د. رفيف رضا صيداوي
(كاتبة وباحثة-لبنان)
بتدفّقٍ سرديٍّ يُشبه في إيقاعِه تدفّقَ الأزمنة بلحظاتِها وأيامِها وشهورِها وسنينها، بنى الروائي اللّبناني عماد حمزة روايته “مبرومة”، الصادرة العام الفائت عن دار الفارابي في بيروت، والتي تَقاطَع فيها الماضي وأناسُه وأحداثُه مع الحاضر الصّعب. وقد شكّل كلٌّ من “سهجنان” الحاضرة في النصّ، و”الحاج عبد الرسول محمد الكرَّام”، الجدُّ الغائب الحاضر، محورَ هذا الإيقاع. سهجنان إمرأة على مشارف الأربعين، غادرت منزل أهلِها في الشمال، وتحديداً طرابلس، لتحيا في بيروت حياةً مُزرية، متنقّلةً بين المقاهي والأمكنة والمنازل كالبدو، وقد اضطرّتها حياتُها البائسة تلك إلى الاستدانة والاحتيال والمساومة على جسدها مع صاحب المجلّة التي تعمل فيها.
… ولئن كانت سهجنان هي محور رواية عماد حمزة، فإنّ المبرومة – وهي “مبرومةُ ذهب بالغة الحجم باستدارة وسماكة خنصر الرجل البالغ، شرائطُ سبعٌ من الذهب المبروم شريطةً شريطة تلتفّ بعضُها على بعض كجديلةٍ من ذهب، فائقة الصَنْعَة، تسطَعُ سطوعَ شمسٍ على جبين الأفق” (ص60) – لا تقلّ شأناً عن البطلة الرئيسة سهجنان، لجهة موقعها المركزي في الرواية. فهي بوصفها من متمّمات المكان الروائي، وعلى الرّغم من مجالها الجزئي في الفضاء الروائي، اكتست دلالة مركزيّة اقتضت عَنْونة الرواية باسمها. فماذا تقول الحكاية؟
لعنة على الوريثة
تقول الحكاية إن جدّ سهجنان، وهو “الحاج عبد الرسول محمد الكرَّام” اشترى “المبرومة” وهو فتىً لتكون الهديّة (العلامة بالعاميّة) التي سيقدّمها يومَ خطبته إلى الصبيّة التي هواها قلبُه – أي سهجنان الجدّة – من جوهرجيّ أرمنيّ في مدينة حلب: مبرومة 135 غراماً، دفع ثمنَها نقداً وعدّاً نحو 1600 مجيديّة وعشرين بشليكاً كلّفته أربعَ سنواتٍ فلاحةً، فضلاً عن العمل مع المُكاريّين في المواسم والعمل كذلك في تجارة العدس، واجتياز مسافة 14 يوماً في الشتاء من طرابلس إلى حلب سيراً على الأقدام (راجع ص 60). ثمّ ما لبثت سهجنان الجدّة أنْ أهدتها لحفيدتها شرطَ أن تُسمّى باسمها؛ فكان لها ما أرادت.
غير أنّ “المبرومة” الموروثة شكّلت لعنة على الوريثة، أي على سهجنان الحفيدة، التي لطالما كرهت اسمَها وصارت تسمّي نفسها في الحياة العامة “جِنان”، على الرّغم من المعنى الجميل للاسم – وهو بالفارسيّة الجنّاتُ الثلاث – وما ينطوي عليه من تكثيفٍ لمعاني الخير والرفاه والأمل والدَعَة والسعادة ورَغْدِ العيش.. إلخ. سهجنان الشريدة، إذا ما جاز التعبير، الرافضة لاسمِها بقدر رفضِها ماضيَها وبيئَتها، سرعان ما تتبدّل مع زواجها وحمْلِها. ولم يكن الزواجُ وحده هو الذي غيّرها، بل البيئة الجديدة أيضاً، وتحديداً القِيم الجميلة التي حملها حمواها (أم وليد وأبو وليد). فإذا بها تُقفِل بابَ الماضي وتعود لتكتسي الصفات الإنسانيّة الراقية، وتتصالح مع اسمِها.
ثنائيّة الخير والشرّ
لقد حملت سهجنان اسمَها كإرثٍ ثقيل إذن، رافقها كظلِّها، وكأنّه يعيدها إلى مأساة عائلتها، وتحديداً إلى مأساةِ جدِّها “الحاج عبد الرسول محمد الكرَّام” الرجل “الطيّب الذكي” “العاقل” “الأديب الأريب” و” المحدّث اللّبق الذي تُشَنَّف الآذان بالإصغاء إليه”(ص229)، والذي قضى عمرَه يشقى ويكِدُّ ليؤمّن لعائلته الكبيرة المؤلّفة من ستّ بنات وخمسة صبيان، حياةً كريمة عاشت كأحسن ما يعيش أواسطُ الناس (ص218). لكنّه ما إن عجز حتّى ألقى به أبناؤه في مأوىً للعجزة في بيروت، حيث عومل أسوأ معاملة، وبات مجرّد رقم مضطّهَد، “ليس له مَن يسأل عنه، أو يتفقّد أحواله ولو في الشهر مرّة” (ص230).
