لا أَنتَمِي إِلى مَدرَسَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بل أَكتُبُ بِالطَّرِيقَةِ الَّتي تَرتاحُ إِلَيها نَفسِي
حوار: كلود أبو شقرا
أَدِيبٌ وشاعِرٌ وناقِدٌ ورِوائِيٌّ، حامِلٌ مِشعَلَ الأَدَبِ الأَصِيلِ والشِّعرِ العَمُودِيِّ والمَشاعِرِ النَّبِيلَةِ والرُّومَنسِيَّةِ الخالِيَةِ مِن أَيِّ ابتِذالٍ… إِنَّهُ مُورِيس وَدِيع النَجَّار الَّذي تُغَنِّي قَوافِيهِ أَجمَلَ الكَلِماتِ لِلحُبِّ، لِلمَرأَةِ، لِلطَّبِيعَةِ، لِلوَطَنِ، وتَغُوصُ دِراساتُهُ النَّقدِيَّةُ في عُمقِ تَجارِبِ الآخَرِينَ، وتَستَخرِجُ مِنها العَناصِرَ الإِبداعِيَّةَ، كيف لا وهو باحِثٌ دائِمٌ عن الجَمالِ أَينَما وُجِدَ…
قَلَمُهُ يَنبُضُ عِشقًا بِاللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ الَّتي يَرَى فِيها غِنًى في المُفرَداتِ تُؤَهِّلُ الشَّاعِرَ والكاتِبَ وُلُوجَ بابِ الحُلمِ ورَسمَ عالَمٍ كما يَتُوقُ وُسْعَ آمالِه…
مُؤَلَّفاتُهُ تَتَنَوَّعُ بين الشِّعرِ والنَّقدِ والنَّثر.
له أَربَعَةُ دَواوِينَ شِعرِيَّةٍ: “ثِمارٌ في الظَّلّ”، “في خِدْرِ الشَّمس”، “نَجوَى المُنحَنَى”، “قُلتُها شِعرًا”.
في النَّثرِ: “على مَتنِ القَلَم”، “طُيُورُ المَحابِر”، “حَصادٌ ومِداد”.
في الرِّوايَة: “أَقدار”، قَيدَ الطَّبع.
في ما يَلِي باقَةٌ مِن أفكارِهِ، مَنثُورَةٌ على مِساحَةٍ إِبداعِيَّةٍ خَطَّها قَلَمُهُ إِجابَةً على أَسئِلَةٍ مُستَقاةٍ مِن نِتاجِهِ الفِكرِيِّ وشَخصِيَّتِهِ ورُؤْيَتِهِ لِحالِ الأَدَبِ اليَومَ في عَصْرِ التّكنُولُوجيا…
كيف أَتَيتَ إلى الأدب والشِّعر من عالمٍ مُغايِرٍ، عالَمِ الرِّياضيَّات؟
مُنذُ سِنِّ الخَامسَةَ عَشْرَةَ وَأَنا أَعشَقُ الأَدَبَ، وَأُدمِنُ على اقتِناءِ الكُتُبِ، والقِراءَةِ المُستَمِرَّة. وهذا ما أَوجَدَ في بُنيَتِي الفِكرِيَّةِ عَجِينَةً ثَقافِيَّةً قابِلَةً لِلتَّشَكُّل. وكنتُ مِنَ الطُّلَّابِ المُبَرِّزِينَ في الرِّياضِيَّاتِ، فكانَ أَن نُصِحْتُ مِن كَثِيرِينَ بِالتَّخَصُّصِ في هذه المادَّةِ “لِأَنَّها تُطْعِمُ خُبزًا” على حَدِّ قَولِهِم. وهكذا كانَ، على أَنَّنِي بَقِيتُ وَفِيًّا لِلتَّثَقُّفِ الدَّؤُوبِ، وَخُصُوصًا في مِضمارَيِ الأَدَبِ وَالشِّعر.
مِن ناحِيَةٍ أُخرَى فَإِنَّني لا أَرَى هُوَّةً تَفصِلُ مَيْدانَ العِلمِ عَن مَيْدانِ الأَدَب. وَلَنا في الكَثِيرِينَ مِنَ الأُدَباءِ الَّذين كانت خَلفِيَّتُهُم عِلمِيَّةً خَيرُ مِثال.
مِنهُم، تَمثِيلًا لا حَصْرًا، الشَّاعِرُ المِصرِيُّ أَحْمَد زَكِي أَبُو شَادِي الَّذي قال: “أَنَا أَعرِفُ شَيئًا عَن وَحدَةِ الحَيَاةِ، وَالفَارِقُ بَينَ العِلمِيَّاتِ وَالأَدَبِيَّاتِ فَارِقٌ وَهمِيّ”.
وَمِنهُم الشَّاعِرُ الكَبِيرُ عُمَر أَبُو رِيشَة الَّذي قال: “الفَضلُ فِي كُلِّ مَا كَتَبتُ عَائِدٌ إِلى أَسَاسِي العِلمِيّ”.
وَأُورِدُ بَعضَ الأَسماءِ مِن رُبُوعِنا مِثلَ أَنطُون قازان (مُحامٍ)، صَلاح لَبَكِي (مُحامٍ)، أَمِين نَخلَة وَالشَّيخ إِبراهِيم المُنْذِر وَإِدوار حُنَيْن (نُوَّاب)، حَسِيب غالِب (مُهَندِس)، عَبدَالله لَحُّود (مُحامٍ)، سَلِيم حَيدَر (مُحامٍ، ونائِبٌ، وَوَزِيرٌ)، جان عَزِيز (نائِب)، نقُولا فَيَّاض (طَبِيب)، وَغَيرِهِم الكَثِيرِين.
وَمِن مِصْرَ هُناكَ عَلِي مَحمُود طَهَ (مُهَندِس)، إِسماعِيل صَبرِي (سِياسِيّ)، وَيَطُولُ التَّعدادُ، فَأَكتَفِي بِهَذا.
وَلَن أَنسَى أَنَّ الكَثِيرِينَ مِنَ العُلَماءِ، قُدامَى وَمُحدَثِينَ، كانُوا فَلاسِفَةً وَأُدَباءَ وَشُعَراء.
وَمَعرُوفَةٌ جِدًّا عِبَارَةُ الفَيلَسُوفِ أَفلاطُون الَّتي خَطَّها يَومًا على بَابِ أَكَادِيمِيَّتِه: “لا يَدخُلُ هَذَا الصَّرحَ مَن لَم يَكُن مُهَندِسًا”.
وكذلكَ قالَ Isodore Ducane (Leutriamond): “الشِّعرُ هُوَ عِلمُ الهَندَسَةِ بِامتِيَاز”.
فَالشِّعرُ إِن لَم يَحكُمْهُ المَنطِقُ، وَيُؤَطِّرْهُ التَّخطِيطُ السَّلِيمُ، رُبَّما تَهاوَى في الهَلْوَسَةِ وَالهَذَيان. وَالعَقلُ، عامِلًا في الشِّعرِ، لا يُعِيقُ تَدَفُّقَ الصُّوَرِ، وَالرُّؤَى، وَالبَيانِ السَّلِيم.
وَمِن سَنَواتٍ، وَضِمنَ مَقَالَةٍ لَهُ فِي مَجَلَّةِ العَرَبِي، العَدَدُ 621، وَرَدَ في كَلامِ السَّيِّدِ هَانِي فَحْص: “آخِرُ العِلمِ هُوَ أَوَّلُ الشِّعرِ وَالخَيَالِ وَالحُلمِ وَالحَدسِ وَكُلِّ العَنَاصِرِ الضَّرُورِيَّةِ لِلإِبدَاع”.
كيف تَرَى مُستَقبَلَ اللُّغةِ العربيَّة؟ وهل تُشَكِّلُ فَورَةُ التَّقَدُّمِ الإلكترُونِي، وَوسائِطُ الكِتابَةِ السَّهلَةِ، وَحِيازَةُ المَعلُومَةِ السَّرِيعَةُ، خَطَرًا على الكِتابَةِ الوَرَقِيَّةِ، والكِتابِ عامَّة؟
أللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ في أَزْمَةٍ تَتَفاقَمُ مِن جِيلٍ إلى جِيل. وَالبَدْءُ بِالمُعالَجَةِ يَكُونُ في إِعلانِ حالَةِ طَوارِئَ لُغَوِيَّةٍ بَينَ مَجامِعِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، وَالإسراعِ بِتَشكِيلِ فَرِيقٍ يَتَوَلَّى تَبسِيطَ قَواعِدِها المُعَقَّدَةِ (كِتابَةُ الهَمزَةِ مَثَلًا)، وَإِخراجِ كِتابٍ مُوَحَّدٍ يَقتَرِبُ أَكثَرَ مِن قَلبِ المُتَلَقِّي، وَلا يُنَفِّرُه. فَالقُيُودُ الَّتي تُفرَضُ على اللُّغَةِ يَجِبُ أَن تُزَالَ لِكَي تَتَجَدَّدَ كَباقِي اللُّغاتِ، وَتُجارِي تَطَوُّرَ العَصر. (مَثَلًا: إِيمَاءَةٌ وَ مَائَةٌ).
وَيَأتِي بَعدَ ذلكَ تَشجِيعُ وَتَحفِيزُ الشَّبِيبَةِ على المُطالَعَةِ (فُرُوضٌ، جَوائِزُ، عَلاماتٌ، اختِيارُ نَماذِجَ تَدرِيسٍ هَدَفُها الأَوَّلُ الجَمالِيَّةُ، وَالابتِعادُ عن النَّماذِجِ التُّراثِيَّةِ المُعَلَّبَةِ وَالمُعَقَّدَةِ، تَشجِيعُ القِراءَة…).
وَهُنا تَبرُزُ مَسؤُولِيَّةُ المَدارِسِ في اختِيارِ أَساتِذَةٍ مُتَخَصِّصِينَ قَدِيرِينَ، وَخُصُوصًا في مَرحَلَتَي التَّعلِيمِ الابتِدائِيَّةِ وَالتَّكمِيلِيَّةِ، وَإِقامَةِ دَوراتٍ جادَّةٍ لِلأَساتِذَةِ، وَمُراقَبَةِ تَطبِيقِهِم لِمُقَرَّراتِها.
وَمِنَ الواجِباتِ اللَّازِمَةِ على المَجامِعِ اللُّغَوِيَّةِ مُواكَبَةُ العُلُومِ وَالاختِراعاتِ وَالسَّيرُ مَعَ تَقَدُّمِ العَصرِ بِابتِكارِ المُصطَلَحاتِ المُناسِبَةِ لِلمُستَجِدَّاتِ، بِطَرِيقَةٍ يَقبَلُها المَنطِقُ وَالذَّوق. فَلا نَعُودُ، مَثَلًا، إلى مُصطَلَحٍ مِثلِ “دُوْيْدات” لِلمَعكَرُونَةِ، وَ”الشَّاطِرُ وَالمَشطُورُ وَبَينَهُما الكامِخُ” لِلسَّندوِيش، وَ”الشَّابِكَةِ” بَدَلًا مِنَ الإِنتِرنِيت، أَو الحاسُوبِ بَدَلًا مِنَ الكُومبيُوتَر”.. وَهُنا نَقُولُ إِنَّهُ لا ضَيرَ في إِبقاءِ بَعضِ الأَلفاظِ الَّتِي رَسَخَت في الذَّاكِرَةِ الجَمعِيَّةِ، فَاللُّغاتُ تَتَداخَلُ وَتَتَواصَلُ وَتَأخُذُ الواحِدَةُ مِنَ الأُخرَى، وَهذا ما حَصَلَ عَبْرَ العُصُور.
أللُّغَةُ كائِنٌ حَيٌّ يَتَطَوَّرُ مع الإِنسان. وكما تَطَوَّرَت اللُّغَةُ اللَّاتِينِيَّةُ الفُصْحَى على أَيدِي كِبارٍ في الأَدَبِ وَالشِّعرِ طَعَّمُوها بِلُغاتِهِم المَحكِيَّةِ، تَقرِيبًا لها إلى عُقُولِ العامَّةِ، فَنَبَتَت مِنها اللُّغاتُ الفَرَنسِيَّةُ وَالإِسبَانِيَّةُ وَالبُرتُغَالِيَّةُ وَالإِيطَالِيَّةُ، كذلك يَجِبُ أَن لا نَخافَ مِنَ التَّعاطِي مَعَ العَرَبِيَّةِ، وَلَو في حُدُودٍ أَدنَى مِن حُدُودِ اللَّاتِينِيَّةِ، لِما لِلعَرَبِيَّةِ مِن خُصُوصِيَّاتٍ، مِنها غِنَى المُفرَداتِ وَجَرسِها، وَالتُّراثِ العَرِيضِ الَّذي يَنبَغِي الحِفاظُ عَلَيه.
