يقولَ بجرأةٍ وبراعَةٍ كلَّ ما يُرِيدُ على لِسانِ شَخصِيَّاتِه
ميشلين حبيب
(كاتبة- لبنان)
بَعدَ مُرُورِ أَربَعِينَ سَنَةً على الحَربِ في لبنانَ والَّتي تَوَلَّدَت عنها نَعَراتٌ طائِفِيَّةٌ ودِينِيَّةٌ وَحَربٌ أَهلِيَّةٌ، تَظهَرُ، سَنَةَ 2014، رِوايَةٌ اسمُها “قِطَّةُ سِيكِيرِيدا” صادِرَةٌ عن دارِ السَّاقِي؛ وصاحِبُها رِوائِيٌّ ذَكِيٌّ، عَبَثِيٌّ، ساخِرٌ، جَرِيءٌ، ومُتَمَكِّنٌ مِن أَدواتِهِ الرِّوائِيَّةِ، اسمُهُ رَشِيد الضَّعِيف.
عندما نَقرَأُ الرِّوايَةَ يَقفِزُ مُباشَرَةً إلى ذِهنِنا السُّؤالُ التَّالِي: لماذا هذه الرِّوايَةُ الآنَ؟ ونَتَساءَلُ عَمَّا يُرِيدُ رَشِيد الضَّعِيف قَولَهُ، هل يُرِيدُ أَن يُذَكِّرَ النَّاسَ بِما جَرَى لِيَتَّعِظُوا، أَم لِيَقُولَ إِنَّ شَيئًا كَثِيرًا لم يَتَغَيَّرْ، أَم لِيُثِيرَ تَساؤلًا: هَل هَدَأَت النُّفُوسُ بِحَقٍّ؟ أَم لِيُخبِرَ الجِيلَ الجَدِيدَ عَمَّا جَرَى ولْيَقُولَ بِسُخرِيَةٍ صَرِيحَةٍ: هَل حَقًّا تَغَيَّرَ هذا المُجتَمَعُ مُنذُ تِلكَ الحَربِ حتَّى اليَومِ؟ أَم لِيَقُولَ إِنَّ تِلكَ الحَربَ مُستَمِرَّةٌ ولكنْ بِشَكلٍ مُختَلِف؟
قِطَّةُ سِيكِيرِيدا رِوايَةٌ واقِعِيَّةٌ ساخِرَةٌ تَرتَدِي مِعطَفَ الجِدِّيَّةِ والمَوضُوعِيَّةِ لِتُمَكِّنَ كاتِبَها مِن قَولِ كُلِّ ما يُرِيدُ على لِسانِ شَخصِيَّاتِها بِطَرِيقَةٍ ذَكِيَّةٍ لا تُوَرِّطُهُ – حَتَّى لو كانت تُوَرِّطُهُ في عالَمِ الكِتابَةِ الواقِعِيِّ – أَمَّا في عالَمِ الرِّوايَةِ فَهُوَ لَم يَتَوَرَّطْ أَبَدًا، وإِنَّما وَرَّطَ الشَّخصِيَّاتِ والقارِئَ.
تَتَجَلَّى هذه السُّخرِيَةُ في جَعلِ الزَّواجِ المُنقَطِعِ، الَّذي هو مِحوَرُ الرِّوايَةِ، يَبدُو كَأَنَّهُ تِجارَةٌ مُربِحَةٌ والحَلُّ لِكُلِّ ما يَتَعارَضُ مع المُجتَمَعِ وتَقالِيدِهِ وأَعرافِهِ.
