ثلاثة مشاهد من جامعة القاهرة، صيف 2016

emad abdul latif

د. عماد عبد اللطيف

(أديب وباحث وناقد- القاهرة)

أعشق جامعة القاهرة، فهي تشغل المساحة الأرحب من ذاكرتي الغضة؛ ففي رحابها عرفتُ وعشتُ خليطًا هائلا من أفكار ومشاعر، جعلتني ما أنا عليه إلى حد كبير. وأظن أنني – في عشقي لها – لستُ إلا واحدًا من عشرات الألوف ممن تخرّجوا منها، ثم درّسوا فيها، وانصهروا في أجوائها، فامتزجت أرواحهم بها بأشكال متباينة.

في هذا الصيف زرت جامعتي مرات عديدة، بروح متوثبة للقاء، ورافضة لأية مقارنة بين حال جامعة القاهرة الآن، وحال جامعات أخرى أعرق أو أحدث، أتيحت لي الدراسة أو العمل فيها في السنوات العشر الماضية. وفي هذا التعليق القصير سوف أصف ثلاثة مشاهد فقط من بين مشاهد كثيرة أخرى استوقفتني أثناء أول زيارة لها ، ووددتُ لو أنني أكتب عنها. وهي مشاهدات شخصية بالأساس، لا أريد أن أصل منها إلى أية تعميمات، مع أنها ربما لا تخلو من دلالة.

مشهد أول: الماضي

في مدخل مبنى كلية الآداب، حيث يقف تمثال طه حسين مستقبلا الصاعدين إلى قسم اللغة العربية، لمحت لافتة عزاء، تنعي العالم الفريد الدكتور مصطفى سويف، رائد علم النفس بالجامعات العربية، وأحد أهم من شكلوا العقلية العلمية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين (ليس في هذا أية مبالغة كما يعرف المتخصصون). يحمل خبر رحيل د. مصطفى سويف علامات عدة منها أن الجامعة تفقد رموزها الكبيرة؛ سواء بالرحيل عن الدنيا، أو عن الجامعة. ولن أعدد هنا أسماء من رحلوا خلال السنوات الماضية، فالنزيف أكبر من أن يستوعبه حصر!

العلامة الثانية تخص واقع الحياة في مصر عمومًا. لقد حضرتُ للدكتور سويف عشرات المحاضرات (وفي الحقيقة أنني نادرًا ما فوّت محاضرة عامة له سواء في الجامعة أو خارجها). لكن من بين محاضراته العديدة أتذكر تلك التي ألقاها في أتيليه القاهرة بمناسبة صدور سيرته الذاتية الرائعة “مسيرتي ومصر في دروب القرن العشرين”. وأتذكر تلك العبارة المفجعة التي قالها بألم شديد: لقد عشت حياتي أقاوم ثقافة الهدر: هدر الطاقات، هدر الوقت، هدر الجهود، هدر القيم..إلخ”. وأظن أن هذه العبارة تلخص الواقع المصري في العقود الأخيرة، وأعتقد أن الكلمة الأكثر تعبيرًا عن خلاصة الوضع المصري هي كلمة “الهدر”، وهنا يأتي المشهد الثاني تمثيلاً مؤلمًا لراهن تعيس.

adab-kahira

كلية الآداب -جامعة القاهرة

مشهد ثانٍ: الراهن

استنت جامعة القاهرة سنة غير حميدة، هي إلزام الأساتذة المسافرين للعمل خارجها دفع مبلغ يتراوح بين عشرة آلاف وعشرين ألف جنيه “تبرعًا إجباريًا” كل عام. ويُمنع عضو هيئة التدريس الذي لا “يتبرع إجباريًا”، من استكمال إجراءات الموافقة على السفر، وتوقف إجراءات حصوله على الإجازة حتى يقوم بدفع “التبرع الإجباري”. ليس التناقض الدلالي والمنطقي والقانوني بين كلمة “التبرع”، و”الإجبار” هو موضوع حديثي هنا؛ فواقع المفارقات اللفظية أفدح من هذا المثال “البسيط”. موضوع حديثي هو تجربة سداد “التبرع الإجباري”؛ وهي تجربة اضطررت – للأسف – إلى خوضها بشكل شخصي. في البداية على الأستاذ الجامعي أن يحصل على ورقة تبرع من الكلية، ثم يتوجه إلى أحد مباني الجامعة، ليسلم الورقة إلى موظف يأخذها منه، ويسلمه ورقة أخرى، ويطلب منه تسليم الورقة إلى موظف ثالث في مبنى آخر بعيد، ليحصل على وصل يقوم بسداده في البنك. قلتُ في نفسي: لا بأس، منذ فترة لم “أتبهدل” بين المكاتب، وتلك ممارسة ضرورية في الحياة.