أَمَّا بِخُصُوصِ التَّقَدُّمِ الإِلكترُونِيِّ، وَخَطَرِهِ على الكِتابَةِ الوَرَقِيَّةِ، والكِتابِ عامَّةً، فَأَنا أَرَى أَنَّ لِهذا التَّقَدُّمِ وَلِلإنترنت خَصائِصَ وَمَيِّزاتٍ كَثِيرَةً مِنها:
1): تَوَفُّرُ كَمِّيَّةٍ هائِلَةٍ مِنَ المَعلُوماتِ المُتَنَوِّعَةِ وَالشَّامِلَةِ، وَسُرعَةٌ لِلوُصُولِ إِلَيها.
2): التَّواصُلُ السَّهلُ وَالسَّرِيعُ بَينَ النَّاسِ (سُرعَةُ إِرسالِ المَقالَةِ، وَنَشرِها، وَتَعمِيمِها، مَثَلًا).
3): سُهُولَةُ نَشرِ النِّتاجِ على مَدًى وَاسِعٍ جِدًّا، وَالوُصُولُ إلى شَرِيحَةٍ واسِعَةٍ مِنَ القُرَّاءِ، تَتَخَطَّى حُدُودَ الحَيِّزِ المَكانِيِّ لِلنَّاشِر.
4): سُهُولَةُ الكِتابَةِ بِواسِطَةِ الكُومبيُوتَر، الَّذي دَعَوْهُ الحاسُوبِ، (المَحْوُ، الاستِبدالُ، التَّفتِيشُ عَن فِقرَةٍ أَو كَلِمَةٍ في النَّصِّ وَاستِبدالُها،…).
وَإِلى جانِبِ فَوائِدِهِ العَمِيمَةِ، فَإِنَّ لهذا التَّقَدُّمِ أَخطارًا، مِنها استِعمالُ الحَرْفِ اللَّاتِينِيِّ وَكِتابَةُ العَرَبِيَّةِ بِهِ على وَسائِلِ التَّواصُلِ الاجتِماعِيِّ، وهو أَمرٌ يُؤَدِّي إلى تَخَلْخُلِ مَفهُومِ اللُّغَةِ، ثُمَّ إلى استِبدالِها، مَعَ الزَّمَن.
في النِّهايَةِ، أُرَدِّدُ، آسِفًا، مَعَ المُتَنبِّي:
“وَلَكِنَّ الفَتَى العَرَبِيَّ فِيْهَا غَرِيْبُ الوَجْهِ وَاليَدِ وَاللِّسَانِ”.
بين الفصحى والعامية
كيف تَنظُرُ إلى دَعَواتِ بَعضٍ إلى العامِّيَّة، أو الحَرفِ اللَّاتِينِيِّ، وهل أنت مع استِعمالِ اللَّهجَةِ العامِّيَّةِ في السَّردِ الرِّوائيّ؟
اللُّغَةُ الفُصحَى هِيَ وِعاءُ التُّراثِ المُنداحِ على قُرُونٍ وَقُرُون.
العامِّيَّةُ تَعجِزُ عَنِ الوُصُولِ إِلَّا إِلى شَرِيحَةٍ مَحدُودَة. وَحتَّى في البَلَدِ الواحِدِ لَهجَةُ مِنطَقَةٍ رُبَّما لا تَكُونُ مَفهُومَةً في مِنطَقَةٍ أُخرَى.
أَمَّا استِبدالُ الحَرفِ العَرَبِيِّ فَهُوَ بِرَأيِي هَرطَقَةٌ، وَنَحْرٌ لِتُراثِنا الغَنِيِّ، وَطَعنٌ في الذَّاتِ، خُصُوصًا وَإِنَّ لِلعَرَبِيَّةِ القُدرَةَ على التَّكَيُّفِ، وَالتَّطَوُّرِ، وَالبَقاءِ مِن أَجمَلِ اللُّغات.
وَلِلَّذِينَ لا يَنفَكُّونَ يَقدَحُونَ بِهذه اللُّغَةِ المُعجِزَةِ نَقرَأُ ما قالَه الشَّاعِرُ هاشِم الرِّفاعِي:
“وَرَأَيتُ قَـومًا يُـرهِـقُونَ عُيُوبَهـا طَلَبًا وَراحُوا يَطمِسوُنَ نُضارَها”.
أَمَّا في ما يَخُصُّ السَّرْدَ، فَقَد يَكُونُ استِعمالُ العامِّيَّةِ بِشَكلٍ مَحدُودٍ جِدًّا، وفي بَعضِ الأَلفاظِ، وَبَعضِ الحِواراتِ المُقتَضَبَةِ، مُساعِدًا لِلسَّردِ، وَمُسبِغًا عَلَيهِ مَسْحَةً مِنَ الواقِعِيَّةِ وَالعَفوِيَّةِ بين النَّاطِقِ وَالمَنطُوقِ، وَمُبرِزًا لِبِيئَةِ الرِّوائِيِّ، حَيثُ فَهْمُ التَّعابِيرِ العامِّيَّةِ سَهْلٌ وَمُدْرَك. وهُنا قد يَكُونُ مُفِيدًا إِدراجُ الحَواشِي التَّفسِيرِيَّةِ لِلَّهْجَةِ العامِّيَّةِ في مَظانِّها.
أَمَّا إِذا أَرَدنا لِلرِّوايَةِ أَن تَتَخَطَّى بِيئَتَها، فَمِنَ الأَجدَى مُجانَبَةُ العامِّيَّةِ ما أَمكَن.
تَختَلِفُ الآراءُ بين الكُتَّابِ وَالنُّقَّادِ حَولَ هذه المَوضُوعاتِ، وَأَنا أَرَى الحَلَّ في “التِزامِ اللُّغَةِ الفُصحَى البَسِيطَةِ، السَّلِسَةِ، المُعتَدِلَةِ” على حَدِّ تَعبِيرِ طَهَ حُسَين.
هل أنتَ مع مَقُولَةِ إِنَّ العَصرَ عَصرُ الرِّوايةِ، وَهَلِ الشِّعرُ إلى انكِفاءٍ واندِثار؟
الشِّعرُ والرِّوايَةُ فَنَّانِ لا يُلغِي الواحِدُ الآخَرَ.
ازدَهَرَتِ الرِّوايَةُ في العُقُودِ الأَخِيرَةِ، وَقَد يَكُونُ مِن أَسبابِ هذا الازدِهارِ تَراجُعُ الشِّعرِ بَعدَ أَن انهَمَرَت في ساحِهِ سُيُولُ الشِّعرِ الحَدِيثِ المُتَفَلِّتِ مِن كُلِّ القُيُودِ، وَالمَملُوءِ بِالطَّلاسِمِ، وَالمَعمِيَّاتِ، وَالرُّمُوزِ الَّتي لا تُختَرَقُ حَتَّى مِن كاتِبِها. فَنَفَرَ الكَثِيرُونَ مِنهُ، وَكَفَوْا شَغَفَ الاطِّلاعِ وَالقِراءَةِ بِالرِّوايَةِ الَّتِي لا تُرهِقُ الفِكرَ، وَتُزَوِّدُ بِالمُتعَةِ وَالمَعرِفَةِ، وَتَبقَى وَسِيلَةً ناجِعَةً لِلهُرُوبِ مِن واقِعٍ ضاغِطٍ، وَعَصرٍ لاهِث.
وَالقِصَّةُ، أَو الرِّوايَةُ، لَوحَةٌ مِنَ الحَياةِ، غَنِيَّةٌ، زَاخِرَةٌ بِالمَضامِينِ، وَهِيَ فَنٌّ رَفِيعٌ مَرغُوبٌ، مَحبُوبٌ، ما دامَ الإِنسانُ يَستَأنِسُ بِمَعرِفَةِ أَحداثِ الكَونِ، وَحِكاياتِه. وَفُضُولُ الإِنسانِ لِكَشفِ المَستُورِ فِطْرَةٌ، وَالقِصَّةُ هِيَ خَيرُ كاشِف. وَالقاصُّ، أَوِ الرِّوائِيُّ، الجَيِّدُ يَستَقِي مِنَ الواقِعِ، ثُمَّ يَرتَقِي بِهِ إِلى رُتبَةِ الفَنِّ وَالإِبداع.
وَالقِصَّةُ، بِرُغمِ حَمَلاتٍ كَثِيرَةٍ استَهدَفَتها، خَرَجَت مِنَ المَيدانِ مُنتَصِرَةً. فَعِندَما نَقرَأُ لِكَاتِبٍ كَبِيرٍ كَتَوْفِيق الحَكِيم قَولَه: “الفَرقُ بَينَ الأَدَبِ وَبَينَ القِصَّةِ كَالفَرقِ بَينَ المَنَاطِقِ العُليَا فِي الإِنسَانِ وَالمَنَاطِقِ الأُخرَى”، نُدرِكُ شَراسَةَ هذه الحَمَلات.
وَلَكِنَّ هَذَا الفَنَّ الأَدَبِيَّ اللَّطِيفَ استَطَاعَ، فِي النِّهَايَةِ، أَن يَتَرَسَّخَ مُنذُ بِدَايَةِ القَرنِ العِشرِين، مَعَ جُبرَان خَلِيل جُبرَان، وَمِيخَائِيل نُعَيمَة، وَالنِّتَاجِ المَنشُورِ فِي مَجَلَّةِ “أَلفُ لَيلَةٍ وَلَيلَة” لِكَرَم مِلحِم كَرَم، وَمَعَ قَصَّاصِينَ كَتَوفِيق يُوسُف عَوَّاد، وَالأَخَوَينِ سَعِيد وَخَلِيل تَقِيِّ الدِّين، وُصُولًا إِلَى سُهَيل إِدرِيس، وَفُؤَاد كَنعَان، وَيُوسُف حَبشِي الأَشقَر، حَتَّى أَنطوان الدُّوَيهِي وَأَخِيهِ جَبُّور، وَغَيرِهِم.
وَكَما تَطَوَّرَ الشِّعرُ إِلى أَشكالٍ جَدِيدَةٍ، لَم تَكُن كُلُّها مُوَفَّقَةً، فَإِنَّ الرِّوايَةَ تَطَوَّرَت مِن شَكلِها التَّقلِيدِيِّ القَدِيمِ المَبنِيِّ على مُقَدِّمَةٍ وَعُقدَةٍ وَحَلٍّ، إِلى أَشكالٍ تَجرِيبِيَّةٍ جَدِيدَةٍ، كَسَرَتِ “التَّكنِيكَ” القَدِيمَ، وَاستَعانَت بِالتَّخيِيلِ، وَالفَانتَازيا، وَسَبرِ اللَّاوَعْيِ، وَتِقنِيَّةِ تَيَّارِ الوَعِي، أَوِ التَّدَاعِي، أَوِ السَّرْدُ الإِسْتِرْجَاعِيِّ (الفلاش بَاك Flash back)، أَوِ المُونُولُوجِ الدَّاخِلِيِّ (Stream of consciousness)، أَوِ اللَّقطَةِ الإِرجَاعِيَّةِ أَوِ اللَّقطَةِ الخَلفِيَّةِ، حَيثُ تُعَبِّرُ الشَّخصِيَّةُ عن سَرِيرَتِها مِن دُونِ مُراعاةٍ لِتَسَلسُلٍ زَمَنِيٍّ، أَو مَنطِقٍ سَرْدِيّ. وَالرِّوايَةُ التَّجرِيبِيَّةُ الحَدِيثَةُ لَم تَعُدْ في مُتَناوَلِ القارِئِ الَّذي يَبغِي التَّسرِيَةَ مِن دُونِ أَن يَبذُلَ جُهدًا، بَل أَصبَحَت تَتَطَلَّبُ مِنهُ المُشارَكَةَ في كَشْفِ أَغوارِ النَّصِّ، وَرَبطِ أَطرافِه. وَالرِّوايَةُ الحَدِيثَةُ لَم تَعُدْ مِنبَرًا لِلوَعْظِ، وَالإِرشادِ، وَالتَّثقِيفِ، وَالتَّهذِيب.
كَثِيرَةٌ هِيَ الأَسماءُ الَّتي طَرَقَت أَرضَ الرِّوايَةِ التَّجرِيبِيَّةِ، وَأَذكُرُ مِنها صَنْعَ الله إِبراهِيم، إِدوار الخَرَّاط، جَمال الغِيطانِي، وَغَيرَهِم.
الشِّعرُ وُلِدَ حاجَةً عِندَ الإِنسانِ لِلحُداءِ وَالدَّندَنَةِ وَالمُوسِيقَى، وَسَيَبقَى طالَما هُناكَ قَلبٌ يَنبُضُ بِالعَواطِفِ، وَيَتَحَسَّسُ الجَمال.
لا رَيْبَ في أَنَّ الشِّعرَ قَد انكَفَأَ مَرحَلِيًّا. وَكَما قالَ الشَّاعِرُ الفَرَنسِيُّ الرَّاحِلُ جَان تَارديُو: “لَقَد كَانَ الشِّعرُ قَارَّةً فَسِيحَةً فَأَصبَحَ جَزِيرَةً مَعزُولَةً”. وَهُناكَ سَبَبٌ مُهِمٌّ لهذا، وهو صُعُوبَةُ لُغَتِهِ لِإِنسانِ هذا العَصرِ، المُنغَمِسِ في احتِياجاتِهِ الدُّنيَوِيَّةِ، وَالمُتَتَبِّعِ لآخِرِ مُستَحدَثاتِ التّكنُولُوجيا. فَاللُّغَةُ، العَرَبِيَّةُ بِالأَخَصِّ، باتَت عَقَبَةً عندَ الكَثِيرِينَ، لِتَعقِيداتِ قَواعِدِها، وَلِتَقصِيرِ المَجامِعِ اللُّغَوِيَّةِ عَن تَبسِيطِها، وَإِزالَةِ البائِدِ مِنها، لِتُواكِبَ العَصرَ، وَتَتَطَوَّرَ مع الإِنسان.
وفي النِّهايَةِ “لا خَوفَ على الشِّعرِ مِنَ الزَّوَالِ، إِنَّهُ سَيَظَلُّ مَوجُودًا مَا دَامَ لِلإِنسانِ وُجُودٌ على هَذِهِ الأَرض”، كما بَشَّرَنا الشَّاعِرُ المَكسِيكِيُّ أُوكتَاﭭيُو بَاث.
وَ”الشِّعرُ هُوَ بَرَاءَةُ العَالَم”، كما يَرَى الشَّاعِرُ الأَلمَانِيُّ هُولدرلِن. فَهَل يَتَخَلَّى العالَمُ عَن بَراءَتِهِ يَومًا؟!
فَلْيَطْمَئِنَّ الجَمِيعُ، فَالشِّعرُ وَالرِّوايَةُ باقِيانِ، وَالعَصرُ عَصرُهُما مَعًا، لِأَنَّ كُلًّا مِنهُما حاجَةٌ رُوحِيَّةٌ لِلإِنسان!
تنوّع إبداعي
ما هو دافِعُكَ الرَّئِيسُ لِلكِتابَة؟ وهل عِندَكَ طَقْسٌ مُعَيَّنٌ لِمُمارَسَتِها؟
بِالنِّسبَةِ لِكِتابَةِ الشِّعرِ فَأَنا أَكتُبُ حِينَما تَدعُونِي القَصِيدَةُ لِلكِتابَة. أُحِسُّ بِها تَطرُقُ صَدرِي، فَأَستَجِيبُ بِلَذَّةٍ كُبرَى، وَدَعوَتُها تَكُونُ بِشَكلِ بَيتٍ مِنَ الشِّعرِ، أَو خاطِرَةٍ وافِدَةٍ، وهذا ما أَشارَ إِلَيهِ بُول ڤالِيرِي بِقَولِه: “ألبَيتُ الأَوَّلُ يَأتِينا في مُغَلَّف”.
هكذا انطِلاقُ القَصِيدَةِ، أَمَّا الباقِي فَتَختَلِطُ فِيهِ الرِّياضِيَّاتُ، مِن حَيثُ التَّنظِيمُ وَالمَنطِقُ، وَمُراجَعَةُ كُتُبِ اللُّغَةِ عِندَ كُلِّ التِباسٍ، وَالإِعادَةُ، وَالتَّنقِيحُ، وُصُولًا إِلى الصِّيغَةِ الَّتي تُرضِي ذَوقِي، وَانتِهاءً بِالعِمارَةِ المُتَكامِلَةِ الَّتي تَتَطَلَّبُ الكَثِيرَ مِنَ الجُهدِ لِتَلِيقَ بِأَن تُدْرَجَ في فِردَوسِ الشِّعر.
وَقَد تَمُرُّ أَشهُرٌ وَلا أَكتُبُ بَيتًا واحِدًا، وَأَكتُبُ في أُسبُوعٍ قَصِيدَتَين. أَنا أَتبَعُ، في لاوَعْيِي، نَصِيحَةَ أَبِي تَمَّامَ لِتِلمِيذِهِ البُحْتُرِيّ: “إِجعَلْ شَهوَتَكَ لِقَولِ الشِّعرِ الذَّرِيعَةَ إِلى حُسنِ نَظْمِه”.
أَمَّا بِالنِّسبَةِ لِكِتابَةِ النَّثرِ، فَعِندِي نَوعانِ مِن النَّثر. واحِدٌ وِجدانِيٌّ يَتَناوَلُ مَوضُوعَةً مِنَ الحَياةِ كانَ لَها تَأثِيرٌ على مَشاعِرِي، وهذا النَّوعُ يَنطَبِقُ عَلَيهِ ما قُلتُهُ في الشِّعر. أَمَّا النَّوعُ الثَّانِي فَهُوَ كِتابَةٌ نَقدِيَّةٌ حَولَ كِتابٍ جَدِيدٍ صَدَرَ، وفي هذا النَّوعِ يَلعَبُ المَنطِقُ العِلمِيُّ وَالتَّنظِيمُ دَورًا رَئِيسًا. أَكتُبُ تَوازِيًا مَعَ قِراءَةِ الكِتابِ مِن أَلِفِهِ إِلى يائِه. وَأُكثِرُ مِنَ الاستِشهاداتِ بِأَقوالٍ مَأْثُورَةٍ، وَآراءٍ لِكُتَّابٍ كِبارٍ، تَدعِيمًا لِرَأيٍ أُصدِرُه.
وَاليَومَ، وَبِتُّ عَلِيمًا بِاستِعمالِ الكُومبيُوتَر، فَإِنَّنِي أَستَفِيدُ مِن تَسهِيلاتِهِ الكِتابِيَّةِ، وَأَضحَى رُجُوعِي إِلى الحِبرِ وَالوَرَقِ قَلِيلًا.
وَالكِتابَةُ، عِندِي، تَقتَضِي هُدُوءَ المَكانِ، وَالعُزلَةَ، وَمُرافَقَةَ القَهوَةِ الشَّهِيَّةِ، وهذه شُرُوطٌ باتَت عادَةً مُتَأَصِّلَةً في سُلُوكِي، وَيَصعُبُ عَلَيَّ العَمَلُ إِذا فُقِدَت. وَأَفضَلُ مَكانٍ عِندِي لِلكِتابَةِ هو مَكتَبَتِي حَيثُ تُحِيطُ بِي الكُتُبُ، فَأَتَخَيَّلُها جَمهَرَةَ المُبدِعِينَ تُراقِبُ ما أُسَطِّرُ، فَأَتَهَيَّبُ، وَأَسعَى، جُهدِيَ، إِلى إِخراجِ أَفضَلِ ما لَدَيَّ.
يَتَخَلَّلُ دَواوِينَكَ الشِّعرِيَّةَ بَعضُ شِعرِ المُناسَبات؟ كَيفَ تَنظُرُ إلى هذا النَّوعِ مِنَ الشِّعر؟
مُنذُ الجاهِلِيَّةِ حَتَّى بِدايَةِ النِّصفِ الثَّانِي مِنَ القَرنِ العِشرِينَ، كانَ الشِّعرُ العَرَبِيُّ في جُلِّهِ شِعرَ مُناسَبات. وكانَ الشَّاعِرُ يُحَمِّلُ قَصِيدَةَ المُناسَبَةِ غَزَلًا، وَتَأَمُّلًا، وَحِكمَة. وهذهِ هي الأَقسامُ الَّتي خَلَدَت مِنَ القَصِيدَة.
وَإِذا ذَهَبنا أَبعَدَ، فَأَغلَبُ الشِّعرِ هو شِعرُ مُناسَبَة. أَلَيسَ الغَزَلُ شِعرًا لِمُناسَبَةِ الوَلَهِ بِالحَبِيبِ؟ أَلَيسَ الرِّثاءُ شِعرًا لِمُناسَبَةِ المَوتِ أَوِ اللَّوعَةِ وَالحُزن؟
وَقَد يَكُونُ شِعرُ المُناسباتِ مِحَكًّا يُظهِرُ الغَثَّ وَالسَّمِينَ، وَبَراعَةُ الشَّاعِرِ تَبرُزُ في قُدرَتِهِ على استِخلاصِ العِبَرِ مِنَ المُناسَبَةِ، وَسَبْرِ غَوْرِها الإِنسانِيِّ فَيَخرُجُ مِنَ الخاصِّ إِلى العامّ.
تَعَدَّدَتِ الآراءُ في شِعرِ المُناسَباتِ، وَتَناقَضَت، فَمِنها ما يُؤَيِّدُ هذا الشِّعرَ، وَمِنها ما يَرفُضُه.
مِنَ المُبدِعِينَ الَّذين يُجِلُّونَ هذا الشِّعرَ الشَّاعِرُ الأَلمانِيُّ “غُوتِه” الَّذي دافَعَ عَنهُ في كِتابِهِ “شِعرٌ وَحَقِيقَة” قائِلًا: “إِنَّ شِعرَ المُناسَبَةِ، وَهُوَ الأَكثَرُ أَصالَةً مِن جَمِيعِ ضُرُوبِ الشِّعرِ، قَد فَقَدَ كُلَّ تَقدِيرٍ مُنذُ أَن بَدَأَتِ الأُمَّةُ لا تُلقِي بالًا إِلى قِيمَتِهِ العُليا”. (“شِعرُ المُناسَبَةِ بِما هو ظاهِرَةٌ اجتِماعِيَّةٌ”، مِيشال سُلَيمان، مَجَلَّةُ الفِكرِ العَرَبِيِّ المُعاصِرِ، عَدَد 1/5/1980، ص 60).
يَقُولُ بُول إِيلوَار:”كُلُّ الشِّعرِ مُنَاسَبَات. وَلَكِن عَلَى المُنَاسَبَاتِ أَن تَكُونَ مُنَاسَبَاتِ الشَّاعِر. المُنَاسَبَةُ الخَارِجِيَّةُ يَجِبُ أَن تَكُونَ وَالمُنَاسَبَةَ الدَّاخِلِيَّةَ عَلَى سِيَاقٍ، حَتَّى لَكَأَنَّ الشَّاعِرَ هُوَ الَّذِي أَوجَدَهَا”، (مِن حَدِيثٍ لِبُول إِيلوَار مَعَ كلُود روَا. تَرجَمَة سَلِيم بَاسِيلا).
تَرجَمتَ، في كِتابِكَ “حَصادٌ وَمِداد”، سِتَّ عَشْرَةَ قَصِيدَةً مِنَ الفَرَنسِيَّةِ إلى العَرَبِيَّةِ، شِعرًا عَمُودِيًّا. هل يُمكِنُ الحِفاظُ على خُصُوصِيَّةِ النَّصِّ الشِّعرِيِّ المُتَرجَمِ، وَالتَّقَيُّدُ بِعَمُودِيَّةِ القَصِيدَة؟
التَّرجَمَةُ هِيَ مِن أَهَمِّ الوَسائِطِ لِبِناءِ التَّثاقُفِ بَينَ الشُّعُوبِ، وَلَها أَهَمِّيَّةٌ كُبرَى في الاطِّلاعِ على آدابِ الأُمَمِ، وَنِتاجِها الفِكرِيّ.
وَنَأخُذُ مَثَلًا عَن أَهَمِّيَّةِ التَّرجَمَةِ، ما تَمَّ في العَصرِ العَبَّاسِيِّ في عُهُودِ الخُلفاءِ المَنصُورِ، وَهارُونَ الرَّشِيدِ، وَالمَأمُونِ، حَيثُ نَشَطَتِ التَّرجَمَةُ إِلى العَرَبِيَّةِ مِنَ اللُّغاتِ اليُونانِيَّةِ، وَالهِندِيَّةِ، وَالفارِسِيَّةِ، فَأَصبَحَت بَغدادُ قِبْلَةَ الدُّنيا.
تَرجَمَةُ الشِّعرِ شِعرًا عَمُودِيًّا شَيءٌ مُضْنٍ لِلغايَةِ، أَوَلَيسَ “الشِّعرُ هو ذَلِكَ الشَّيءُ الَّذي يَضِيعُ في التَّرجَمَة”، كما قالَ الشَّاعِرُ الأَمِيركِيُّ رُوبرت فرُوستRobert Frost ؟!
وَهِيَ تَقتَضِي أَن يَكُونَ المُتَرجِمُ شاعِرًا، وَبَعدَها فَالمَهَمَّةُ صَعبَةٌ لِلغايَةِ، فَالمُتَرجِمُ مُقَيَّدٌ بِثَلاثَةِ قُيُودٍ: جَمالِيَّةُ القَصِيدَةِ المُتَرجَمَةِ، وَالوَزنُ، وَالقافِيَةُ. فَالتَّرجَمَةُ هِيَ الفَنُّ السَّهلُ وَالصَّعبُ في آنٍ. سَهْلٌ إِذا أَخَذنا الكَلِمَةَ على حَرفِيَّتِها كَتَرجَمَةِ أَلفاظٍ، قَرِيبَةٍ مِنَ التَّرجَمَةِ المُباشَرَةِ بِواسِطَةِ الحاسُوبِ (تَطبِيقُ Translate)، وَالَّتي هِيَ مُفِيدَةٌ في تَرجَمَةِ الأَلفاظِ، وَالتَّعابِيرِ البَسِيطَةِ، وَلكِنَّها لا يُمكِنُ أَن تُتَرجِمَ الأَدَبَ وَالشِّعر. وَمِن ثَمَّ يَتبَعُها نَظْمٌ بارِدٌ يَبقَى على سَطْحِ القَصِيدَةِ المَنقُولَةِ، وَلا يَسبُرُ أَغوارَها. وَهِيَ فَنٌّ صَعْبٌ إِذا أَرَدنا إِخراجَ الجَمالِ بِجَمالٍ يُضاهِيهِ، إِن لَم نَقُلْ أَوْفَرَ مِنهُ.
وَتَرجَمَةُ الشِّعرِ شِعرًا، كَي تَكُونَ مُوَفَّقَةً، وَناجِحَةً، يَجِبُ عَلَيها أَن تَرتَفِعَ بِالعَمَلِ المَنقُولِ إِلى مُستَوَى العَمَلِ المَنقُولِ عَنهُ، وِإِذا أُتِيحَ لَها أَن تَتَفَوَّقَ عَلَيهِ، فَحِينَها يَكُونُ قَد تَوَفَّرَ لِلعَمَلِ الإِبداعِيِّ حَياتان.
هُنالِكَ قَولٌ طَرِيفٌ: “الأَصلُ فِي التَّرجَمَةِ أَن تَختَارَ بَينَ المَرأَةِ المُخلِصَةِ الدَّمِيمَةِ، والمَرأَةِ الحَسنَاءِ الخَائِنَة”. أَمَّا أَنا فَقَد اختَرتُ، في تَرجَمَتِي لِلسِّتَّ عَشْرَةَ قَصِيدَةً، المَرأَةَ الحَسناءَ، مُتَّخِذًا لِنَفسِيَ هامِشًا مِنَ الحُرِّيَّةِ مَع الحِفاظِ على رُوحِيَّةِ القَصِيدَةِ المَنقُولَة. فَكَم مِن مَرَّةٍ أَضَفتُ صُوَرًا لَم تَكُنْ في الأَصلِ، وَلكِنَّها لا تَتَعارَضُ مَعَ المَضمُونِ الفِكرِيِّ لِلمَنقُول.
لَقَد استَطَعتُ قَطْفَ الوَردَةِ، مِن دُونِ أَن أَقتُلَ العِطْرَ، فَكُنتُ وَفِيًّا لِهذهِ المَقُولَةِ العائِدَةِ إلى الأَدِيبِ الكَبِيرِ أَدُونِيس (عَلِي أَحمَد سَعِيد).
صُعُوباتٌ كَثِيرَةٌ تَعتَرِضُ التَّرجَمَةَ، مِنها، مِثالًا، أَنَّ بَعضَ الأَلفاظِ تَتَغَيَّرُ طَبِيعَتُها مِن لُغَةٍ إِلى أُخرَى. فَمَثَلًا القَمَرُ في الفَرَنسِيَّةِ مُؤَنَّثٌ، وَقَد يَرمُزُ إلى الأُنُوثَةِ وَالخُصُوبَةِ في نَصٍّ فَرَنسِيٍّ، فَكَيفَ يُنقَلُ إِلى العَرَبِيَّةِ الَّتي هو فِيها مُذَكَّرٌ، مَعَ صَوْنِ دَلالاتِه؟
في النِّهايَةِ فَليُسمَحْ لَنا أَن نَحلُمَ، في بَلَدٍ يَمتَهِنُ قَتلَ الأَحلامِ، فَنَقُولُ إِنَّ على الدَّولَةِ تَموِيلُ وَإِنشاءُ مَركَزٍ لِلتَّرجَمَةِ مُعَزَّزٍ بِطاقاتٍ فِكرِيَّةٍ وَازِنَةٍ، وَفَرِيقِ عَمَلٍ مُتَكامِلٍ مُجَهَّزٍ بِأَحدَثِ الأَجهِزَةِ الإِلكترُونِيَّةِ، لِكَي يُتاحَ لَنا الاطِّلاعُ على آدابِ الشُّعُوبِ الَّتي نَجهَلُ لُغاتِها!
هل أنتَ مِن دُعاةِ الأَدَبِ المُلتَزِمِ، أَم الأَدَبِ الحُرِّ الطَّلِيق؟
لُغَةً: لَزِمَ الشَّيءَ: ثَبَتَ ودامَ؛ لَزِم بَيتَهُ: لَم يُفارِقْهُ؛ لَزِمَ بِالشَّيءِ: تَعَلَّقَ بِهِ وَلَم يُفارِقْهُ؛ التَزَمَهُ: اعتَنَقَهُ؛ التَزَمَ الشَّيءَ : لَزِمَهُ مِن غَيرِ أَن يُفارِقَه.
وَالالتِزامُ كما وَرَدَ في مُعجَمِ مُصطَلَحاتِ الأَدَبِ: “هُو اعتِبارُ الكاتِبِ فَنَّهُ وَسِيلَةً لِخِدمَةِ فِكرَةٍ مُعَيَّنَةٍ عَن الإنسانِ، لا لِمُجَرَّدِ تَسلِيَةٍ غَرَضُها الوَحِيدُ المُتعَةُ وَالجَمال” (وِهبِه، مَجدِي، مُعجَمُ مُصطَلَحاتِ الأَدَبِ، مَطبَعَةُ دارِ القَلَمِ، بَيرُوتَ، ط1، 1974، ص:79).
وقد سَبَقَ وذَكَرتُ أَنَّ الالتِزامَ بِأَيديُولُوجيا سِياسِيَّةٍ هو ارتِهانٌ لها، يُسِيءُ إلى الأَدَبِ.
يُعَرِّفُ جان بُول سارتر الأَدَبَ المُلتَزِمَ بِقَولِه: “مِمَّا لا رَيْبَ فيه أَنَّ الأَثَرَ المَكتُوبَ واقِعَةٌ اجتِماعِيَّةٌ، وَلا بُدَّ أَن يَكُونَ الكاتِبُ مُقتَنِعًا بِهِ عَمِيقَ اقتِناعٍ، حَتَّى قَبلَ أَن يَتَناوَلَ القَلَمَ”. وَيُشِيرُ إِلى الدَّورِ الكَبِيرِ الَّذي يَلعَبُهُ الأَدَبُ في مَصِيرِ المُجتَمَعاتِ، فَالأَدَبُ مَسؤُولٌ عَن الحُرِّيَّةِ، وَعَن الاستِعمارِ، وَعَن التَّطَوُّرِ، وكذلكَ عَنِ التَّخَلُّف.
في الفَلسَفَةِ المادِّيَّةِ أَنَّ العَمَلَ هو الَّذي يَخلُقُ الأَدَبَ الَّذي هو انعِكاسٌ لِنَشاطِ الإِنسانِ العَمَلِيِّ، وَعَلَيهِ يَجِبُ أَن يَلتَزِمَ الأَدَبُ بِقَضِيَّةٍ تَخلُقُ فَردًا يَتَلَمَّسُ جَمالَ العَمَلِ وَيَلتَزِمُ بِه.
مَنطِقُ الحالِ يَقضِي أَن لا يُرفَضَ الأَدَبُ الَّذي يَلتَزِمُ قَضِيَّةً اجتِماعِيَّةً إِنسانِيَّةً، وَيُحافِظُ، تَوازِيًا، على نَصاعَةِ بَيانِهِ، وَرَشاقَةِ أُسلُوبِهِ، وَجَمالِيَّةِ دِيباجَتِهِ، وَصِدقِهِ في التَّعبِيرِ عَن مَشاعِرِ الإِنسانِ، وَعِندَها يَكُونُ فِعلُهُ مُدَوِّيًا، وَأَثَرُهُ باقِيًا في القُلُوبِ مَهما مَرَّ الزَّمَن. وَلَنا مَثَلٌ ساطِعٌ على هذا الأَدَبِ في رِوايَةِ “كُوخُ العَمِّ تُوم”، لِلكاتِبَةِ الأَمِيركِيَّةِ هاريِيت ستُو (Harriet Beecher Stowe، 1811-1896). هذهِ الكاتِبَةُ، قالَ عَنها الرَّئِيسُ الأَمِيركِيُّ أَبرَاهام لِينكُولن (Abraham Lincoln) وهو يُصافِحُها: “إِذَن أَنتِ المَرأَةُ الصَّغِيرَةُ الَّتي كَتَبَت ذاكَ الكِتابَ الَّذي سَبَّبَ بِدايَةَ هذه الحَربِ العَظِيمَة!”.
كما تَقضِي حاجَةُ الإِنسانِ إلى التَّسرِيَةِ، وَتَنمِيَةِ المَشاعِرِ، وَإِرهافِها، إلى مُبارَكَةِ الأَدَبِ الحُرِّ في تَعبِيرِهِ، وَلَو كانَ مِن فِئَةِ “الفَنِّ لِلفَنِّ”، شَرطَ أَن يُحَقِّقَ شُرُوطَ الجُودَةِ مَوضُوعَةً وَأُسلُوبًا، فَما كُلُّ شَيءٍ في الحَياةِ عَمَلًا، وَالإِنسانُ يَتُوقُ إلى مَنظُومَةٍ جَمالِيَّةٍ جَسَدُها اللُّغَةُ، تُعَبِّرُ عَن اختِلاجاتِ النَّفسِ البَشَرِيَّة.
بِالنِّسبَةِ لِلشِّعرِ، فَإِنَّهُ التَزَمَ، مُنذُ الجاهِلِيَّةِ، مُرُورًا بِالعُصُورِ الإِسلامِيَّةِ، المَدحَ وَالرِّثاءَ وَالهِجاءَ، تَكَسُّبًا في حالاتٍ، وَاستِرضاءً لِلوَالِي وَالأَمِيرِ وَالحاكِمِ في أُخَرَ. وَمَرَّتِ الحِقَبُ فَما بَقِيَ مِن هذا الشِّعرِ إِلَّا ما تَضَمَّنَ مِن غَزَلٍ، وَحِكَمٍ، وَوُقُوفٍ على الطَّلَلِ، مِن حَيثُ جَمالِيَّتُهُ وَبَلاغَتُهُ وَبَيانُهُ الصَّبِيح. وهذا يَدُلُّ على أَنَّ الشِّعرَ وَالأَدَبَ الباقِيَينِ، هُما اللَّذانِ تَحَرَّرا مِنَ الالتِزامِ، وَانطَلَقا في سَماءِ الإِبداعِ بِحُرِّيَّةٍ مُطلَقَة.
وَأَستَشهِدُ، هُنا، بِقَولِ غُوستاف فلُوبِير Gustave Flaubert: “إِنَّ بَيتًا مِنَ الشِّعرِ جَمِيلًا وَخَالِيًا مِنَ المَعنَى هُوَ أَرفَعُ وَأَفضَلُ مِن بَيتٍ يَعنِي شَيئًا وَيَقِلُّ عَنِ الأَوَّلِ جَمَالًا”.
فَلا نَنسَيَنَّ أَنَّ الشِّعرِ، مُذْ وُلِدَ، كانَ حُداءً، وَتَطرِيبًا، وَبَثَّا، وَعَرضًا لِحالاتِ النَّفسِ في فَرَحِها وَتَرَحِها، في دَهشَتِها وفي جَواها، وهو، كما ذَكَرتُ، أَيضًا، “يَدُورُ عَلَى وَصفِ الحَيَاةِ لا عَلَى فَضِّ مُشكِلاتِهَا”، على رَأيِ مُهَندِسِ الجَمالِيَّةِ الأَدَبِيَّةِ، الشَّاعِرِ والأَدِيبِ أَمِين نَخلَة.
لا رَيْبَ أَنَّ مُجتَمَعَنا يَشكُو الكَثِيرَ مِنَ النَّقصِ وَالعُيُوب. مِن أَينَ يَبدَأُ الإِصلاح؟
هذا السُّؤاَلُ يَستَدعِي إلى خاطِرِي قَولًا طَرِيفًا لِسَعِيد تَقِيِّ الدِّيْن: “حَضارَتُنا، في كُلِّ بَيتٍ بارُودَةٌ وليسَ في كُلِّ بَيتٍ مَكتَبَة”.
