بقلم: كلود أبو شقرا
“الأيقونة” كلمة يونانية تعني الصورة، ينفذ الرسام من خلالها عملاً يتجاوز الفرد أي لا يظهر فيها أي من صفاته وحتى توقيعه، وتجسد أشخاصاً أو مواضيع من الكتاب المقدس، ثم استقرت التسمية على الصورة المرسومة على الخشب، من أشهر الفنون الإيقونوغرافية: البيزنطي والروسي والسرياني.
حدد المجمع البطريركي الماروني الأيقونة المقدّسة بأنها “قيمةٌ عظيمة، لأنّها تذكّر المؤمنين بعظائم الله وبما حقّقه بواسطة قدّيسيه، ولأنّها تؤوّن مختلف أزمنة التدبير الخلاصيّة. تستحضر الإيقونة وتمثّل الجدّة المسيحيّة المطلقة الّتي “لم ترها عين، ولا سمعت بها أذن، ولا خطرت على قلب بشر” (1 قور 2/9)، وذلك بتقنيّاتٍ خاصّة وأشكالٍ من وحي التراث الحضاريّ الخاصّ وأساليب منسجمة ومتناسقة مع التصاوير المقدّسة، تعبيراً عن إيمان المؤمنين بالحقائق السماويّة”.
هذا التحديد للأيقونة ينطبق على مدارس الإيقونوغرافيا التي تطورت عبر العصور وتنوعت إلا أنها بقيت موحدة في جوهرها وهو التسامي إلى أبعد من المادة ومحاولة الاتحاد مع الله. ونظراً إلى أهمية هذا الفن في حياتنا اليوم، أوصى المجمع المقدّس بضرورة استرداد هذا التراث العريق في كنيستنا، بعيدًا عن التأثيرات الغريبة عن تقاليدنا المارونيّة والعمل على توعية المؤمنين إلى أهميّة تكريم الإيقونات المقدّسة، وعرضها، بترتيب وانسجام مع روحانيّة الكنيسة المارونيّة، في المكان الخاصّ بها في الكنيسة، وفي الاحتفالات الّتي يجب أن تظهر فيها بتطابق وتناسق مع الاحتفال الطقسيّ.
بدايات الإيقونوغرافيا
في القرون الأولى من المسيحية كانت الأيقونة وسيلة تعليمية للطبقات الفقيرة التي تعجز عن اقتناء الكتب المقدسة مثل التوراة أو الانجيل… لأن نَسْخها يكلف ثمناً باهظاً، لذا ارتأت الكنيسة تصوير مشاهد من الكتب المقدسة على جدرانها… لم يلقَ هذا الأمر قبولاً لدى المسيحيين الأوائل الذين اعتبروه شكلاً من أشكال الوثنية، إلا أن هذا الاعتقاد الخاطئ لم يمنع ظهور روحية جديدة حملتها المسيحية، وقد ساهم احتكاكها بالحضارة الرومانية في قبول تلك الرموز وإعطائها مفهوماً مسيجياً.
في القرن الثاني انتشرت نقوش ورسوم رمزية من بينها السفينة التي ترمز إلى الكنيسة والسمكة التي ترمز إلى السيد المسيح… وزينت جدران المعابد والمقابر في أنحاء الإمبراطورية الرومانية والعالم القديم مع ذلك حاربها بعض آباء الكنيسة مثل أوريجنس وأفسافيوس…
في القرن الرابع مع نشوء الإمبراطورية البيزنطية واعتناق الطبقة الارستقراطية المسيحية ظهرت أيقونات تجسد المسيح الملك، وفي القرن الخامس اتخذت الرسوم منحىً لاهوتياً من خلال رسم مشاهد من الكتاب المقدس وسير الشهداء والقديسين… هكذا صارت الأيقونة تكرّم وشكلت جزءاً مهماً في تعليم المسيحية…
في القرن الثامن ارتفعت أصوات مناهضة لهذا الفن تطالب بإقصاء الأيقونة من الكنائس باعتبارها رواسب من عبادة الأصنام وقد استمرّت هذه الحرب لغاية العام 830، إذ برز في تلك الفترة القديسان يوحنا الدمشقي وثيودوروس الستوديتي وهما من أشهر المدافعين عن الأيقونة، فساهما في نشر عقيدة إكرام الأيقونة ولاهوت الأيقونة الذي وضعها في موقعها السليم في العبادة المسيحية، هكذا انطلقت في أنحاء العالم المسيحي.
