قلت في مقال سابق إننا كأردنيين مسلمين ومسيحيين نشأنا كأبناء ثقافة واحدة تجسدت معيشة مشتركة قائمة على التداخل في العلاقات والوشائج الاجتماعية الحميمة, التي تدل على أننا كأردنيين نقيم علاقتنا الإنسانية فيما بيننا كأبناء أسرة واحدة وثقافة واحدة,وهوية وطنية واحدة بصرف النظر عن دين الواحد منا, أو مذهبه أو طائفته, فحديث المذاهب والطوائف كان غريباً عنا.
ففي اربد المدينة التي ولدت وترعرعت فيها, كانت عيناي تلامس كل يوم معلماً من المعالم التي نعتز بها كأبناء اربد, يتمثل في المسجد والكنيسة المتجاورين على ظهر التل, كأنهما يحرسان المدينة التي تنبسط سهولها ومبانيها حول «ظهر التل» ولم يكن مستغرباً دق أجراس الكنيسة كل يوم أحد أو في أعياد الميلاد ورأس السنة, ولم يكن
احد يستهجن أو يحتج على صدى أصوات هذه الأجراس, يتردد في جنبات سهول اربد الممتدة يومذاك, وكثيراً ما كنا نشاهد إمام مسجد اربد الكبير وراعي الكنيسة ينحدران سوية من أول الشارع باتجاه ديوان «آل التل» إما للمشاركة في جلسة المساء المعتادة في الديوان, أو للمشاركة في مناسبة اجتماعية, ولم يكن ظهور إمام المسجد وراعي الكنيسة معاً حدثاً غريباً يلفت النظر, فقد كان أمراً طبيعياً ومنسجماً مع منظومتنا الثقافية والاجتماعية. تماماً مثلما لم يكن صيام بعض جيراننا من المسيحيين معنا شهر رمضان أو بعضه بالأمر المستغرب, فقد تربينا على احترام قيم بعضنا وإيمانه. مما عزز هويتنا الوطنية ووثق وحدتنا وتلاحمنا,وأكد مفهوم الأسرة الأردنية الواحدة.
ليس تجاور مسجد ظهر التل وكنيسته هو التجاور الوحيد بين المسلمين والمسيحيين في بلدنا,ففي عمان يتقابل مسجد الشهيد المؤسس مع واحدة من أكبر الكنائس, ولا تفصل بينهما سوى بضعة أمتار, دون أن يكون ذلك محل استغراب, فقد اعتاد الأردنيون على هذا التجاور بين المؤسسات الإسلامية والمسيحية. من ذلك أن شعبة الإخوان المسلمين الرئيسية في اربد والتي تضم مسجد حسن البنا والمدرسة الإسلامية, تقع على مدخل الشارع الفرعي الذي يربط بين شارع ايدون وشارع الحصن من جهة الغرب, بينما تقع كنيسة الروم الكاثوليك ومستشفى الراهبات التابع لها على مدخل نفس الشارع من الجهة الشرقية, ولا يحتاج المرء لقطع المسافة بين شعبة الإخوان المسلمين ومسجد حسن البنا والمدرسة الإسلامية وبين الكنيسة والمستشفى لأكثر من دقيقتين, ولم يكن في وجود هاتين المؤسستين المتقاربتين ما يثير استغراب أحد, ولعل نسبة عالية من أبناء اربد ولدوا في مستشفى الراهبات, وقد كان ذلك أمراً طبيعياً ومنسجماً مع طبيعة العلاقات المبنية على منظومة القيم والعادات والثقافة السائدة بين الناس, والتي لا تفرق بين مسلم ومسيحي, يتجاوران في السكن ويتقاسمان لقمة الخبز, فقبل تجاور المؤسسات تجاور المسلمون والمسيحيون في الدور والمساكن وربطت بينهم علاقات إنسانية حميمة,فقد كان جارنا المسيحي هاني مهران في الحي الجنوبي في اربد جزءاً أساسياً من مناسباتنا الاجتماعية، دون أن يشعر هو بغربة, أو نحس نحن أن بيننا رجلاً يختلف عنا بالثقافة والعادات والتقاليد. تماماً مثلما كان الحال مع جيراننا المسيحيين في وسط اربد، فعندما ألمت بابنة جيراننا المسيحية الأرمنية وعكة صحية، قاتل أبي في سبيل تأمين علاجها على نفقة الدولة، لدى طبيب بريطاني مختص بالمرض الذي أصيبت به،>