يُبَيِّنُ الكاتِبُ بِطَرِيقَةٍ ذَكِيَّةٍ جِدًّا مَوضُوعَ الزَّواجِ المُنقَطِعِ على أَنَّهُ الحَلُّ لِلنِّساءِ الَّلواتِي حَمَلْنَ مِن دُونِ زَواج. هو الحَلُّ لِلنِّساءِ الَّلواتِي أَشبَعْنَ رَغبَتَهُنَّ الجِنسِيَّةَ، فَيَأتِي هذا النَوعٌ مِنَ الزَّواجِ لِيَحمِيَ الأَطفالَ، الَّذين هُم نَتِيجَةُ هذه الرَّغبَةِ، ولْيَمْنَعَ عَنهُمُ صِفَةَ الُّلقَطاءِ، فَتَتِمُّ اتِّفاقِيَّاتُ عَقْدِ الزَّواجِ السَّرِيعِ والطَّلاقِ الأَسرَعِ. وفي الرِّوايَةِ يَقُومُ الزَّواجُ المُنقَطِعُ على شَخصِيَّةٍ واحِدَةٍ (أَبُو ابراهِيم) يَقبَضُ المالَ ويَتَزَوَّجُ، على الوَرَقِ طَبعًا، ثُمَّ يُطَلِّقُ ويَرحَلُ مع جَيْبٍ دَسِمٍ. وتَصِلُ السُّخرِيَةُ إلى ذُروَتِها عِندَ لُجُوءِ والِدَةِ أَمَل، المُنفَتِحَةِ والمُستَقِلَّةِ، إلى الزَّواجِ المُنقَطِعِ لِتَحمِيَ ابنَتَها الحامِلَ مِن رِضوانَ وتُمَكِّنَها مِن مَنْحِ طِفلِها إسمًا، ورِضوانُ هو ابنُ سِيكِيرِيدا الَّتي زَوَّجَتها أَدِيبَة زَواجًا مُنقَطِعًا مِن ابراهِيمَ نَفسِهِ لِتَحمِيَ رِضوانَ مِن وَصمَةِ الَّلقِيطِ. فإذا بِنا نَجِدُ الكاتِبَ يَقُولُ: مَهما كانَ المَرءُ، وبِخاصةٍ المَرأةُ، مُستَقِلًّا وقَوِيًّا فَإِنَّ المُجتَمَعَ هو أَقوَى مِنهُ ولا يَرحَمُهُ، فَلا يَبقَى لهُ إِلَّا أَن يَحتالَ عليهِ وفي هذه الحالَةِ كان الاحتِيالُ مِن قَلبِ الدِّينِ نَفسِهِ: الزَّواجُ المُنقَطِعُ، الَّذي استَفهَمَت أَدِيبَة المُتَدَيِّنَةُ عَنهُ وتَأَكَّدَت أَنَّ لا خَطَأَ في الُّلجُوءِ إِلَيهِ مِن النَّاحِيَةِ الدِّينِيَّة.
لكنَّ رَشِيد الضَّعِيف الذَكِيٌّ جِدًّا قالَ كُلَّ ما أَرادَ قَولَهُ مِن خِلالِ شَخصِيَّاتِهِ مُبتَعِدًا عَنِ الوَعظِ أَو التَّغَنِّي بِالقِيَم. مَرَّرَ كُلَّ ذلك مِن خِلالِ بِضعِ شَخصِيَّاتٍ مُختَلِفَةٍ تَقطُنُ البُقعَةَ ذاتَها مِن دُونِ أَن يُقحِمَ نَفسَهُ حَتَّى في زاوِيَةٍ صَغِيرَةٍ جِدًّا في الرِّوايَة. الرَّاوِي في الرِّوايَةِ مُلتَصِقٌ جِدًّا بِالشَّخصِيَّاتِ حتَّى إِنَّنا نَنسَى أَنَّهُ الرَّاوِي لِكَثرَةِ اندِماجِنا في أَحداثِ الرِّوايَةِ وأُمُورِ الشَّخصِيَّاتِ وما يَحدُثُ لِكُلِّ واحِدٍ مِنهُم لِدَرَجَةِ أَنَّنا تَصَوَّرناهُم وفَهِمناهُم وعِشنا مَعَهُم إِلى انتِهاءِ الرِّوايَة. كَأَنَّنا بِهِ يَقُولُ: أَنا لا دَخْلَ لِي، فَهُمُ (شَخصِيَّاتُ الرِّوايَةِ) الَّذينَ يَقُولُونَ ذلك. ولِكَثرَةِ بَراعَتِهِ في حَبْكِ تِلكَ الشَّخصِيَّاتِ المُستَمَدَّةِ مِنَ الواقِعِ والمَشغُولَةِ بِطَرِيقَةٍ رِوائِيَّةٍ بارِعَةٍ، نَكادُ نُصَدِّقُه.
قِطَّةُ سِيكِيرِيدا رِوايَةٌ عَنِ الظُّلمِ الَّلاحِقِ بِالمَرأَةِ والوَطَن. لِشِدَّةِ رَوعَتِهِ وذَكائِهِ دَمَجَ الضَّعِيفُ الاثنَينِ، فَالظُّلمُ الَّلاحِقُ بِالمَرأَةِ لا يُمكِنُ تَفرِيقُهُ عَن الظُّلمِ الَّلاحِقِ بِالوَطَنِ وكأَنَّ المَرأَةَ هي الوَطَنُ. أَوَ لَم يَقُلِ المَثَلُ الفَرَنسِيُّ إِنَّ المَرأَةَ نِصفُ المُجتَمَعِ؟ أَمَّا عِندَ الضَّعِيفِ فَهِيَ الوَطَنُ ولَيسَت نِصْفَ المُجتَمَعِ أَبَدًا.
