا التنظيم في رعاية الفساد وانتشاره.
يستمد الكتاب اسمه من أحد فصوله «سيمون» الذي كان قاضياً في الثورة الكردية والذي خان ضميره طاعة للحزب في إحدى القضايا التي لم يدافع فيها عن امرأة مظلومة، هي أخت القاضي نفسه، الذي قَبِل بالتضحية بأخته المظلومة طاعة لأوامر التنظيم. انطلاقاً من هذه القضية، سجّل حنفي على نفسه التزام قضايا مبدئية تقوم على رفض الشخصية «السيمونية» بصفتها شخصية منبوذة، فيقول: «لقد قطعت عهداً على نفسي: أنا لن أصبح سيمونياً، سأواجه كل من يقوم بالخطأ ولو كان من أعز أقاربي وأصحابي. إن السيمونيين في الأصل موجودون في كل تنظيم وكل مكان، السيمون موجود في مكان لا أهمية للإنسان فيه، وفي كل مكان تسري فيه ثقافة الطاعة من أجل مصلحة الجماعة». ولقد ذهب بعيداً في القول إنه حيث تكون مصلحة الجماعة مقدّمة على الحق والعدل والإنصاف، فذلك دليل على وجود شخصية سيمونية. ساعده على تكوين آرائه ما شاهده من وقائع خلال عمله في مراكز الأمن، حيث أدرك حجم الفساد المتفشي في القرى والبلدات والمدن التركية، وكيف كانت مراكز الأمن والشرطة متعاونة مع المتنفّذين في السلطة لنشر الفساد والرذيلة، وكيف كانت الأحزاب نفسها منخرطة في هذا الفساد. ولم يوفر رأيه في المافيا التركية التي كانت تقلب الحقائق وتجعل من الباطل حقاً، من خلال نفوذها الواسع في أجهزة الشرطة والقضاء.
يولي الكاتب حجماً مهماً من كتابه للقضية الكردية ولممارسات حزب العمال الكردستاني، الذي يقوم بتجنيد أطفال لتنفيذ أعمال إرهابية من قتل وتفجيرات داخل المدن التركية. يأخذ على الشرطة التركية وأجهزة الاستخبارات جهلها بأفكار حزب العمال الكردستاني وأهدافه الأيديولوجية ومناهج عمله، اذ لا يكفي وسم الحزب بأنه إرهابي لتكتمل مواجهته. يأخذ على الأجهزة أن الدولة الألمانية تملك ملفاً كاملاً عن هذا الحزب يتناول جميع مكوناته وعمله، فيقول متألماً: «رأيتُ في الاجتماعات أن الألمان تمكّنوا من معرفة pkk أكثر منا بأضعاف المرات، لأننا لم نأخذ الأمر على محمل الجد، ونقول دائماً انهم ثلة من المتمردين لا غير. قال مسؤول ألماني في آخر الاجتماعات: «ان pkk تنظيم خطير جداً، وأنه يستطيع ان يسيّر حرب عصابات ضد تركيا ويخلق مشكلات كبيرة في ألمانيا، يجب أن يُحسب له ألف حساب في المستقبل»، نعم لقد لخّص الموضوع في شكل رائع».
لم يكن حنفي مقتنعاً بالمعالجة الأمنية الوحيدة الجانب لحزب العمال الكردستاني، وخالف رأي بعض الضباط المتخصصين في مكافحة التنظيمات الإرهابية والذي يدعو إلى إعدام كل القادة الكبار من الحزب كأفضل وسيلة للقضاء عليه. كان حنفي يرى أن إعدام قادة الحزب لن ينهي المشكلة ولن يقضي على التنظيم، بل سيزيد الأمور تعقيداً ويؤدي الى مزيد من التدهور الأمني وإلى تضامن أوسع مع الحزب. لم يكن يرى في العنف حلاً للمسألة الكردية، لأنه كان يرى نفوذاً قوياً لحزب العمال الكردستاني في الأوساط الكردية الشعبية. كان يؤكد رفضه إسكات عناصر المعارضة بطرق غير قانونية، لأن هذه الوسيلة غير القانونية ستزيد من الأعمال الإرهابية لدى هذه التنظيمات. بل على العكس، كان يرى أن الاستقرار السياسي في البلاد مرهون بتحقُّق الديموقراطية ونشرها على جميع المستويات. يخلص من ذلك بالقول إن أكبر المشكلات في تركيا وفي دول العالم المتخلفة هو موقع الدولة وصلاحياتها. كما يشدّد على التمسُّك بالعقل والعلم وفتح باب التغيير وفق متطلبات الشعب والمجتمع.
في قسمٍ ثانٍ من الكتاب، يتعرض حنفي أوجي إلى التنظيم السري لفتح الله غولن، فيكشف معلومات عن أساليب عمل هذه الجماعة، التي يعايشها الناس من دون ان يعرفوا أهدافها. لا يعتبر حنفي نفسه عدواً لجماعة غولن ولا خصماً لها من الناحية الفكرية أو الأعمال الخيرية التي كانوا يقومون بها. ينتقد طبيعة القوانين التي كانت الدولة تعمل بها في إبعاد العناصر الإسلامية او المتدينين من الخدمة في القطاعات العسكرية والأمنية والمراكز الحكومية الحساسة، ليكشف أن غولن كان يخترق هذه الممارسات عبر دعوة أتباعه إلى إخفاء هويتهم الدينية، واتباع التقية، بإظهار هوية علمانية تُبعد التهمة عن انتمائهم، مع بقائهم في ارتباط سرّي مع جماعة غولن وتلقّي الأوامر منها. يعترف حنفي بإدخال بعض العناصر المتديّنة في جهاز الاستخبارات على رغم رفض المسؤولين تعيينهم، وهو بذلك يقر بأنه ساعد على دخول جماعة غولن في مؤسسات الدولة الأمنية، لكن من دون أن يعلم انه يقدّم العون لتشكيل تنظيم سري في أجهزة الدولة. يعترف بتغلغل جماعات غولن في المراكز الأمنية والقضائية، إضافة إلى قوتها السياسية والاقتصادية، مما جعلها أشبه بدولة ضمن الدولة. ومع إقراره بالخطر الذي تمثّله جماعة غولن، فإن حنفي يدعو إلى تنحية كل الأسماء المعروفة بانتمائها إلى هذه الجماعة وفق المعايير القانونية اللازمة.
يشكل الكتاب مادّة مهمة لفهم مجريات الأحداث التي جرت وتجري في تركيا، قبل وصول حزب العدالة والتنمية الى السلطة وبعدها. كما يقدّم مادة غنية لفهم العملية الانقلابية الأخيرة التي جرى اتهام غولن بالتخطيط لها، وكذلك بطبيعة الانقلاب الذي قاده أردوغان جواباً على انقلاب غولن. يبقى أن الإعجاب سيصيب القارئ من رجل أمن تسلّم مراكز أساسية وحساسة في البلاد، لكنه كان يتمتع بعقلية رجل سياسي يعتنق مبادئ الديموقراطية والعدالة، ويرفض أن يكون العنف وسيلة لحل المشكلات في البلاد، وهو ما حاول تطبيقه في ميدان عمله. إنه من الأصناف النادرة في عالمنا العربي أو الإقليمي، حيث تحمل العسكريتاريا منظومة أيديولوجية أساسها رفض الحلول الديموقراطية والتسويات، وتنصيب العنف وسيلة وحيدة لتحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي.