د. أنطوان الدويهي
(أديب وروائي- لبنان)
ها أنتَ، في قلبِ الصيف، في إهدن التي تُحِبّ، ماثِلاً بين مار ماما، الشهيدِ الصغير، الجميلِ، العفيف، وكرَم، سيَّد الفرسان، المُتَرَجِّلِ عن حصانِه، في الظلِّ العميق، في استراحةِ المُحَارِب. هل كنتَ لتتمنّى مكاناً أفضلَ تُنهي فيه هذا القرنَ شبهَ الكامل، الذي هو عُمْرُكَ، الذي هو أنتَ؟ لا مكانَ يُشبِهُكَ أكثرَ من هذا المكان، ولا مكانَ يرتاحُ إليكَ، وترتاحُ إليه، اكثرَ منهُ.
فما هي، يا أستاذ بدوي، إلاّ إغفاءةٌ ليس إلاّ. إغفاءةُ القِلّةِ النادرة، المُختارة، المؤتمنة على جوهرِ شعبِها وأرضِها وتاريخِها، القِلةِ التي يُمحى معها الحدُّ الفاصل بين الحياة والموت. وما موتُها إلاّ استمرارٌ لانهائي لحياتِها.
في هذا الزمن، زمنِ المخاوف والهواجس الكبرى، زمنِ الانهيار والضِعة، والأفُقِ المُظلِم، زمنِ الإله-المال وخرابِ الضمائر، والأرضِ السائبة، المعروضةِ على من يرغب، زمنِ خرابِ الطبيعة ودمارِ المشهد، زمن انعدامِ الرؤية، والعمى الروحي، في هذا الزمن الذي هو زمنُنا، ما افتكرتُ مرّةً في النفْرِ الضئيلِ من الأفراد، الذين لجأتْ إليهِم روحُ شعبِهِم، إلاّ ورأيتُك معهم وفي صُلبِهم. وما افتكرنا مرّةً، نحن الجماعةِ الضئيلة، في تأليف “هيئة حماية طبيعة إهدن- زغرتا وتُراثِها”، إلاّ وذهبَ فكرُنا، في ما ذهب، إليك.
حسْبُكَ، أنّه كان لكَ شرفُ الريادة، يا ابنَ سليم بو ديب البار، في بيئتِكَ ومجتمعِك، محامياً بارزاً، ومُثقّفاً نيّراً، وأديباً مُشرِقاً، وخطيباً مفوَّهاً، حين ندَرَ كلُّ ذلِك في موطنِك الإهدني. وعلى مدى سبعة عقود، وحتى أشهُرِكَ الأخيرة، ارتفعْتَ مِشعلاً في دنيا العدالة اللبنانية، ما هزَّتَك لحظةً ريحٌ، ولا انتابَكَ مرّةً وهنٌ، حين كانت العدالةُ في لبنان مِثالاً يُحتَذى في الشرق، وحين أضحى لبنان ومؤسساته على ما هي عليه. وحسبُكَ أنّك، في كل ذلك، أحدُ أعظمِ رجالات العدل ورموزِهِ في لبنان في القرن العشرين.
فما تردّدتَ يوماً، منذ صباكَ، في تبني القضايا الأكثر صعوبة وخطورةً في تاريخ لبنان الحديث، ولم تُثنِكَ عن ذلك السلطاتُ القمعية، ولم يُربِكّكَ يوماً تهديدٌ أو وعيد. وأنتَ فارسٌ وحيدٌ على الدوام، بلا حزبٍ يحميك، ولا جماعةٍ تذودُ عنك، ولا عصبيةٍ تنجدك. ولم تكْفِكَ قضايا زمانِك وعصرِك، فحملَكَ هاجسُ العدل إلى الخوض في محاكمات التاريخ الكبرى، من محاكمة سقراط، إلى محاكمة المسيح، إلى محاكمة جان دارك، ً حاضراً في تفاصيلها، وشاهداً عَياناً عليها.
وإلى امتلاكِكَ القانون والثقافة والأدب والخطابة، كانت تلتئمُ فيك كلُّ الصفاتِ الآيلة إلى الانقراض، صفاتِ المحبّة، والإخلاص، والنزاهة، والصدق، واحترامِ الحقيقة الواقِعة، والخفر، والتجرُّد، والانفتاح، والحوار، والتواضع، ودماثةِ الخُلق، والحِسِّ الانساني، والحِسِّ الجمالي، وثقافةِ المشهد، وأرستقراطيةِ الروح.
لن أفتقِدَكَ بعد الآن. لقد تحرّرتَ من القدْر الهائل من التفاصيل، المنسوجٍ منها الكثيرُ من الأفعال الزائلة، وعُدتَ أخيراً إلى حيثُ أردتَ الإقامةَ على الدوام. ومنذ الآن ستكونُ لنا لقاءاتٌ كثيرة. فأنا أعرِفُ تماماً أين تُقيم، في ظِل حجارةِ بيتِ أبيك في إهدن، تُسرِّحُ نظرَكَ، ساعةَ الشروق والغروب، وتحت الشمسِ والمطرِ والثلج، في ساحةِ الكتلة ومحيطِها؛ وفوقَََها، بهيّاً، شامخاً، جبلُ لبنان.