المَرأَةُ هِيَ مِحوَرُ الرِّوايَةِ مُتَمَثِّلَةً بِنِساءٍ مُختَلِفاتٍ سِيكِيرِيدا، أَدِيبَة، أُمِّ حَسَّانَ، أُمِّ أَمَلٍ، أَمَلٍ، وإِلفَت. أَمَّا الرَّجُلُ فَغائِبٌ: إِمَّا مَيْتٌ، أَو مُسافِرٌ هارِبٌ مِن مَسؤُولِيَّاتِهِ، أَو إِنَّهُ سَبَبُ البَلاوِي الحاصِلَةِ. رِضوانُ بنُ سِيكِيرِيدا هو الرَّجُلُ الوَحِيدُ الَّذي لَهُ وُجُودٌ في الرِّوايَةِ والَّذي يَختَفِي في نِهايَتِها ويُصَفَّى وكَأَنَّ الضَّعِيفَ يَقُولُ: المَرأَةُ قادِرَةٌ على تَدَبُّرِ أُمُورِها مِن دُونِ الرَّجُلِ وجُبْنِهِ وكَأَنَّهُ لا يَصلُحُ إِلَّا لِلجِنْسِ فَقَط. وقد جَعَلَ هذا الرِّوائِيُّ الجَرِيءُ المَرأَةَ تَستَخدِمُ الرَّجُلَ (عَلاقَةُ أَمَل ورِضوان) لإِشباعِ رَغَباتِها وهو دَورٌ يَكُونُ الرَّجُلُ دائِمًا بَطَلَهُ. أَمَّا هُنا فَقَد قَلَبَ رَشِيدُ الضَّعِيفِ المَعايِيرَ أو بِالأَحرَى عَرَضَ الحَقائِقَ المُنافِقَةَ الَّتي يَختَبِئُ وراءَها المُجتَمَعُ والَّتي يُسمَحُ بِها لِلرَّجُلِ ولكنْ لَيسَ لِلمَرأَة.
لِشِدَّةِ ذَكاءِ رَشِيدِ الضَّعِيفِ فَإِنَّهُ جَعَلَ “أَدِيبَة” الشَّخصِيَّةَ الأَساسِيَّةَ والمُحَرِّكَةَ لِلرِّوايَةِ وأَحداثِها ولِباقِي الشَّخصِيَّاتِ؛ فهي مُرتَبِطَةٌ بِهِم جَمِيعًا. أَدِيبَة هي الشَّخصِيَّةُ الَّتي استَعمَلَها الكاتِبُ لِتَكُونَ الصَّوتَ المُدافِعَ عَن المَرأَةِ، لكنَّهُ جَعَلَها في الثَّمانِينَ مِن العُمرِ وجَعَلَها حَكِيمَةً، إِنسانِيَّةً، طَيِّبَةً، مُتَدَيِّنَةً شُجاعَةً. ويُخبِرُنا الراوي إنَّ أَدِيبَة بِيعَت على طاوِلَةِ المَيسَرِ والَّذي باعَها كانَ والِدُها لِنَفهَمَ مِن خِلالِ ذلك، الظُّلمَ الَّذي تَتَعَرَّضُ له النِّساءُ عامَّةً مِن الرَّجُلِ الأَبِ أَو الزَّوجِ أَو الأَخِ أَو القَرِيبِ، خادِماتٍ كُنَّ أَم غَيرِ خادِمات. ما عانَتهُ أَدِيبَة لَم يُوَلِّدْ لَدَيها نَقمَةً بَل زادَها إِنسانِيَّةً ويَظهَرُ ذلك جَلِيًّا مِن خِلالِ عَلاقَتِها بِخادِمَتِها وهي عَلاقَةٌ إِنسانِيَّةٌ ولَيسَت عَلاقَةَ سَيِّدَةٍ بِخادِمَتِها (ص 38).