مِن عُيُوبِنا الأَساسِيَّةِ أَنَّ الفَردَ، في مُعظَمِ مَفارِقِ حَياتِهِ، لا يَتَوَصَّلُ إِلى تَسيِيرِ شُؤُونِهِ الَّتي هي حَقُّهُ الطَّبِيعِيُّ إِلَّا بِتَدَخُّلِ مَسؤُولٍ كَبِيرٍ، أَو مُتَسَلِّطٍ نافِذ. وحِينَ يَصِلُ يُصبِحُ رَهِينَةً لهذه المَرجِعِيَّةِ الَّتي تَمتَطِيهِ لِلبَقاءِ في سُدَّةِ القَرار. وهكذا فَإِنَّنا نَبقَى في الدُّوَّامَةِ عَينِها، وَنَتَخَلَّفُ عَن رَكْبِ الأُمَم. وَلا يَصلُحُ المُجتَمَعُ إِلَّا بِمُواطِنِينَ أَحرارٍ، وما بَقِينا في الدُّوَّامَةِ السَّابِقَةِ الذِّكرِ، سَيَبقَى الإِصلاحُ عَسِيرًا.
وَلَن نُبَرِّئَ المُواطِنَ، فهو المَسؤُولُ الأَوَّل. فهو عندما يَقِفُ أَمامَ صُندُوقَةِ الاقتِراعِ يَجِبُ عليه أَن تَحَرَّرَ مِن كُلِّ المَصالِحِ الشَّخصِيَّةِ، وَيَرَى إلى المَصلَحَةِ العامَّةِ الَّتي هي مَصلَحَتُهُ في النِّهايَةِ، وَإِلَّا فهو مُساهِمٌ في بَقاءِ الخَطَأِ وَالفَساد. وقالَها سَعِيد تَقِيِّ الدِّيْن: “تَكرِيسُ الإِثمِ شَرٌّ مِنِ اقتِرَافِه”.
وَلْنَتَذَكَّرْ جَيِّدًا قَولَ شاعِرِ القُطرَينِ خَلِيل مُطرَان:
“كُلُّ قَوْمٍ خَالِقُو نَيرُونِهِم” “قَيصَرٌ” قِيلَ لَهُ أَم قِيلَ “كِسْرَى”؟!
إِصلاحُ المُجتَمَعِ يَبدَأُ بِإِصلاحِ الفَردِ، فَكُلُّ فَردٍ لَبِنَةٌ في بِناءِ المُجتَمَعِ، فَبِقَدْرِ اللَّبِناتِ الصَّالِحَةِ يُقاسُ صَلاحُ المُجتَمَع.
وَبِدايَةُ هذا الإِصلاحِ هي في نَشْرِ العِلمِ، فَالمُتَعَلِّمُ المُتَخَصِّصُ يَصِلُ، في مُعظَمِ الأَحوالِ، إلى الاكتِفاءِ الذَّاتِيِّ، وَالانفِتاحِ على الآخَرِ وَتَقَبُّلِهِ، وَالنَّظرَةِ المَوضُوعِيَّةِ، وَثَقافَتُهُ تَجعَلُهُ يَعافُ الارتِهانَ وَالتَّزَلُّم.
وَمِن آفاتِنا الَّتي يَستَفِيدُ مِنها المُتَسَلِّطُونَ الطَّائِفِيَّةُ. فَلْنَرَ إلى الأُمَمِ كيف تَقَدَّمَت. لِنَأْخُذْ فَرَنسا، مَثَلًا، الَّتي كانت تَرسُفُ تَحتَ تَسَلُّطِ المَلَكِيَّةِ وَحاشِيَتِها الأَرِيستُوقراطِيَّةِ، وَالكَنِيسَةِ، ليس بِصِفَتِها الدِّينِيَّةِ بل لِتَحَوُّلِها إلى مُؤَسَّسَةٍ مُتَواطِئَةٍ مع الحُكمِ وَالأَرِيستُوقراطِيَّةِ لِلانتِفاعِ المُشتَرَكِ بِالاِمتِيازات. فَقامَت الثَّورَةُ الفَرَنسِيَّةُ، وكان مِن نَتائِجِها فَصْلُ السُّلُطاتِ، وَفَصْلُ الدِّينِ عن الدَّولَةِ، والمُساواةُ، وَحُرِّيَّةُ التَّعبِيرِ، وَمَجَّانِيَّةُ التَّعلِيمِ وَإِجبارِيَّتُه. وَبِمَعنًى مُختَصَرٍ إِقامَةُ الدَّولَةِ المَدَنِيَّة.
وَلْنَكُنْ عَمَلِيِّينَ، فَمُجتَمَعاتُنا الَّتي رَبِيَت على الخَطَأ (المَحسُوبِيَّاتِ، وَالتَّزَلُّمِ، والرَّشوَة…)، تَلزَمُها، في البَدْءِ، عَصًا غَلِيظَةٌ، تُلْزِمُ المُواطِنَ على احتِرامِ القانُونِ وَالمُجتَمَعِ، حَتَّى يُصبِحَ الإِلزامُ في النِّهايَةِ ثَقافَةً تَدخُلُ في تَكوِينِ الفَرْدِ، ولا نَنْسَيَنَّ أَنَّ مَسِيرَةَ الأَلْفِ مِيْلٍ تَبدَأُ بِخُطوَة.
قواسم مشتركة
اللهُ والطَّبِيعَةُ والمَرأةُ مَحاوِرُ ثلاثَةٌ وقاسمٌ مُشتَركٌ في نتاجكَ الشَّعريِّ والنَّثريِّ، فهل تَعتَبِرُ هذه العَناصِرَ تُجَذِّرُ الانتماءَ إلى هُوِيَّةٍ أدبيَّةٍ وإنسانيَّةٍ مُحَدَّدَة؟
هذه المَحاوِرُ هي في صَميم كلِّ إبداعٍ إنسانيّ. قد تكون مَوضُوعَةُ “الله” عُنوانَ جَدَلٍ، ولكنَّ أَثَرَها يبدو في مُعظمِ ما دَبَّجَتهُ الأَقلامُ، إِنْ رفضًا كان أو قَبولًا.
بِالنِّسبَةِ لي الأمر واضحٌ، فَعَظَمَةُ الخالقِ تَتَبَدَّى في كلِّ نَمنَمات الكون، ويَعِزُّ على المَنطِقِ أن يَتَقَبَّلَ العقلُ وجودَ هذا النِّظامِ الَّلامتناهي الدِّقَّةِ والإعجازِ مِن باب الصِّدفة. وهنا أستذكرُ قَولَةَ أَينشتَاين المَشهُورَةَ عندما سَمِعَ عن مِيكانِيكا الكَمِّ وعن أَنَّها عِلمٌ قائِمٌ على الاحتِمالاتِ: “اللهُ لا يَلعَبُ النَّرْدَ God doesn’t play dice).
هذا، ولن أَغفلَ عن بعض سوانحِ الشَّكِّ، تُثِيرُها أسئلةٌ تَعصِي إدراكَنا، على أَنَّني لا أَلبَثُ أن أعودَ إلى طُمأنينةِ الآيةِ الكريمة: ﴿وَيَسأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِن أَمرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِنَ العِلمِ إِلاَّ قَلِيلا﴾. فالإنسانُ، في قرارةِ ذاته، مُؤمِنٌ بِوُجودِ الخالقِ، كما جاءَ عند باسكال (Pascal): “لو لم تَكُنْ وَجَدتَني لما كُنتَ تُفَتِّشُ عَنِّي؛ Tu ne me chercherais pas si tu ne m’avais déjà trouvé”.
أمَّا الطَّبِيعَةُ فإنَّها الجمالُ الَّذي لا تَشُوبُهُ شائِبةٌ، إلَّا حيث يَضَعُ الإنسانُ قَدَمَه. فهل مَن رَأَى طبيعةً بِكْرًا على صورةٍ دَمِيمَةٍ حتَّى ولو كانت مِن صَحارَى الله؟!
والأدبُ، والشِّعرُ، وكلُّ الفنونِ تَمْتَحُ مِن مَعِينِها، لأنَّها تَغتَذي بِالجَمال. والطَّبيعةُ سَكِينَةٌ للقَلبِ المُضطَربِ، ومَلاذٌ للنَّفسِ الحائِرَةِ، والمُبدِعُ لا تَتَجَلَّى مَوهِبَتُه إلَّا في السَّكِينةِ وخُلُوِّ البال.
وفيما يَخُصُّ المِحورَ الثَّالث، المرأةَ، فسأتكلَّمُ عنه في سؤالٍ خاصٍّ عنها.
وفي المُحَصِّلَةِ، فالثَّالوثُ المَذكُورُ، وهو الأَثافِيُّ الَّتي يَرتَكِزُ عليها نِتاجي، فإنَّه، حقًّا، هُوِيَّتي الأدبيَّةُ والإنسانيَّةُ، ما تَنَكَّرتُ لها يومًا، ولن يكونَ إلهامِي إلَّا مِن عَبْقَرِها الَّذي لا يَنضُب.
لِلمَرأَةِ الحَيِّزُ الأَوسَعُ في شِعرِكَ، فما سببُ تأثيرِها الطَّاغي؟ والغَزلُ والحبُّ يَطبعانِ نتاجَك فهل تَهرُبُ إليهما من وحشِيَّةِ الواقع؟ وهل ما زال ثَمَّةَ مكانٌ للمَشاعِرِ في عالَمِ البَشاعات؟ والمَرأةُ المَثَلُ، في كِتاباتِكَ، هل لها صُورَتُها الرُّومنسِيَّةُ مِن عُقُودٍ وعُصُورٍ مَرَّت، أم هي تَحمِلُ وَجهَ امرأةِ عَصرِ الثَّورة التّكنولوجيَّةِ الَّتي نَعِيشُها؟
تَرتَبِطُ المَشاعِرُ الَّتي تُرافِقُ الإِنسانَ طَوِيلًا بِالمَرأَة. وهي غالِبًا ما تَكُونُ جَيَّاشَةً مُثِيرَةً، تَخُضُّ الأَحاسِيسَ، وَتُحَفِّزُ الخَيالَ، وهما الدَّافِعانِ الحَيَّانِ اللَّذانِ يَتَنَفَّسانِ جَمالًا، وَإِثارَةً، وَشَهوَةً، فَيُطلِقانِ شِعرًا. طَبعًا هُناكَ حَوافِزُ أُخرَى لِلشِّعرِ. مِنها، مَثَلًا، الوَطَنِيَّةُ الَّتي يَبقَى شِعرُها مَضبُوطًا بِالفِكرِ فَتَتَقَلَّصُ شِعرِيَّتُه. وهُناكَ المَوتُ الَّذي يَبقَى شِعرُهُ مَحدُودَ المَدَى وَالتَّعبِير.
أَمَّا حُبُّ المَرأَةِ، فَيُلازِمُ الرَّجُلَ مِن طُفُولَتِهِ حَتَّى أُفُولِ شَبابِهِ، وَهي مَراحِلُ العَطاءِ الأَسخَى، وَدَفْقِ الشُّعُور. وَكَثِيرًا ما يُرافِقُهُ في كُهُولَتِهِ، وَلَرُبَّما مَشَى في جَنْبِهِ حَتَّى نِهايَةِ الشَّيخُوخَة.
وَهَل لَنا أَن نَنْسَى جَمِيل بُثَيْنَةَ صادِحًا:
“يَهواكِ، ما عِشتُ، الفُؤادُ، فَإِنْ أَمُتْ، يَتبَعْ صَدايَ صَداكِ بَينَ الأَقْبُرِ”؟!
أمَّا البَشاعاتُ الَّتي تَلُفُّنا، والهُمُومُ الَّتي تُلازِمُنا، فَمُجالَدَتُها تكون في كلِّ مُتَنَفَّسٍ جَمالِيٍّ، والمرأةُ هي في صَدرِ رُكنِهِ، وهي، متى أَلقَت دلالَها، فليس لِقلبٍ أن يُمانِعَ، ولا لِقافِيَةٍ إلَّا أَن تَنبَجِسَ كالنَّبعِ الَّذي يَشُقُّ أَدِيمَ الأَرضِ ثُمَّ يَكسُوهُ بِالزَّهرِ والثَّمَرِ والاخضِلال.
وصورةُ المرأةِ، عندي، هي صورةُ الجمالِ الخالصِ، لذا فهي رُومنسِيَّةٌ، شَفِيفَةٌ لا تَمُتُّ بِصِلَةٍ إلى امرأةِ العصرِ المُرَكَّبَةِ مِن سِيلِيكُونِهِ ومَوادِّهِ النَّافِخَة.