وعندما اختارت الإقامة والاستقرار في لندن بعد زواجها هناك, كان جزء من برنامج زيارتنا لهناك زيارة إبنة جيراننا باعتبارها «عنيه» وكجزء من البر بالجار، فلم يكن والدي الداعية المسلم المعروف بشدة التزامه بتعاليم دينه، يجد أن هناك سبباً في دينه يمنعه من البر بجاره أو صديقه المسيحي، ولم يكن الأمر يحتاج إلى فتوى، فدين الله في هذه القضية واضح وبسيط ولا يحتاج إلى تخريجات لا مبرر لها.كثيرة هي الشواهد على حميمة علاقات الأردنيين الاجتماعية ببعضهم البعض دون النظر إلى الدين أو الطائفة، فكلنا عباد الله نصلي له في المسجد أو الكنيسة، ومن أيام الطفولة الأولى حتى يوم الناس هذا ارتبطت شخصياً بعلاقات متينة مع جيراننا من آل النصراوي، ولم يكن يفرحني شيئاً أكثر من المناكفات بين خالي»شاهر» وجاري المسيحي «أبو فارس النصراوي» إذا ما أكرمت أحدهما أكثر من الآخر. ولسنوات قريبة لم أكن افكر «بمونة»بيتي من الزيت والزيتون والجبن، فقد كان يتولى ذلك نيابة عني «أبوفارس النصراوي»، لذلك شعرت بفراغ كبير عندما توفي، فالسنوات كثيرة ارتبطت مع هذا الجار وأسرته بعلاقات حميمة لم أشعر للحظة أنها تخالف ديني، فقد كنا نتعامل كأبناء وطن واحد، وثقافة واحدة وآمال وطموحات واحدة، وهو شعور امتد بيني وبين أفراد أسرته إلى الدرجة التي أخصص فيها جزءاً من برنامج زيارتي لأى بلد فيها واحد منهم لزيارته, والاطمئنان عليه, مثما يفعلون هم، ولم يعترض أبي في يوم من الأيام على ذلك, ولم يجد فيه ما يخالف تعاليم ديننا.
مثلما لم يكن ذلك يشكل أي خروج على المنظومة الاجتماعية والثقافية التي تربينا عليها كأردنيين لا نفرق بين الناس على أساس دينهم. فلم يكن سؤال الدين مطروحاً في مجتمعنا, ولم يكن الناس يتعاملون مع بعضهم على أساس ديني, وأوضح صور ذلك كانت تتجلى أيام الانتخابات النيابية والبلدية, حيث كان كل تكتل أو تجمع انتخابي يضم من هؤلاء وهؤلاء, ولم يكن أحد يحدد موقفه الانتخابي من الآخرعلى أساس ديني لذلك كان الدكتور نبيه معمر يفوز بأصوات المسلمين في اربد,باعتباره ضميراً وطنياً يعبر عن تطلعات الجميع, بصفته نائب وطن لا نائب طائفة, ولم يتردد الدكتور يعقوب زيادين ابن السماكية بخوض الانتخابات عن القدس,وكلاهما صار جزءا من ذاكرتنا الوطنية, التي فيها الكثير الكثير من رموز العمل الوطني الأردني من المسيحيين الأردنيين, أمثال صالح المعشر وبشارة غصيب اللذين كانا من نشطاء الحركة الوطنية المعارضة للوجود البريطاني في الأردن, وفي الذاكرة الوطنية رجائي المعشر وواصف عازر, وقبلهما خليل السالم والقائمة تطول من الزعامات الوطنية المسيحية من أصحاب الاسهامات المرموقة في بناء الوطن الأردني سياسياً واقتصادياً واجتماعياً, وهي الاسهامات التي جعلتهم يحتلون مواقع محترمة في ذاكرة الأردن مسلميهم قبل مسيحييهم بفضل ثقافة التسامح التي تربى عليها الأردنيون فجعلت منهم نسيجاً مختلفاً وهو ما سنعرض للمزيد من الشواهد الدالة عليه في مقال لاحق.