لم يَترُكْ رَشِيدُ الضَعِيفِ مَوضُوعًا جَرِيئًا ومُهِمًّا وجَدَلِيًّا وأَساسِيًّا في رِوايَتِهِ إِلَّا وتَطَرَّقَ إليه. “قِطَّةُ سِيكِيرِيدا” تَتَطَرَّقُ إلى الزَّواجِ، الجِنسِ، الدِّينِ، الخَدَمِ والخِدمَةِ في البُيُوتِ ومُعامَلَةِ الخادِماتِ والنَّظرَةِ الفَوقِيَّةِ الَّتي يُنظَرُ بِها إِلَيهِنَّ، الحَربِ، الانتِحارِ، الخَطْفِ (شَرقِيَّةٌ وغَربِيَّةٌ)، المَوتُ والقَتلُ المَجَّانِيُّ (ص.57/56)، الفَقرُ، بَلايا الحَربِ وما تَجلُبُهُ لِلمُجتَمَعِ، الظُّلمِ الَّلاحِقِ بِالمَرأَةِ، الإِجهاضِ، الهُجرَةِ، الاغتِرابِ، تَهَرُّبِ الأَبِ/الزَّوجِ مِن واجِباتِهِ ومَسؤُولِيَّاتِهِ، والزَّواجِ المُنقَطِعِ الَّذي احتَلَّ الحَيِّزَ الرَّئِيسَ في الرِّوايَةِ وكان أَحَدَ رَكِيزَتَيْها؛ وتَطرَحُ كُلَّ ذلك بِطَرِيقَةٍ ذَكِيَّةٍ ورِوائِيَّةٍ مُمتازَة. هي رِوايَةٌ سَلِسَةٌ شَيِّقَةٌ تَشُدُّنا فَنَندَمِجُ مع أَحداثِها ونَغرَقُ في مَشاكِلِ شَخصِيَّاتِها وأَحداثِها. نَتَعاطَفُ، نَنتَقِدُ، نَتَساءَلُ، نَشمَئِزُّ، نَتَأَلَّمُ، وتُؤْلِمُنا ذِكرَياتُ حَربٍ مُدَمِّرَةٍ لِأَرضٍ لَم تُخلَق إِلَّا لِلحُبّ.
في الرِّوايَةِ جُرأَةٌ وصَراحَةٌ وواقِعِيَّةٌ ومُواجَهَةٌ لكن بِطَرِيقَةٍ ذَكِيَّةٍ جِدًّا ورائِعَةٍ مِن النَّاحِيَةِ الرِّوائِيَّةِ وتَسَلسُلِ الأَحداثِ وتَفاعُلِ الشَّخصِيَّاتِ وتَطَوُّرِها.
تُنسِينا الرِّوايَةُ أَنَّ رَشِيدَ الضَّعِيفِ هو مَسِيحِيٌّ فَنَظُنُّهُ مُسلِمًا عن بِيئَةٍ وأُمُورٍ يَعرِفُها ويَفقَهُها جَيِّدًا. لهذه الدَّرَجَةِ بَرَعَ الضَّعِيفُ في حِياكَةِ شَخصِيَّاتِهِ وحَبْكِ رِوايَتِه.
أَمَّا في أُسلُوبِهِ فقد اعتَمَدَ على جُمَلٍ مُتَوَسِّطَةِ الطُّولِ وأُخرَى قَصِيرَةٍ جِدًّا تَتَأَلَّفُ مِن جُملَتَينِ أَحيانًا مُوَلِّدًا بذلك إِيقاعًا مُشَوِّقًا في الرِّوايَةِ بَعِيدًا عن البُطْءِ والاختِباءِ وَراءَ الحَشْوِ الَّلذَينِ يَفضَحان شِحَّ الأَفكارِ الخَيالِيَّةِ الرِّوائِيَّةِ عِندَ الكاتِبِ؛ فَرَشِيدُ الضَّعِيفِ المُتَمَكِّنُ مِن أَدواتِهِ الرِّوائِيَّةِ لا يَحتاجُ إلى ذلك أَبَدًا فهو لا تَنقُصُهُ لا الأَفكارُ ولا الخَيَالُ.
الرِّوايَةُ مُتَماسِكَةٌ جِدًّا مِن أَوَّلِها إلى آخِرِها وتَتَمَتَّعُ بِبَراعَةٍ في الانتِقالِ بِالقارِئِ مِن الحاضِرِ إلى الماضِي لِتَفسِيرِ الحاضِرِ وأحداثِهِ وحَيثِيَّاتِهِ إلى جانِبِ حَيثِيَّاتِ الماضِي (ص 32). كذلك يَلجَأُ رَشِيدُ الضَّعِيفِ إلى استِعمالِ الَّلهجَةِ المَحكِيَّةِ مِمَّا يُضفِي صِدقًا ورَونَقًا لَطِيفًا على الأَحداثِ. لُغَتُهُ السَّهلَةُ والبَسِيطَةُ الَّتي تَتَخَلَّلُها جُمَلٌ وكَلِماتٌ مِن الَّلهَجَةِ المَحكِيَّةِ تَفرُضُ نَفسَها عَلَينا ولِشِدَّةِ استِمتاعِنا بِما نَقرَأُ نَنسَى أَيَّ اعتِراضٍ على الُّلغَةِ.