أَمَّا عَنِ السَّبَبِ المُباشِرِ لِتَأثِيرِ المَرأَةِ في شِعرِي، فَلْنَسأَلِ اللهَ الَّذي بَرانِي على حُبِّ هذا المَخلُوقِ اللَّطِيفِ الَّذي يَمُرُّ كَنَسِيمٍ، وَلكنَّهُ يَفلِقُ القَلبَ كما فَلَقَت عَصا مُوسَى البَحرَ فَلقَتَين. وَمَن يُكابِرُ في عِنادِهِ أَمامَ هذا النَّسِيمِ نَقرَأُ لَهُ مِن ابْنِ الرُّومِيِّ:
“وَيلاهُ إِن نَظَرَت وَإِن هِيَ أَعرَضَت وَقْعُ السِّهَامِ وَنَزعُهُنَّ أَلِيمُ”!
أَلَا رَحِمَ اللهُ العَلاَّمَةَ هَانِي فَحْص الَّذي قال: “مِعيَارُ الإِبداعِ فِي الشِّعرِ، أَو بِدَايَتُهُ، لَدَيَّ، هُوَ الغَزَلُ، وَمَن أَبدَعَ غَزَلًا تَعَيَّنَ شَاعِرًا حَتَّى لَو لَم يُبدِعْ فِي غَيرِهِ أَو لَم يَقُلْ غَيرَه…”.
رومنسية وواقعية
تُؤْمِنُ بِالرُّومنسِيَّةِ في عَصرِ الواقعِيَّةِ، ألا تَعتَبِرُ أنَّكَ تُغَرِّدُ خارجَ السِّربِ لا سيَّما أَنَّ العَبَثِيَّةَ تُسَيطِرُ على مُعظَمِ النِّتاجاتِ الأَدَبِيَّةِ اليَوم؟
مِعيارِي الأَوَّلُ في الأَدَبِ والشِّعرِ هو الجَمال. والنِّتاجُ الَّذي لا يَتَزَيَّا بِلُغَةٍ سَلِيمَةٍ، جَمِيلَةِ الصُّوَرِ، وَثَّابَةِ التَّعابِيرِ، ثَرَّةِ الخَيالِ، فهو يَقتَرِبُ مِن البَلاغِ الصِّحافِيِّ الجافّ. وبِصَراحَةٍ أَقُولُ إِنَّ “الصَّرعاتِ الكِتابِيَّةَ” الَّتي تَغزُو أَسواقَ الكِتابَةِ، والَّتي تُشَوِّهُ الذَّوائِقَ، وتُنَفِّرُ القارِئَ، لا أَفهَمُها، ولا أَستَسِيغُها، وأَربَأُ بِلُغَتِنا الرَّائِعَةِ أَن تَنحَدِرَ إلى دَرَكاتِها. فهل بِتنا في قَبضَةِ “يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدِين في أَرضِ” الإِبداع؟! وهل يَصِحُّ الصَّمتُ، أَم تَجِبُ الانتِفاضَةُ المُحيِيَة؟!
وإذا كان الالتِزامُ بِجَمالِيَّةِ التَّعبِيرِ تَغرِيدًا خارِجَ السِّربِ، فهو لا يَضِيرُني فَتِيلًا، فأنا أَلتَزِمُ سِربَ الحَساسِينِ قَلبًا وقالَبًا!
نِتاجُكَ سَواءٌ النَّثرِيُّ والشِّعرِيُّ يَتَمَحوَرُ حَولَ الحالَةِ الِإنسانِيَّةِ، فإِلى أيِّ مَدًى يَعكِسُ الواقِعَ ويُعَبِّرُ عن القضايا المَطرُوحَةِ اليومَ سَواءٌ الأَدَبِيَّةُ أو السِّياسِيَّةُ أو الاجتِماعِيَّة؟ وهل أنتَ مِن دُعاةِ الأَدَبِ المُلتَزِمِ، أَم الأَدَبِ الحُرِّ الطَّلِيق؟
لا يكونُ العَمَلُ الأَدَبِيُّ أو الشِّعرِيُّ ذا قِيمَةٍ ودَيمُومَةٍ إن لم يُلامِسِ الوِجدانَ الإِنسانِيّ. والوِجدانُ الخاصُّ هو صُورَةٌ لِوِجدانٍ عامٍّ، وَسُعَ انتِشارُه أم تَقَلَّص.
وأنا لستُ مع الأَدَبِ المُلتَزِمِ بِأَيديُولُوجيا سِياسِيَّةٍ، لأَنَّهُ يُصبِحُ مَطِيَّةً لها، وتَغدُو هي غَرَضَهُ الرَّئِيسَ، وحِينَها قد يُضَحِّي بِمُقَوِّماتِ البَيانِ، وَالجَمالِيَّةِ، في سَبِيلِها.
فالقضايا المَطرُوحَةُ، مِن كلِّ نَوعٍ، تَجدُرُ خِدمَتُها، والدِّفاعُ عنها، بالُّلغَةِ المُبَسَّطَةِ الَّتي تَبلُغُ شَرائِحَ أوسَعَ مِن النَّاسِ، لا الُّلغَةِ الجَمالِيَّةِ الرَّاقِيَةِ الَّتي تَتَوَجَّهُ إلى السَّراة.
نِتاجِي، وخُصُوصًا الشِّعرِيُّ، هو صُورَةٌ صادِقَةٌ لما يَعتَمِلُ في مَشاعِرِي، لذا أَظُنُّها تَهُزُّ مَشاعِرَ الآخَرِينَ، وحَسبِيَ هذا.
ولكم صَدَقَ أَمِين نَخلَة بقوله: “الشِّعرُ يَدُورُ عَلَى وَصفِ الحَيَاةِ لا عَلَى فَضِّ مُشكِلاتِهَا”.
ما العَلاقَةُ بينَ الحَداثَةِ والأَصالَةِ في الشِّعرِ اليومَ؟ وهل أنتَ مع تَصنِيفِ الشِّعر؟ وأنتَ تكتُبُ الشِّعرَ المَوزُونَ في عَصرِ تَفَلُّتِ الكِتابَةِ مِن أي ضَوابِطَ وأَوزانٍ، بِرَأيِكَ هل الشِّعرُ هو شَكلٌ أَم مَضمُونٌ، وهل هُو طَبْعٌ وَفِطْرَةٌ مَنبَعُهُما القَلبُ، أَم صِناعَةٌ يَحكُمُها العَقلُ، أَم هو جَمِيعُ ذلك؟
كُلُّ إِبداعٍ هُوَ ضَنَى صَنِيعٍ في الدَّرَجَةِ الأُولَى.
مِن المُؤَكَّدِ أَنَّ في المُبدِعِ، شاعِرًا كانَ أَم أَدِيبًا، مَوهِبَةً مَطبُوعَةً في نَفسِهِ يُسَمُّونَها الإِلهام. هي الَّتي قالَ فيها الأَخطَلُ الصَّغِير، عَبدَالله الخُورِي:
“صُغتُ القَرِيضَ وَمَا لِي فِي القَرِيضِ يَدٌ يَدُ الطَبِيعَةِ فِيهِ أَو يَدُ القَدَرِ
إنَّ المَوَاهِبَ لا فَضلٌ لِصَاحِبِهَا كَالصَّوتِ لِلطَّيرِ أو كَالنَّفْحِ لِلزَّهَرِ”
ولكنْ… هل هذه المَوهِبَةُ كافِيَةٌ لِخَلقِ الإِبداع؟
يقول بُول فَالِيرِي: “البَيتُ الأَوَّلُ يَأتِينَا فِي مُغَلَّف”. وماذا في الأَبياتِ الأُخرَى؟
أَلعِبْءُ الأَكبَرُ في إِخراجِ القَصِيدَةِ يَكمُنُ في الصِّياغَةِ، فَالأَفكارُ قد تَكُونُ مَوجُودَةً ومَكرُورة. واللُّعبَةَ، في أَساسِها، هي لُعبَةٌ لُغَوِيَّة. فَتَدبِيجُ الاقتِباساتِ، وَإِخراجُها في نِتاجٍ يَستَحِقُّ صِفَةَ الإِبداعِ، يَتَطَلَّبُ إِمكاناتٍ لُغَوِيَّةً، وَزِينَة. فَالعَمَلُ يُكْتَبُ بِأَلفاظٍ، وَالأَلفاظُ تُحاكُ حِياكَةَ النَّسِيج. لِذا يَلزَمُ المُبدِعَ مُعْجَمٌ لُغَوِيٌّ غَنِيٌّ، وَتَمَكُّنٌ مِن قَواعِدِ الكِتابَةِ، وَخَلفِيَّةٌ ثَقافِيَّةٌ وافِيَةٌ، وَكُلُّ هذا لا يَتَأَتَّى إِلَّا بِالمِراسِ الطَّوِيلِ، وَالبَحثِ، وَالتَّنقِيبِ، وَالمُطالَعَةِ، وَالهِمَّةِ الَّتِي لا تَخُور. وَالمَعرِفَةُ اللُّغَوِيَّةُ لا تُكتَسَبُ بِضَربَةِ ساحِرٍ، بَل بِتَعاطٍ رُبَّما يَكُونُ يَومِيًّا مَع شُؤُونِ اللُّغَة.
وَحَتَّى تَكُونَ الأَلفاظُ بِمُستَوًى لائِقٍ بِالشِّعرِ، يَجِبُ السَّهَرُ، وَالتَّعَبُ، وَالكَدُّ؛ فَقِسمٌ كَبِيرٌ مِنَ الحَبكَةِ الشِّعرِيَّةِ هو تَفَنُّنٌ في اللُّغَة. وَ”إِذا آمَنَ الشَّاعِرُ بِالوَحيِ قَتَلَ الإِبداع”، على حَدِّ قَولِ بُول ﭭالِيرِي Paul Valéry)، لِذا فَالصِّناعَةُ المَدرُوسَةُ مَطلُوبَةٌ لِلخَلقِ الإِبداعِيِّ.
وَلنُدرِكْ أَهَمِّيَّةَ، وَحُضُورَ، اللُّغَةِ في الشِّعرِ، نُرَدِّدُ ما قالَتهُ الشَّاعِرَةُ نَازِك المَلائِكَة: “الشَّاعِرُ مَشحُونٌ بِالُّلغَةِ مِنَ الدَّاخِلِ حَتَّى يَكَادُ الشِّعرُ يُصبِحُ سِلسِلَةً مِنَ الرِّحلاتِ فِي الأَعمَاقِ البَاطِنَةِ لِلُّغَة؛ وَالُّلغَةُ تَتَفَتَّحُ كَالوَردَةِ بَينَ يَدَيه”.
أَمَّا في ما يَختَصُّ بِالحَداثَةِ والأَصالَةِ، فَإِنَّ الحَداثَةَ شُوِّهَ مَفهُومُها، وَتَحَوَّلَ أَنصارُها ومُناوِئُوها إلى ما يُشبِهُ الشُّوفِينِيَّةَ. كُلٌّ يَسعَى إلى إِلغاءِ الآخَر.
الحَداثَةُ الحَقِيقِيَّةُ هي الأَصالَةُ الَّتي، بِقِيمَةِ مَضمُونِها، تَتَخَطَّى السِّنِينَ، لأَنَّها تَتَوافَقُ مع الشُّعُورِ الإِنسانِيِّ الثَّابِتِ في النَّفس. فَكَم مِن بَيتٍ شِعرِيٍّ لِلمُتَنَبِّي، مَثَلًا، نُرَدِّدُهُ في حَياتِنا الرَّاهِنَةِ، وَنَستَشهِدُ بِهِ في المَواقِفِ والأَحداث. أَلَيسَ هذا البَيتُ حَدِيثًا؟!
وَكَم مِن سَقْطِ مَتاعٍ يَخرُجُ عَلَينا كُلَّ يَومٍ مِن أَقلامٍ ما خُلِقَت لِلإبداع. أَنَعتَبِرُهُ مِنَ الحَداثَةِ، وَنَحتَفِي بِقُدُومِهِ المَيمُون؟
الحَداثَةُ لا تَعنِي كُلَّ جَدِيدٍ، بَل تَعنِي مِنَ الجَدِيدِ ما يَرتَبِطُ بِتَطَوُّرِ الإِنسانِ، وَتَحَقُّقِ مُثُلِهِ العُليَا مِن حُرِّيَّةٍ، وَحَقٍّ، وَعَدلٍ، وَجَمال. وفي التُّراثِ القَدِيمِ ما يَنخَرِطُ في هذا الخَطِّ، إِذَنْ فَهُو مِنَ الحَداثَةِ وَلَو طَوَتهُ السِّنُون.