وبين القِيم الأصيلة التي حملَها الجدُّ وتشرّبَها وطبَعَتْ شخصيّتَه من جهة، والزمن الراهن بكلِّ قيَمِه المنحطّة من جهة ثانية، بدت سهجنان الإطارَ الحامل لقِيَم كلا الزمنَين، إلّا أنّ القِيم الأصيلة تلك بدت كامنةً لديها أو نائمةً بانتظار مَن يوقظها، ولاسيّما في هذا الزمنِ الصعب، حيث الكلّ يتبرّأ من الكلّ؛ وحيث إنّ صعوبة الحياة تصبحُ المِشجَب الذي تُعلَّق عليه كلّ الحِجج التي تعفينا من مسؤولياتنا تجاه الذات والآخر.
هكذا برّر أعمامُ سهجنان وعمّاتها، فضلاً عن والديها، إهمالَهم لأبيهم، تارةً، بسبب ضيق ذات اليد، وتارةً أخرى بسبب صعوبة التنقّل بين المناطق خلال الحرب اللبنانية، وتارةً ثالثة بسبب المسؤوليات العائلية والمهنيّة الجمّة التي تقعُ عليهم. ولئن سقطت رؤوس الاستبداد في موجات “الربيع العربي”، وتكشّفت هشاشةُ تلك الأنظمة وتلوّثها، بعدما داست طويلاً على قلوب شعوبها وكراماتهم، نرى سهجنان بدورها، التي راحت “تشاهدُ نفسَها تنحطُّ وتنحدرُ ببطءٍ وثبات، من علياء التألُّهِ مراهقةً في بيت أبيها إلى حيث هي، اسماً زائفاً وأفعالاً شائنة” (ص43)، نراها تتّخذُ من هذه الوقائع ذريعةً أيضاً لتبرير سلوكيّاتها المنحرفة: “إذا صدّام حسين والقذّافي ومبارك، سقطت هيبتُهم، فمَن أنا لأشقى، من أجل ديونٍ تافهة، ما قَدْراني سدِّدْها. بُكرا بسّ يصير معي بدفع”(ص43). وكأنّ الزمن الراهن لم يطوِ كلّ الذين عرفوا “الحاج عبد الرسول” و”تعلّقوا به وبحكاياته ودماثة خلقه، ورقّةِ ألفاظه”(ص224) فحسب، بل كأنه يكاد يطوي معَه كلَّ القِيَم النبيلة أيضاً.
وفي خضمّ صراع القيم هذا، الذي يعكس التأثّرَ الواضحَ بالأدبِ الواقعي، ولاسيّما الروسي الذي اشتهر بتصوير الصراع الأزلي بين الخير والشرّ وبخاصّة أدب دوستويفسكي، عثرت سهجنان على طريق خلاصها الذي سمح بإيقاظ قيمِها الأصيلة، وذلك من ضمن رؤيةٍ تفاؤليّة تؤمِن، شأن الرومنطيقيّين، بأنّ الإنسانَ خيّرٌ في طبعه، وأنّ الروحَ تتعطّشُ دوماً إلى الكمال.
دائريّة الزمن
الشرّ يخلق الشرَّ ولو بعد أجيال. والخيرُ يخلق الخير ولو بعد أجيالٍ أيضاً. وبقدْر ما هنالك من نهاياتٍ جائرة، ثمّة نهايات سعيدة أيضاً. وهذه وتلك تتوالدان إلى ما لا نهاية. أمّا الزمنُ الذي ندركُه، نحن البشر، فليس سوى محطّةٍ أو جزئيّةٍ تبدأ بالولادةِ وتنتهي بالموت. وما دائريّةُ الزمن الإنساني هذه إلّا مهزلة ليس بمقدورنا مقاومتها إلّا بالترفّع عن صغائر الحياة. “مهزلة الزمن” هذه هي الحقيقة التي أدركها الجدُّ، وما كان ليدركَها لولا سعة اطّلاعه وثقافته ومعرفته بحسب منطق الرواية. فمِن بعض ما جاء في الوريقات المكتوبة بخطِّ يده أنّ “ثمّة في الحياة نهاياتٍ جائرةً، بل لعلّ نهاياتِ الحياةِ كلَّها جائرة. نهايات تقتصُّ من أبطالها بمثل البساطة التي يراكمون فيها ذكرياتِهم التي ما انفكّت تستحيلُ من حدثٍ إلى ذكرى. وما أبشعَ الزمانَ وأخفَّه في العبور على ثِقَلٍ مرير. فبينما تتمدّدُ الهنيهاتُ ونحن نعيشُها، إذا بالسنين والعقود تتفلّتُ كالماء من بين الأناملِ، كلّما التفتنا إلى الماضي فتسقطُ في القلب وتنهِكُ شرايينَه، وليس من قوّةٍ تستطيعُ أن تُرجعَها أو تدفعَها بعيداً” (ص224). ولعلّ سماته هذه (كمطّلع وبصير وعارف) هي التي جَعَلَته يترفّع في حياته عن صغائر الحياة ويتعمّق في جوهرها، لكونها، وربطاً مع المنطق الديني، فانيةً.