بعد ذلك تطوّر فن الأيقونة وتعددت مدارسه إلا أنه بقي محافظأً على جوهره، وأوكل المجمع المسكوني السابع إلى علماء الشرق الأرثوذكس كشف لاهوتية الأيقونة أمام العالم ومكانتها في العبادة.
الأيقونة البيزنطية
تتحرر الأيقونة البيزنطية من تجربة الإنسان الأرضيّة (أي الطابع الشهواني) لتتسامى بحركة تصاعديّة نحو السماء. تمتاز بفن بسيط وصارم يظهر الحقائق الخالدة غير الفانية بمواد فانية وذلك عن طريق الرمز.
السرّ الذي يكتنف الأيقونة البيزنطية هو نورانيّتها وتحررها
من الزمنيّة، ففي فضاء الأيقونة نور ٌمطلق بسبب الخلفيّة الذهبيّة وتلوّن مساحاتها بألوان داكنة ثم تشكّل الرسم رويداً رويداً بالألوان الأفتح إلى أن تنتهي ببؤرة الضوء، لذا يظهر الأشخاص مصدر الضوء.
هندسيا تُرسَم الشخصيّات بأبعاد متطاولة قد تصل إلى نسبة 1 / 12 لإبراز الشخصيّة إنسانيّة لكنها متسامية نحو السماء. على رغم بساطتها كفن إلا أن الأيقونة تتحررمن فوضى عالمنا وتتوازن خطوطها وألوانها وأجزاء تأليفها وفق تركيبة هندسيّة متينة. كذلك تتحرر المباني والأشكال الهندسيّة من منطق المنظور فلا تجد عمقاً في اللوحة لأن البعد الثالث غير منظور وهو البعد الروحي الذي يراه المصلي في قلبه وليس في عينيه. كذلك تغيب المسافة التي تفصل مراحل الأحداث وتتجاوز الزمان نحو الأبديّة.
متلئ راسم الأيقونة البيزنطية بالروح المحيي فينخطف من المنطق والعواطف البشريّة إلى عالم أبدي نورانيّ، لذلك يجب أن يكون مصليا وتقياً إلى ابعد الحدود. أما الرمز فهو سر القداسة في الأيقونة البيزنطية إذ تغيب الجمالية التي يعبر عنها بالإمتلاء لدى الأشخاص ويحل عوضا عنها التقشف والصمت بالأفواه الصغيرة لدى القديسين والرؤية الإلهية والتأله…
الأيقونة الروسية
مع اعتناق روسيا المسيحية الأرثذوكسية عام 988 اعتمدت في الإيقونوغرافيا الرموز والنماذج والصيغ البيزنطيه المقدسة. بعد عام 1600 تأثرت الأيقونة الروسيه باللوحات والمحفورات الدينية الكاثوليكيه والبروتستانتية في أوروبا، وكان نتيجة ذلك ان أحدث البطريرك Nikon تغيرات في القداس والممارسة الدينية، فانقسمت الكنيسة الارثوذكسيه الروسيه بين التقليديين او “المؤمنين القدامى” الذين حافظوا على الأسلوب التقليدي للايقونات، والكنيسة الرسمية للدولة التي تؤمن بالتغيير.
ترسم الايقونات الروسيه عادة على الخشب ويحرص الرسامون على نقل الإنجيل بأمانة ودقة، لذا يرسمون الأحداث الإنجيلية من دون سهو مع إدخال الأسلوب الرمزي. كذلك تمتاز الأيقونة الروسية برسم القامات الطويلة التي تدلّ على السمو الروحي والتركيز على الألوان الهادئة الخشوعية أكثر من النافرة. في عصر النهضة الأوروبية تأثرت الأيقونة الروسية بالفن الغربي فمالت إلى الرسم الواقعي للأجساد واقتربت بذلك من الأيقونة اللاتينية .
يعتبر القديس اندريه روبليف Rublev من أبرز رسامي الأيقونة الروسية، اشتهر بأيقونته “الثالوث الاقدس في العهد القديم” التي رسمها سنة 1425 وهي محفوظة في رواق تيرياكوف في موسكو.