وَإِلى مَن يُشِيعُ أَنَّ الأَوزانَ الشِّعرِيَّةَ تَقِفُ حائِلًا بَينَ الشَّاعِرِ وَانطِلاقِهِ أَروِي هذهِ الطُّرفَةَ الَّتي وَرَدَت عِندَ الأَدِيبِ الدُّكتُور أَحمَد عُلَبِي في كِتابٍ لَهُ عَن الأَدِيبِ رَئِيف خُورِي، يَقُول: سَأَلَ الشَّاعِرُ أَحمَد الصَّافِي النَّجَفِي الأَدِيبَ اللُّبنَانِيَّ رَئِيف خُورِي: “يَقُولُ دُعَاةُ الشِّعرِ الحُرِّ أَنَّ الوَزنَ وَالقَافِيَةَ يُشَكِّلانِ عَائِقًا لِلشَّاعِرِ يَحُولُ دُونَ انطِلاقِهِ مَعَ خَيَالِهِ وَأَفكَارِهِ، فَمَا رَأيُك؟”. فَأَجَابَهُ الخُورِي: “العَامِلُ الرَّدِيءُ يَتَّهِمُ الآلَةَ دَومًا”.
أَنا شَخصِيًّا أَرتاحُ إلى الوَزنِ وَالقافِيَةِ، وَلَم أَجِدْ فِيهِما يَومًا أَيَّ عائِقٍ في التَّعبِيرِ عَن أَفكارِي. كَما إِنَّني أَتَمَسَّكُ بِمُوسِيقَى الشِّعرِ الَّتِي تَتَأَمَّنُ بِهِما. وفي الوَقتِ نَفسِهِ فَإِنَّني أَسكَرُ مِنَ النَّثرِ الفَنِّيِّ الجَمِيلِ أَكثَرَ مِن سُكْرِي بِالشِّعر.
كما إِنَّني أَرَى أَنَّ الشِّعرَ وُجِدَ لِحاجَةٍ في النَّاسِ لِلكَلامِ المُنَغَّم. وهُنا أُرِيدُ التَّذكِيرَ بِأَنَّ الشَّاعِرَةَ نازِك المَلائِكَة، الَّتِي يُقَالُ إِنَّهَا مُنَظِّرَةُ “قَصِيدَةِ النَّثرِ” الأُولَى فِي إِطلاقِهَا قَصِيدَتَهَا “الكَولِيرَا” فِي العَامِ 1947، وَالَّتي بَشَّرَت كَثِيرًا بِحَسَنَاتِهَا فِي كِتَابِهَا “قَضَايَا الشِّعرِ المُعَاصِرِ”، عَادَت لِتَقُولَ، فِي العَامِ 1967: “أَنَا عَلَى يَقِينٍ بِأَنَّ تَيَّارَ الشِّعرِ الحُرِّ سَيَتَوَقَّفُ، وَسَيَرجِعُ الشُّعَرَاءُ إِلَى الأَوزَان”.
وَأَمَّا أَنا فَإِنَّني أَرفُضُ تَصنِيفَ الشِّعرِ، ولا أَنتَمِي إِلى مَدرَسَةٍ مُعَيَّنَةٍ، بل أَكتُبُ بِالطَّرِيقَةِ الَّتي تَرتاحُ إِلَيها نَفسِي.
أَمَّا بِخُصُوصِ الشِّعرِ الجَيِّدِ فَإِنَّهُ، بِرَأيِي، الَّذي يَهُزُّ وِجدانَكَ عِندَ قِراءَتِهِ، وَيَلتَصِقُ بِقَلبِكَ، وَيُلازِمُكَ، وَتَوَدُّ العَودَةَ إِلَيه. فَالقَلبُ، أيِ الإِحساسُ وَالوِجدانُ، هُوَ المِيزانُ الأَوَّلُ لِلشِّعرِ، وَيَلِيهِ، طَبعًا، مَيازِينُ أُخَرُ.
وَقالَ الشَّاعِر:
“إِذَا الشِّعرُ لَم يَهْزُزْكَ عِندَ سَمَاعِهِ فَلَيسَ حَرِيًّا أَن يُقَالَ لَهُ شِعرُ”.
أَلشِّعرُ قَد يَكُونُ جَيَّدًا، وَقَد يَكُونُ رَدِيئًا، مَهما كانَتِ المَدرَسَةُ الَّتِي يَنتَمِي إِلَيها. وَالأَصِيلُ يَبقَى أَصِيلًا، في أَيِّ عَصرٍ، وَمِصْرٍ، وَلُغَة.
وَبَراعَةُ الشَّاعِرِ هِيَ في التَّحلِيقِ بِالخَيالِ وَالجَمالِيَّاتِ إِلى أَعلَى عِلِّيِّينَ، مِن دُونِ أَن تَتَفَلَّتَ رِجلاهُ مِن تُرابِ الوَاقِعِ، بِعَكسِ بَعضِ مَن يَتَغَطَّوْنَ بِالسُّورِيالِيَّةِ لِيَغُوصُوا في مَعْمِيَّاتٍ تُعمِيهِم قَبلَ أن تُعمِي الآخَرِين.
وَأَنا شَخصِيًّا أَعتَرِفُ بِعَجزِي عَنِ اللِّحاقِ بِهِم، وَتَتَبُّعِ آثارِهِم في ما يُسَمُّونَهُ “مَناطِقَ اللَّاوِعْيِ”. وَهُنا أَتَذَكَّرُ طُرْفَةً حَصَلَت مَع الشَّاعِرِ الكَبِيرِ بَدَوِي الجَبَل عِندَما أَسَرَّت إِلَيهِ صِحافِيَّةٌ بِما يُؤَرِّقُها: “يا شاعِرَنا، أَنا أُحِبُّ الشِّعرَ، وَأَتَذَوَّقُهُ، وَلكِنَّني أَعجَزُ عَن فَهمِ هذا الَّذي يُسَمُّونَهُ “الشِّعرَ الحَدِيثَ”، حَتَّى بِتُّ أَشُكُّ بِإِمكاناتِي”، فَأَجابَها على الفَوْر: “يا ابنَتِي، خَفِّفِي عَنكِ، فَلَستِ أَنتِ الَّتي تَعجَزُ عَنِ الفَهمِ، وَإِنَّما مَن كَتَبُوا هذا الشِّعرَ هُمُ العاجِزُون”.
كُلُّ إِبدَاعٍ هو تَفاعُلٌ بَينَ مُتَواجِهَينِ: نَصٌّ وَقارِئٌ. فَإِذا أَشكَلَ الأَوَّلُ على الثَّانِي، فَكَيفَ تَتِمُّ اللُّعبَةُ الإِبداعِيَّة؟!
وفي النِّهايَةِ، ألشِّعرُ نَبْضُ مَشاعِرَ، وَالمَشاعِرُ تَنمُو، تَذبُلُ، تَتَبَدَّلُ، تَفرَحُ وَتَحزَنُ، وكذلكَ الشِّعر. لِذا لا يُمكِنُ حَصرُهُ في بُوْتَقَةٍ، وَوَضعُهُ في إِطارٍ مُحَدَّدٍ لا يَتَبَدَّل.
صور وخيال ومنطق
في نِتاجِكَ تُفرِدُ مَكانًا واسِعًا لِلصُّورَةِ الشِّعرِيَّةِ ولِلخَيالِ، فهل مِن دَورٍ لِلمَنطِقِ؟ وأينَ مَوقِعُ العَقلِ والقَلبِ في نِتاجِك؟
في مَنظُورِي، إذا جَرَّدتَ الشِّعرَ مِن الصُّورَةِ الزَّاهِيَةِ، والخَيالِ الشَّفِيفِ المَضبُوطِ فإنَّهُ يُصبِحُ كَشَجَرَةٍ عَرَّيتَها مِن أَوراقِها، فَباتَت أَعمِدَةً مُتَخَشِّبَةً، لا حَياةَ فيها، تَشخَصُ بِخَواءٍ وعَبَثِيَّةٍ إلى الفَضاء.
على أَنَّ لِلمَنطِقِ دَورًا رَئِيسًا في الصِّناعَةِ الشِّعرِيَّةِ إذ هو ما يُثَبِّتُ بنيانَها فَتَغدُو مَقبُولَةً مِن العَقلِ، سائِغَةً لِلذَّائِقَة.
والشِّعرُ كُلَّما ابتَعَدَ عن المَنطِقِ، والتَّسَلسُلِ اقتَرَبَ مِن الهَذَيانِ، ونَفَرَت مِنه النَّفسُ القَوِيمَة.
وقد أَشَرتُ إلى دَورِ الُّلغَةِ سابِقًا، وأَزِيدُ أَنَّ الُّلغَةَ الرَّكِيكَةَ لا يَسَعُها أَن تُنتِجَ شِعرًا راقِيًا، والُّلغَةُ الشِّعرِيَّةُ هي نَسِيجُ جَمالٍ يَنبُذُ حُوشِيَّ الكَلامِ، ويَتَّسِمُ بِالتَّساوُقِ الَّلفظِيِّ الَّذي يَجَمَعُ الدَّلالَةَ، والجَرْسَ، والإِحالَةَ إلى مَطارِحِ الحِسِّ، والوِجدانِ، والحَنِينِ، والخَيال.
وَلِلتَّمثِيلِ على حُضُورِ الصُّورَةِ، والخَيالِ، والمَنطِقِ، واللُّغَةِ، أَقُولُ إنَّني ما انتَشَيتُ، ولا اهتَزَّت مَشاعِرِي، حِينَ قَرَأتُ الخاطِرَةَ “الشِّعرِيَّةَ” الآتِيَةَ، لِشاعِرٍ لن أَذكُرَه: “لَقَد كانَ في فَمِي سِهامٌ وَآباءُ بُرَيْصٍ أَقتَلُ، رأيتُ طِفلًا يُخْصَى، أَنَّهُ تَعَرَّى والشَّمسُ تراه. اللهُ وَيَداهُ وَشَحمٌ على مُنتَصَفِه، اللهُ أَلْيَتُه”.
حِينَ إِنَّنِي أَحسَستُ بِهَزَّةٍ في جَوارِحِي، وخَدَرٍ لَطِيفٍ حَمِيمٍ، وأنا أَتَذَوَّقُ بَيتَ أَبِي صَخْر الهُذَلِي:
“تَكَادُ يَدِي تَندَى إِذا ما لَمَستُها ويَنبُتُ في أَطرافِها الوَرَقُ الخُضْرُ”.
أَمَّا العَقلُ والقَلبُ فَإِنَّهُما مُتلازِمانِ في إِخراجِ شِعرٍ جَدِيرٍ بِتَسمِيَتِهِ، وذلك بِدَعمٍ مِن مُكْنَةٍ لُغَوِيَّةٍ لا غِنًى عنها، لأنَّه: “لَيسَ بِالأَفكَارِ دَومًا يُنظَمُ الشِّعرُ، بَل بِالأَلفَاظ”، على حَدِّ قَولِ مَالارمَه.
وعلى أَهَمِّيَّةِ هذه الأَعمِدَةِ الثَّلاثَةِ، فإِنَّها، مُنفَرِدَةً، مَشلُولَةُ الأَداءِ، ولكنَّها، مُجتَمِعَةً مَنبَعُ إِبداعٍ يَتَخَطَّى الأَزمِنَة.
في الخُلاصَةِ الشِّعرُ الباقِي على الزَّمَنِ يَكشِفُ عَن نَفسِهِ، وليس كُلُّ مَن استَهواهُ لَقَبُ “شاعِرٍ” تَوَصَّلَ أَن يَكُونَهُ، ورَحِمَ اللهُ مَن قال:
“مَا كُلُّ مَن قَالَ القَرِيضَ بِشَاعِرٍ أَو كُلُّ مَن عَانَى الهَوَى بِمُتَيَّم”.
تَتَمَتَّعُ بِثَقافَةٍ عَمِيقَةٍ نَتِيجَةَ تَراكُمِ قِراءاتِكَ حَولَ نِتاجِ كِبارِ الشُّعَراءِ وحَتَّى حِفظِها، فهل تَنطَلِقُ مِن هذه الثَّقافَةِ لِلإِبداعِ الشِّعرِيِّ والنَّثرِيّ؟
الثَّقافَةُ، والاطِّلاعُ على أَعمالِ المُبدِعِينَ، رافِدٌ قَوِيٌّ لِلشَّاعِرِ والأَدِيب. فَكُلُّ نِتاجٍ جَيِّدٍ هو، في حَيِّزٍ وافٍ مِنهُ، استِعادَةٌ لاشُعُورِيَّةٌ لِقِراءاتٍ مَرَّت في العَقلِ فَتَمَثَّلَها، ثُمَّ غابَت بِفِعلِ الزَّمَنِ والنِّسيانِ، وبَقِيَت مِنها، في العَقلِ الباطِنِ، عُصارَةٌ خَفِيَّةٌ، فَبَرَزَت إلى الذِّهنِ حِينَ وافَتها ظُرُوفٌ مُؤَاتِيَةٌ، كَبِذرَةٍ مَدفُونَةٍ في التُّرابِ أَعادَها دِفْءُ الرَّبِيعِ، ورِيُّهُ، إلى الازهِرارِ، والاخضِرارِ، والإِثمار.
