خالد غزال
(كاتب وباحث – لبنان)
يعتبر آرند ليبهارت أهم الدارسين للديموقراطية وأنماطها في العالم الحديث، على امتداد أكثر من أربعة عقود، تابع خلالها تطوّر هذا المفهوم السياسي في مختلف بلدان العالم. في مراحل أولى من كتاباته، اهتمّ بالدول الغربية من خلال كتابه «ديموقراطيات» الذي أصدره في العام 1984 وتناول فيه عشرين نموذجاً من البلدان.
وفي العام 2012، أصدر كتابه «أنماط الديموقراطية» (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ترجمة محمد عثمان خليفة عيد) الذي تطرّق فيه إلى أنماط من الديموقراطية المطبقة في ستة وثلاثين بلداً. يعد ليبهارت أهم من درس الديموقراطية التوافقية قياساً إلى الديموقراطية القائمة على حكم الغالبية.
يقوم التعريف الكلاسيكي للديموقراطية على أنها حكم الشعب أو حكم ممثلي الشعب. لكنّ هذا التعريف يطرح أسئلة في التطبيق العملي: من الذي سيمارس الحكم ولمصلحة أي فئات خصوصاً إذا ما نشب خلاف بين فئات الشعب نفسها وبرزت مصالح واتجاهات متباينة بين مجموعاته وقواه السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
في المفهوم الكلاسيكي، أيضاً، يكون الجواب على هذا التساؤل هو الاحتكام إلى الغالبية، بحيث تشكل جوهر الديموقراطية. لكن منطق حكم الغالبية بات محط نقاش وسجال جوهريين، فالغالبية بتطبيقها الحرفي ستؤدي حكماً إلى حرمان فئات واسعة من الشعب من حق المشاركة، بانتظار أن تتحول الأقلية إلى غالبية في سياق الصراع السياسي والاجتماعي الذي يعدل في موازين القوى. ومن سلبيات حكم الغالبية أيضاً أن يكون مستنداً إلى العددية التي تحسم الصراع وتحرم فئات اجتماعية من السلطة، وهو تحفظ ناجم عن طبيعة تركيب المجتمعات التي تتكون في معظمها من مجموعات متعددة وأقليات متنوعة، ومن تفاوت في أعداد هذه المجموعة أو تلك.
كما أن نموذج الغالبية سيؤدي حكماً إلى حصرية السلطة في يد مجموعات معينة والحد من التنافس الضروري في السياسة. لذا ابتكر ليبهارت مفهوم الديموقراطية التوافقية في وصفه النموذج الأفضل لممارسة المجموعات الحق في المشاركة في السلطة. لعل ليبهارت، كما يوصف، هو أب هذا المفهوم الذي أعطاه جهداً في البلورة، بحيث بات يفرض نفسه على أي نظام سياسي أو دستوري يراد له أن يضمن المشاركة الأوسع في السلطة واتخاذ القرارات.
يرى ليبهارت أن الأنظمة البرلمانية وأنظمة الديموقراطية القائمة على التوافقية يمكن لها أن توفر تمثيلاً أكثر دقة، وخصوصاً بالنسبة إلى الأقليات في كل بلد، بحيث يحمي مصالحها ويحقق لها شيئاً من مطالبها. على رغم وجاهة هذا المنطق، كان كثيرون يجادلون بأن حكومات قائمة على غالبية مكونة من حزب واحد قادرة على صنع سياسات أكثر حسماً وأكثر فاعلية في التنفيذ. صحيح أن تركيز السلطة السياسية في يد قوى انتجتها غالبية محددة وبالطرق الدستورية، يمكن لها أن تنتج سياسات قادرة على اتخاذ قرارات في شكل سريع. في المقابل، لا يعني اتخاذ القرارات بسرعة أنها حكيمة وصحيحة، فقد يكون العكس هو الصحيح. أيضاً، يمكن القول أن السياسات المتماسكة الناجمة عن حكومات الغالبية قابلة للإبطال نتيجة تغير الحكومات وتبدلها من اليمين إلى اليسار والعكس.