وبالفعل قضيت نحو ساعة إلا ربع أهرول بين المباني المتباعدة، حتى حصلتُ على إيصال دفع التبرع الإجباري (بدون أقواس هذه المرة، فقد أصبح المصطلح مستقرًا!). ثم توجهتُ إلى البنك للدفع، وحصلتُ على رقم بدوري. وكل هذا يبدو عاديًا جدًا، إلى درجة أنك – عزيزي القارئ – ربما تسأل نفسك: لم نعهد في هذا الكاتب التطويل بلا داعٍ، ولا ذكر تفاصيل غير مهمة، فلماذا هذا السرد الممل؟! ومعك بالفعل كل الحق في ذلك. لكن أرجو أن تصبر علي قليلاً؛ فالحكاية لم تبدأ بعد. فحين دخلت قاعة الانتظار في البنك، وجدت أكثر من 60 أستاذًا وموظفًا جامعيًا يتكدسون في مساحة لا تزيد عن 4× 5 أمتار. بعض الأساتذة يستندون وقوفًا إلى الحوائط، وآخرون جلوس على السلم الضيق، ومثلهم لم يسعهم المكان فاستظلوا تحت شجرة قصيرة في نهار يونيو. وأثناء انتظاري لمدة ثلاث ساعات ونصف لدفع “التبرع الإجباري” لم أستطع التوقف عن طرح هذا السؤال: ماذا يُنتظر حين يُعامل على هذا النحو أساتذة جامعيون يُنتظر منهم أن يكونوا عقل الوطن النابض بالحيوية والتدفق والإبداع. كم من ساعات أخرى وجهد نفسي وبدني يضيع هباءً منثورًا في إنجاز معاملات يومية بسيطة، لا يجدر بالإنسان أن يحمل لها همًا بأي شكل؟ رحم الله أستاذي دكتور مصطفى سويف، ورحم الله الحيوية والتدفق والإبداع معه!

sueif

د. مصطفى سويف

مشهد ثالث: المستقبل

أحب الطيبين، وأقدرهم. وحين يجتمع الطيبون في مكان، يصبح فردوسًا أرضيًا. ومن بين أشياء عديدة لم تنقرض بعدُ من جامعة القاهرة، فإن الزملاء الطيبين هم الأجدر بالمديح. فأن يكون الإنسان طيبًا ونبيلا في مجتمع قاسٍ، فذلك جُماع الفضائل. وقد أتيح لي فرح أن أكون في صحبة جمع غفير منهم أثناء مناقشة دكتوراه الباحث اليمني الصديق د. محمد اليمني الذي سعدتُ بمشاركة العالم الجليل الدكتور عبد الحكيم راضي الإشراف على أطروحته، وناقشه الأستاذ الدكتور محمد يونس. وكان درة الطيبين في هذه المناسبة هو الدكتور حسام قاسم، أحد أهم اللسانيين المعاصرين، ممن كرسوا حياتهم لإنتاج معرفة أصيلة دون أن ينشغلوا بالدعاية لأنفسهم وأعمالهم، في حين ينعم بشهرة بازخة زملاء لم يقدموا عُشر ما قدمه للسانيات العربية، لأنهم فهموا منطق هذا العصر: الأكاذيب الرائجة أكثر فعالية من الحقائق المطمورة.

حين أتأمل هذا الإخلاص والدأب والإصرار على العمل في صمت أمتلئ ثقة في المستقبل. فبمثل هؤلاء تستمر الحياة. وعلى الرغم من أنهم يُجازون على إخلاصهم بالتجاهل، وعلى أعمالهم المتقنة بالصمت، فإن اليأس لا يجد سبيلا إلى نفوسهم وعقولهم. ويكون فرحهم بنبتة ساهموا في غرسها أكبر من فرحهم بما يجنيه الآخرون من شهرة ومال. لقد رأيت في تلك الجلسة العلمية، كيف يمنح الإخلاص للعلم فرحًا في القلوب، ونضارة في الوجوه. وإذا كان ثمة أمل في أن تتجاوز جامعتي العريقة عثرتها، وتصبح أكثر إشراقًا، فإن هذا الأمل يتوقف على اتساع قاعدة هؤلاء المخلصين، الذي قال فيهم دكتور راضي مرة: “أولئك الذين يعملون في صمت، ولا يحبون أن يُحمدوا بما لم يفعلوا”، وأزيد، ولا بما فعلوا!

vector-university

اترك رد

%d