والتَّناصُّ مَشرُوعٌ إذا ساقَهُ لاشُعُورٌ سَلِيمٌ، وليس مُسَوَّغًا إِطلاقًا إذا تَعَدَّى حُدُودَ الحَياءِ لِيُصبِحَ تَعَدِّيًا على فِكرِ الآخَرِينَ، وسَطوًا مَوصُوفًا. ومع الأَسَفِ هناكَ فِئَةٌ لا تَتَوَرَّعُ عَن امتِطاءِ مَطِيَّةِ المُبدِعِينَ، ثُمَّ “تَمُدُّ الأَيدِي إلى خَرجِهِم”. فإذا سَمِعتَ بَعضَ “إِبداعِهِم” تَذَكَّرتَ قَولَ الكِتَابِ المُقَدَّس: “الصَّوتُ صَوتُ يَعقُوبَ، أَمَّا اليَدَانِ فَلِعِيسُو”.
ولا نَنسَى ما قالهُ زُهَير بنُ أَبِي سُلْمَى:
“مَا أَرَانَا نَقُولُ إِلَّا مُعَادًا، أَو مُعَارًا، مِن قَولِنَا، مَكرُورُا”.
وما أَشارَ إِلَيهِ رُولان بَارْت: “إِنَّ كُلَّ نَصٍّ جَدِيدٍ هو نَسِيجٌ جَدِيدٌ لاقتِباساتٍ ماضِيَة”.
معايير النقد
كَيفَ تُعَرِّفُ النَّاقِدَ الأَدَبِيَّ؟ وما هي المَعايِيرُ الَّتي تَعتَمِدُها في النَّقدِ الَّذي تَكتُبُه؟ وما رَأيُكَ بِالمَدارِسِ النَّقدِيَّةِ المَعرُوفَة؟
استَورَدنا الكَثِيرَ مِن نَظَرِيَّاتِ النقد: الشَّكلانِيَّةُ، وَالتَّفكِيكِيَّةُ، وَالبِنيَوِيَّةُ، وَالحُروفِيَّةُ، وَالواقِعِيَّةُ، وَالواقِعِيَّةُ الجَدِيدَةُ، وَالأُسلُوبِيَّةُ، وَالمَناهِجُ النَّفسِيَّةُ، وَالاجتِماعِيَّةُ، وَالتَّكامُلِيَّةُ. وَكُلُّ هذه العائِلاتِ مُفِيدَةٌ إِن أَحسَنَّا التَّعامُلَ مَعَها.
النَّقدُ، مَعَ مارُون عَبُّود، مِيخائِيل نُعَيمَة، عَبَّاس مَحمُود العَقَّاد، طَهَ حُسَين، وَغَيرِهِم مِن جِيلٍ مَضَى، لَم يَكُنْ يَعتَمِدُ على هذه المَدارِسِ، بَل كانَ انطِباعِيًّا، تَأَثُّرِيًّا، قِوامُهُ الذَّائِقَةَ الفَردِيَّةَ، المُدَعَّمَةَ بِمَخزُونٍ ثَقافِيٍّ كَبِيرٍ، وَخِبرَةٍ أَدَبِيَّةٍ طَوِيلَة، وَيُولِي اللُّغَةَ، وَسَلامَتَها اهتِمامًا، وَيُرَكِّزُ على جُزئِيَّاتِ العَمَلِ، وَوَحدَتِهِ، وَتَرابُطِه.
ولقد أَصابَ في جُلِّ طُرُوحاتِه. وهذا لا يَعنِي أَنَّ هذه النَظَرِيَّاتِ قَد أَضَرَّت بِنا. قَطْعًا لا. وَلكِنَّنا أَسرَفنا في الالتِصاقِ بِها بِفَرِّيسِيَّةٍ مُضِرَّةٍ أَحيانًا، بَدَلَ الاستِدلالِ والاستِنارَةِ بِها.
ما يَنقُصُنا لَيسَ العُدَّةُ النَّقدِيَّةُ، بَل المِزاجُ النَّقدِيُّ السَّلِيمُ، وَالحَساسِيَّةُ النَّقدِيَّةُ المُرهَفَة. وهذانِ يُشِيرانِ إِلى النَّاقِدِ الجَيِّدِ، الَّذي قد تَغلِبُ عَلَيهِ الانطِباعِيَّةُ، وَلكِنَّهُ يُصِيبُ، في نَقدِهِ، المَواضِعَ الحَسَّاسَةَ في العَمَلِ الَّذي يَتَناوَل.
وَالنَّاقِدُ هو مُصَوِّبٌ لِلمُؤَلِّفِ، وَمُرشِدٌ لِلقارِئ. لا يَنبَغِي عَلَيهِ أَن يُجَرِّحَ في الأَوَّلِ فَيَقضِي على طُمُوحِهِ وَسَعيِهِ، أَو يَتَزَيَّدُ في إِطرائِهِ فَيُضِلُّهُ، وفي الحالَتَينِ فَإِنَّهُ يُضَلِّلُ الثَّاني. وَعَلَيهِ أَن يَتَحاشَى الهَوَى الشَّخصِيَّ، والاعتِباراتِ البَعِيدَةَ عَنِ الفِكرِ وَالثَّقافَة.
وَالنَّاقِدُ تَكُونُ جُودَتُهُ أَكثَرَ بِقَدْرِ ما يَكُونُ كاتِبًا جَيِّدًا، لِأَنَّهُ يَمتَلِكُ ذَوْقًا سَلِيمًا يُدِلُّهُ على مَكامِنِ الإِبداع. وفي النِّهايَةِ أَنا أَدعُو كُلَّ مَن يَكتُبُ أَن لا يَخشَى النَّقدَ، وَلْيَتَمَثَّلْ بِقَولِ عُمَر أبُو رِيْشَه:
“شَهِدَ اللهُ مَا انْتَقَدْتُكَ إِلَّا طَمَعًا أَنْ أَرَاكَ فَوْقَ انْتِقَادِي”!
في النِّهايَةِ، نَحنُ بِحاجَةٍ إِلى حَلَقاتٍ نَقدِيَّةٍ جادَّةٍ تَضَعُ النِّقاطَ على الحُرُوفِ في الأَعمالِ القَيِّمَةِ الَّتي تَنزِلُ السَّاحَةَ الأَدَبِيَّةَ، لا إِلى حَفَلاتٍ تَبجِيلِيَّةٍ تَنتَهِي بِكُوكتِيلاتٍ باذِخَةٍ، وَقُبُلاتٍ مُتَبادَلَة. وهذا الأَمرُ هو مِن مَسؤُولِيَّاتِ الصُّرُوحِ الجامِعِيَّةِ المَدعُوَّةِ إِلى حَفزِ الهِمَم.
بِالنِّسبَةِ لي، فإِنَّني لا أَدَّعِي أَنَّنِي ناقِدٌ مُحتَرِفٌ، فأنا أَتَناوَلُ أَعمالًا أَدَبِيَّةً، أَقرَأُها فَأُشِيرُ إلى مَواضِعِ الجَمالِ فيها، وأُعطِي فَهمِي الشَّخصِيَّ لها، وأُشِيرُ إلى الهَناتِ إذا كانت سافِرَةً لا تُحتَمَلُ، ويكون وَكدِي الدَّائِمُ هو التَّفتِيشُ عن الجَمالِ لا تَرَصُّدُ الأَخطاء.
عَرَّفتَنا على المَرأَةِ في شِعرِكَ وأَدَبِكَ، فكيف تَنظُرُ إليها في الحَياةِ، وإلى دَورِها في المُجتَمَعِ، وما هو مَوقِعُها في الحَياةِ الثَّقافِيَّةِ الرَّاهِنَةِ في وَطَنِنا؟ وفي العُمُومِ كيف تُقَيِّمُ السَّاحَةَ الثَّقافِيَّةَ اليومَ وكَمَّ النِّتاجاتِ الصَّادِرَةِ كُلَّ يَوم؟
المَرأَةُ نِصفُ المُجتَمَعِ، وَبِيَدِها مِفتاحُ التَّربِيَةِ في أَخطَرِ مَراحِلِ عُمرِ الإِنسانِ: طُفُولَتِه. وَ”الطِّفلُ هُوَ وَالِدُ الرَّجُل”، كما اتَّفَقَ عَلَيهِ فرُويْد والشَّاعِرُ وُردثْوُرث.
وَالمَرأَةُ في حَياةِ الرَّجُلِ مُتَنَفَّسُ الطُّمَأنِينَةِ وَالسَّعادَةِ وَالعَزاء. هي الأُمُّ، وَالزَّوجَةُ، وَالحَبِيبَةُ، وَالابنَةُ، وَالأُخت.
كما إِنَّها أَو تَدفَعُ بِالرَّجُلِ إلى الأَمامِ، أَو تُؤَخِّرُ تَقَدُّمَه. وقالَت مَيّ زِيادَة: “عَبَثًا يَقتَحِمُ الرَّجُلُ مَنَاطِقَ الذُّرَى، إِن لَم تَكُنْ رَفِيقَتُهُ في أُفُقِهِ المَعنَوِيِّ، إِنَّها تَقتُلُ مَوَاهِبَهُ بِسَخَافَاتِها، وَإِذَا حَاوَلَ التَّحلِيقَ فَوقَ جَبَلٍ، كَانَت هِيَ جَبَلًا مُعَلَّقًا في عُنُقِه”.
وَلَكَم أَصابَ أَحمَد شَوقِي حِينَ قال:
“الأُمُّ مَدرَسَةٌ إذا أَعدَدتَها أَعدَدتَ شَعبًا طَيِّبَ الأَعراقِ”.
لِذا وَجَبَ البَدْءُ بِتَعمِيمِ العِلمِ، وَإِلزامِهِ في مَرحَلَتِهِ الابتِدائِيَّةِ، وَتَكرِيسِ حَمَلاتٍ إِعلامِيَّةٍ مَدرُوسَةٍ لِتَشجِيعِ النَّاسِ عَلَيهِ، وَحَثِّ المَرأَةِ على طَلَبِه.
وَلَقد باتَ مِنَ البَدَهِيِّ أَنَّ مِقدارَ تَقَدُّمِ الشُّعُوبِ يَتَساوَقُ (Proportionnel) مَعَ تَطَوُّرِ المَرأَةِ عِلْمًا، وَثَقافَةً، وَانخِراطًا في عَمَلِيَّةِ نُهُوضِ المُجتَمَع.
أَمَّا مَوقِعُ المَرأَةِ في الحَياةِ الثَّقافِيَّةِ الرَّاهِنَةِ عِندَنا فَإِلَى نُمُوٍّ وَتَحَسُّن. وفي السَّاحَةِ الأَدَبِيَّةِ حُضُورٌ لها لَمَّا يَصِلْ بَعْدُ إِلى وَهَجِ حُضُورِ الرَّجُلِ، وذلكَ عائِدٌ إلى رَواسِبَ مِن ماضٍ مُظلِمٍ اقتَصَرَ حُضُورُ المَرأَةِ فِيهِ على الإِنجابِ، وَأَعمالِ المَنزِل.
مِن ناحِيَةٍ أُخرَى فَالإصداراتُ الأَدَبِيَّةُ، بِالأَعدادِ الكَبِيرَةِ، لَهِيَ مُؤَشِّرُ خَيرٍ على أَنَّ الثَّقافَةَ تُقاوِمُ المَدَّ التِّكنُولُوجِيَّ الزَّاحِفَ بِجَبَرُوتٍ لا يُقاوَم.
الكَثِيرُ مِمَّا تُخرِجُهُ المَطابِعُ جَيِّدٌ، حَقِيقٌ بِالحَياةِ، ولكنَّ قِسمًا كَبِيرًا إلى جانِبِهِ دَخِيلٌ على الأَدَبِ والشِّعرِ، وقد لا يكونُ لِسَنَواتِ بَقائِهِ عُمْرَ الوُرُود.
“والدَّهرُ نَقَّادٌ”، وغِربالُهُ دَقِيقٌ، فَلَن يَبقَى، على مُرُورِهِ، إِلَّا الرَّقاعُ الَّتي تَحمِلُ أَسبابَ الحَياةِ والدَّيمُومَةِ في مِدادِها.
في الخُلاصَة: مِن مُتابَعَةِ النِّتاجاتِ الجَدِيدَةِ والصَّفَحاتِ الثَّقافِيَّةِ، وَالمَجَلَّاتِ الأَدَبِيَّةِ، نَلمَحُ نَشاطًا لِلكِتابَةِ يُبَشِّرُ بِالخَيرِ، وَلكنَّهُ يُقَصِّرُ أَحيانًا عَن بُلُوغِ مَناطِقِ الإِبداع. فَالكِتابَةُ صَنْعَةٌ تَتَطَلَّبُ عُدَّةً هِي اللُّغَةُ وَالاطِّلاعُ على التَّجرِبَةِ الإِنسانِيَّةِ العامَّة.