رسم روبليف استقبال ابراهيم للملائكة الثلاثة كنقطة انطلاق للتعريف عن الثالوث. جرّد الحدث من تاريخيته وأعاده إلى أصله أي إلى الأزلية. كذلك عرّى اللوحة من التفاصيل المألوفة وسما بالمنظر العام إلى أجواءٍ أثيرية سماوية رفيعة، ولم يبقَ إلا الكأس على المائدة وغصن شجرة ومظهراً جانبياً لهيكل، وبعض الصخور المنحنية. بهذه الطريقة ردّ الثالوث إلى حقيقته قبل إنشاء العالم، محاولاً تصوير الحياة الإيقاعية ضمن الثالوث، كأنه يتنشّق الهواء الأزلي ويلحن أنغام الحب المعبّر عنه في صميم الألوهة
الأيقونة السريانية
يعتبر مخطوط رابولا السرياني الذي يعود إلى القرن السادس للميلاد وما يحتوي من منمنمات الأساس للإيقونوغرافيا السريانية.
تفاعل الفن الايقونوغرافي في المنمنمات السريانية مع تيارين أساسيين: الفن اليوناني والفن العربي. تأثر الفن اليوناني أولا بالطابع الشرقي السرياني ثم ازدهر وأثر بدوره في الفن السرياني كما في منمنمات مخطوطات سريانية كتبت باليونانية من بينها: مخطوطة سفر التكوين (من القرن السادس محفوظة في مكتبة فيينا)، إنجيل روسانو (من القرن السادس محفوظ في مدينة روسانو في إيطاليا)، الانجيل الفاتيكاني (عام 948 )، مخطوطة اورشليم (القرن الحادي عشر)، مخطوطة باريس (عام 1059)، مخطوطة أثينا في مكتبة جناديوس (عام 1226)… هذه المخطوطات اليونانية اللغة هي سريانية الأصل والمنشأ.
أما تأثير الفن العربي فبدأ منذ القرن الثاني عشر وظهر جلياً في مخطوطة مسيحية مصرية محفوظة في مكتبة باريس (تحت الرقم قبطي 13) تعود إلى ما بين 1178- 1180.
بعدما أخذ العرب عن السريان الفن الايقونوعرافي أنعشوه وصبغوه بصبغتهم المتأثرة بالتفاعل الحضاري العربي والفارسي وبرز في بغداد منذ بداية القرن الثالث عشر، من ثم عاد الفن العربي لينعكس تطورا في الفن السرياني كما في مخطوطة الموصل (انجيل نسطوري محفوظ في المكتبة الشرقية في المتحف البريطاني تحت رقم 7174 ).
تغرق الأيقونة السريانية المؤمن في نظرة متبادلة بينه وبين الله إلى حدّ أنه ينسى عبء الذات وأوزار الحياة والبؤس البشري. هكذا تبدو الوجوه كلاسيكية تحدّق بالمتلقي وتنشله من مخالب المادة وتحرره من أسر الدنيا وتنقله إلى عالم الأسرار الخلاصية وتفتح أمامه أبواب الملكوت، ثم تأتي الالوان لتساعده على السمو، يحثّ الاحمر على البذل والعطاء حتى الدم أسوة بيسوع الذي دفعه حبه للبشر إلى الاستشهاد على الصليب. أما الارجواني الذي يتفرّد به رداء يسوع ومريم فهو وعد بالغلبة وشراكة بملوكية يسوع ملك الدهور.
لم يعتمد الرسامون السريان على التقنية كما فعل البيزنطيون والروس، ولم يحمّلوا الصورة معاني لاهوتية دقيقة من خلال القياسات والأبعاد الهندسية التي قامت عليها الايقونة البيزنطية، ولم يبرزوا الهالة الإلهية والعظمة الملوكية من خلال الوقفات والنظرات الامبراطوراتية. أرادوا بكل بساطة التعبير عن تواصلهم مع حقائق الأسرار الخلاصية من دون تعقيد في التقنية أو القياسات، جل اهتمامهم الاتحاد بيسوع المخلص والانضمام إلى رفقة الرسل والانبياء والاقتراب من القديسين الشهداء…
كلام الصور
1- 2- 3- أيقونات بيزنطية
4- أيقونة الثالوث الأقدس لروبليف
5- أيقونة سريانية
6- أيقونة روسية.