من هنا تأتي أفضلية الديموقراطية التوافقية التي توفر الثبات في السياسات الاقتصادية خصوصاً، إضافة إلى أنها توفر اشتراكاً لجميع شرائح المجتمع وتحميلها مسؤولية القرارات مجتمعة، بما يعطي استقراراً أكبر. ولا يؤدي إلى تبدل في الاستراتيجيات الأساسية في البلد. وقد ثبت في أكثر من نموذج، خصوصاً في البلدان الأوروبية أن التمثيل النسبي ومعه الحكومات المكونة من ائتلافات هي أكثر قدرة على صنع السياسات التي تتسم بالثبات والوسطية، كما أن السياسات التي تفرضها حكومة حاسمة استناداً إلى مبدأ الغالبية، هي سياسات سيصب قسم منها ضد رغبات مجموعات يتكون منها البلد.
في المفاضلة بين الديموقراطية القائمة على حكم الغالبية وبين الديموقراطية التوافقية، يبدو ليبهارت أشد انحيازاً إلى التوافقية، ويعطي أمثلة على ذلك تتناول جميع الميادين، الاقتصادية والسياسية والاجتماعية… فيرى أن الديموقراطية التوافقية تتجه إلى أن تكون «ألطف وأرق» شكل للديموقراطية، فهي أفضل في تأمين الرعاية الاجتماعية، وظهر أن لها سجلاً أفضل في مجال البيئة، وفي ميدان الحريات السياسية والعلاقات مع المعارضات، فهي أقل ميلاً في استخدام القوة والزج في السجون، والأقدر على تحقيق تنمية أفضل.
في مراقبة دقيقة لموقع النساء في التمثيل الشعبي والسياسي والمشاركة في اتخاذ القرارات، يؤكد ليبهارت أن نسبة تمثيل المرأة في البرلمانات التشريعية في بلدان الديموقراطية التوافقية هي أوسع بكثير عنها في بلدان ديموقراطية الغالبية. وهذه النسبة من الزيادة انعكست على الوجود في مواقع السلطة التنفيذية والمشاركة في الحكومات، مثال على ذلك أن نسبة التمثيل للمرأة وصلت في السويد إلى 45 في المئة، وفي إيسلندا 43 في المئة، وفي هولندا 41 في المئة.
إن الهدف المركزي من الحكم الديموقراطي هو تأمين المساواة السياسية بين المواطنين. إن الديموقراطية التوافقية القائمة على إشراك كل القوى والمجموعات في حكومات وحدة وطنية هي الحكومات القابلة لتوفير هذه المساواة. ليس الأمر مبسطاً، فهذه الديموقراطية تلاقي معارضات أحزاب وقوى تسعى إلى احتكار السلطة، وتسعى أحياناً كثيرة لحرمان أقليات إثنية وعرقية من حقها في المشاركة، لأسباب تتعلق بالشوفينية القومية والعنصرية. مما يعني أن الوصول إلى هذه الديموقراطية التوافقية يتصل إلى حد بعيد بالتطور السياسي والاجتماعي والثقافي في كل بلد، بما يسمح بالاعتراف بالآخر، في حقوقه السياسية وخصوصياته، وبما يسمح بإعطاء الأقليات حقها في المشاركة. وإذا كانت الدول الغربية قد حققت خطوات واسعة في هذا المجال، فإن البلدان النامية، ومنها الدول العربية، لا تزال تصارع في هذا المجال لتحقيق المساواة السياسية في ظل النزوع إلى احتكار السلطة من فئات تتسم عادة بالغلبة العددية. طرح موضوع الديموقراطية التوافقية في كل من العراق ولبنان خلال السنوات الماضية، لكنّ الوصول إليها لا يزال يصطدم بنزوع قوى طائفية ذات غلبة عددية تمنع قيام هذه الديموقراطية التوافقية.