في غياب الفانتازيا والتجريد
إذ إنّ النظرة المتسامية إلى الحياة، وما تخفي وراءها من نزعةٍ فلسفية ذات منحىً دينيٍّ أخلاقيٍّ يدعو إلى الألفة والمحبّة في سبيل التكامل الروحي للمجتمع الإنساني بأسره، لم يمتلكْها أيٌّ من أبناء “الحاج عبد الرسول محمد الكرَّام” أو أحفادِه، ومن بينِهم سهجنان، إذ بدوا مجموعةً من الجهلة الساعين وراء إغراءات الحياة الماديّة ليس إلّا. فلسفةُ الجدّ التي كتب شذرات منها على أوراقٍ عثر عليها الأولادُ هنا وهناك، كان مصيرها التلف. وحين عَثرت سهجنان ذات مرّة على إحدى الأوراق التي بُسطت على أرضية صندوق من البلاستيك، هو حصّتُها من العنب الذي يرسله لها والداها من الشمال، بدا لها “أنّها تقرأ سنسكرتيّة بخطّ عربي” (ص 58)، ثمّ “مشت لترمي بها من النافذة، عندما لفتتها فجوةٌ تحت إبريز الشبّاك، فدسّت الأوراقَ فيها” (ص 58). أما بعضُ هذه الوريقات التي عثر عليها والد سهجنان – وهي بخطّ أبيه “الحاج عبد الرسول محمد الكرَّام”- فكان مصيرها أتونَ القازان للتخلّص من الجنّ الموجود فيها، ولاسيّما أنّها كانت تحوي أسماءً مجهولة بالنسبة إليه وإلى زوجته كسقراط وأفلاطون (ص226).
لكن مع اختمار تجاربها الحياتيّة، طرأ تحوّلٌ على شخصيّة سهجنان، حيث استيقظ الخيرُ الكامن فيها، وربّما الموروثُ عن جدّها، فكشفت سلوكيّاتُها، مثلَ التسامح الذي أبدَتْه حيال بعض أفراد أسرتها، وتخلّيها عن عادة الكذب التي رافقتها من قبل، كشفت، عدا عن نظريّة أنّ الإنسانَ خيّرٌ في طبيعته وأنّ البيئة الاجتماعيّة هي المسؤولةُ عن فساده – كما سبقت الإشارة – أنّ التجربةَ الحياتيّة لا تقلُّ شأناً عن المعرفة العلميّة في سموّ الإنسان وإشعال طاقاتِه المختبئةِ وفي نموِّ درجة إنسانيّته وإشراقِه الروحي.
هكذا لم تقم المقارنة بين الزمنِ الماضي والزمنِ الحاضرِ بناءً على محورَين زمنيَّين متقابلَين، بل نهضت فنّياً من زمنٍ واحدٍ هو الزمن الراهن الذي وُظِّفت التقنيّات الفنّية (من استذكارات ورسائل وحكايا) للإيحاء بتواصله مع الزمن الماضي، لا بوصفه زمناً يختزن الفطرةَ والبراءة، بل بوصفه زمناً أزليّاً تحكمه الحركةُ الدائبةُ لـ “الْيَنّ” و”اليانغ” (السالبِ والموجب بحسب الفلسفة الصينيّة) اللذَين يشكّلان حركةَ الكونِ بأسرِه: الذكر والأنثى، الحارّ والبارد، الصَلب والرقيق، الولادة والموت، الخير والشرّ.. كلُّها ثنائيات حيويّة تُحقّق التناغمَ من خلال التفاعل في ما بينها. وما على البصير إلّا أن يستقي، شأن الصينيّين، فلسفتَه لتحقيق التناغم من أجل استقرار عيشه، وقضاء زمنه على هذه الأرض باحترامٍ وكرامة.
وفي غياب الفانتازيا والعدمية والتجريد، مالت الرواية إلى وثوقيّة الحدث، لكأنّ الوجودَ ليس متاهةً، على الرّغم من “مهزلة الزمن” هذه، وذلك في دعوةٍ مبطّنةٍ إلى تأمّل فلسفة الزمن الوثيقة الصلة بفلسفة الحياة والوجود والتغيّر. لكأنَّ الزمن هو نهرٌ جارٍ، ليس لنا خيار الغوص فيه أو الخروج منه. وتشاء الأقدارُ أن تكون لنا فيه محطّةٌ، نتواصل فيها مع مَن سبقونا ريثما نورِثُ مَن سيأتي بعدَنا كلَّ ما خبرناه بحلوِه ومرِّه وتناقضاتِه.
إنّها فلسفةٌ حياتيّةٌ، نجحت الروايةُ في إظهارها، وإن تعثّر القالبُ الفنّيُ الذي حملها أحياناً.
*****
(*) مؤسّسة الفكر العربي – نشرة افق