أَمَّا عَبَثِيَّةُ رَشِيدِ الضَّعِيفِ الَّتي رُبَّما أَرادَ بها أَن يَعكِسَ عَبَثِيَّةَ الحَياةِ وعَبَثِيَّتَهُ الفَنِّيَّةَ الرِّوائِيَّةَ نَجِدُها في نِهايَةِ الرِّوايَةِ حَيثُ اختَفَت سِيكِيرِيدا وكأَنَّها مُجَرَّدُ أَداةٍ لِأَداءِ أَمرٍ يَخدُمُ الرِّوايَةَ أَو المَجمُوعَة. وتَبقَى هي الخادِمَةَ المُغَيَّبَةَ خادِمَةً وأَداةَ جِنسٍ لا أَكثَرَ حَتَّى إِنَّها لَيسَت أُمًّا ولا امرَأَةً. هل يا تُرَى هي إنسانٌ؟ حتَّى في خَطْفِ ابنِها لا نَراها ولا نَرَى رَدَّ فِعلِها. وهذه العَبَثِيَّةُ مَوجُودَةٌ أَيضًا في عُنوانِ الرِّوايَةِ وفي القِطَّةِ نَفسِها الَّتي تَظهَرُ مَرَّةً واحِدَةً في الرِّوايَةِ ثُمَّ تَختَفِي ولا يَعُودُ الكاتِبُ يَأتِي على ذِكرِها ليس لِأَنَّها هَرَبَت أَو ماتَت لا بل لِأَنَّه أَرادَ ذلك. يقول الكَاتِبُ الأَمِيركِيُّ كُورت فُونجِيت: “كُلُّ شَخصِيَّةٍ في الرِّوايَةِ يَجِبُ أَن تُرِيدَ شَيئًا، حَتَّى وَلَو كان كُوبًا مِن المَاء”، فكيفَ بِالأَحرَى إذا كانت مِن صُلبِ العُنوانِ كَـ”قِطَّةُ” سِيكِيرِيدا؟ وفي النِّهايَةِ لا يُمكِنُنِي إِلَّا أَن أَقتَبِسَ رَشِيدَ الضَّعِيفِ لأُنهِيَ قِراءَتي في رِوايَتِهِ الرَّائِعَةِ “قِطَّةُ سِيكِيرِيدا” بِسُخرِيَتِهِ المُؤلِمَةِ والمُتَأَلِّمَةِ، “الحَربُ تُبَرِّرُ وتَمحِي كُلَّ شَيءٍ حتَّى العارَ، وكُلُّ شَيءٍ مَسمُوحٌ فيها في الحرب … لِأَنَّ البَلَدَ في فَوضًى لا تُوصَفُ. فَوضَى الكَونِ ما قَبلَ الخَلْق! … وفي كُلِّ يَومٍ حادِثَةٌ أو كارِثَةٌ، والنَّاسُ مَشغُولُونَ بِأَمنِهِم وغِذائِهِم ومَعِيشَتِهِم، والكَهرَباءُ شِبهُ مَقطُوعَةٍ على الدَّوامِ، والماءُ مُقَنَّنٌ تَقنِينًا قاسِيًا، والبَرغَشَةُ لِكَثرَةِ الأَوساخِ المَرمِيَّةِ في الشَّوارِعِ كَبُرَت حتَّى صارَت بِحَجمِ نَعجَةٍ صَغِيرَة. والنَّاسُ في هذه الظُّرُوفِ تُقَلِّبُ الصَّفَحاتِ بِسُرعَةٍ. تَتَناسَى أَو تَنسَى أو تُؤَجِّلُ، ولا تُرَكِّزُ إِلَّا على الحاضِرِ والمُستَقبَلِ المُلتَصِقِ بِالحاضِرِ مُباشَرَةً. النَّاسُ غارِقُونَ في تِقْنِيَّاتِ بُؤْسِهِم … ”
هل يا تُرَى انتَهَتِ الحَربُ؟ وهل يا تُرَى يُمكِنُ السَّيطَرَةُ على تلك الفَوضَى؟