وفلسطين حاضرة في القلب والنص
حوار: هدى الدلو
(جريدة فلسطين)
منذ كانت طفلة، تركت العنان لقلمها ليترجم مشاعرها، ويخطّ ما يجول بخاطرها عن مجتمعها، ولم تنس في غمرة ذلك القضية الفلسطينية، فأعطتها قدرا من حروفها وسطور رواياتها، متحدّية معيقات مجتمعية كانت تحول بين الفتاة وأحلامها.. هي الروائية الجزائرية عائشة بنور التي قررت أن تعبّر بقوّة عن الخطوات الإنسانية المتعثرة في درب الحياة، والتي صدمتها الظروف، أو خانتها لحظات الفرح، وأماطت اللثام عن أولئك الذين مروا بتجارب قاسية، وعن إنسانية متعبة ومظلومة، عن أوطان ضاعت وسط الزحام..
في حوار مع “فلسطين” تحدّثت بنّور عن علاقتها بالكتابة..
رحلة الكتابة
تقول ضيفتنا الروائية الأربعينية: “ربما وُلدت لأكتب، كنت شغوفة جدا بالقراءة والكتابة، أبي رجل يحب القرآن الكريم، وأهله يتنفسون كتاب الله من الأجداد إلى الأحفاد، كان معلم قرآن في قرية فلاحية (المعمورة بسعيدة)، وقرأت القرآن الكريم على يد أبي في (الشريعة)، والشريعة هو اسم المدرسة القرآنية في الناحية، كانت تلازمني لوحة ومدواة (قرطاس) وقلم قصبي بهما نقشت حروفي الأولى على صدر هذه اللوحة الخشبية”.
كان رسم أبيها لحروف القرآن يستحوذ على إعجابها، وفتنتها تلك اللوحات المزينة بتشكيلة من الرموز والألوان والخطوط، وتضيف: “أبي هو الذي فتح لي أشرعة الحرية بداخلي من خلال سرده لقصص في القرآن الكريم بعد صلاة المغرب، سكنتني روح الانبهار حين عرفت قصة سيدنا يوسف وسليمان وأهل الكهف والخضر عليهم السلام، تشبعتُ من خلالها بالتشويق والخيال، ولعبت القراءة الجادة والمتنوعة دوراً في تشكيل وعيي وصقل موهبتي فيما بعد”.
كبرت وكبر معها حلم الطفولة، وجعلت الدراسة وسيلة لتحقيق أحلامها، تقول: “تميزت هذه المرحلة بنشاطي الكثيف والمتميز، إذ كنت مولعة بالأدب والتاريخ والثورة الجزائرية، ولطالما شاركت في نشاطات ثقافية أثناء فترة الدراسة، وقدمت محاضرات عن الحركة الوطنية الجزائرية”.
في مادة التاريخ كانت “بنور” تجد المتعة الثقافية التي تحفر في الذاكرة، وتتمثل في متعة القصص، فتتحول عندها إلى تشكيلة أدبية وفنية بشكل أو بآخر، والغوص في أعماق تلك العصور والكشف عن تحف جمالية وفنية رائعة عن حياة الناس ومواقفهم وبطولاتهم وعواطفهم، وهو ما فتح لها أبواب الحلم الجميل بالكتابة، وفقاً لقولها.
وتضيف: “مرحلة المراهقة تبعث في النفس القلق والتوتر والتمرد وعدم الرضا، وربما كان حالي هكذا لأنني تمردت على الأعراف البالية التي تعيق الحرية والتفكير، وبالنسبة لي، فلا أحد كان يهتم بما أكتب أو ما تفيض به مشاعري، لأن ذلك يعتبر عيبًا وعارًا في قرية صغيرة”.
أولى كتاباتها كانت وهي في الثالثة عشر من عمرها، وعن هذه المرحلة تتحدث: “كنت أكتب، وأقرأ ما أكتب، وكانت الموسيقى تشاركني في كتاباتي، والوحيدة التي كانت تؤنسني في وحدتي، ثم حاولت تخطي حاجز الخوف بداخلي وأول من قرأ لها هو أستاذي في المرحلة المتوسطة، وشجعني على المواصلة، ثم في المرحلة الثانوية وجدت الدعم والتشجيع من مدرسيّ الذين كانوا يؤمنون بموهبتي، بالإضافة إلى الحلم، ذلك الشيء الجميل الذي يراود الانسان ويؤنسه في وحشته، ولتحقيقه لابد من العمل والمثابرة وتحدي الظروف القاهرة، فكانت الكتابة بالنسبة لي كالهواء، لا يمكن الابتعاد عنها، وحتى وإن لم أمسك القلم يبقى هاجس الأفكار يلازمني وشحنة الكتابة تطاردني حتى أسجل ما يختلج بداخلي على الصفحة البيضاء”.
وتبيّن بنور أنها لم تكل أو تمل من تنمية موهبتها من خلال القراءة، وخاصة أن ميولها الأدبية هي التي كانت تفرض نفسها على القراءة، وكان للقراءة دور آخر تمثّل في أنها عززت ثقتها بنفسها.
وتوضح: “سبب اهتمامي بالرواية يعود إلى أنني أجد نفسي أكثر في النوع الأدبي، حيث الحرية والصورة الجميلة التي تجسد الواقع الذي التصق به في مختلف مناحي الحياة، وتأخذ أبعاد المجتمع الذي يسكنني وجعه، وتكشف الستار عن قيم اجتماعية وأدبية أحاول تفكيكها دون اختصار، وتفتح نافذة على المستقبل الذي أحلم به، وتخلق فكرًا متجددًا يتفاعل مع مجريات الأحداث في المجتمع الذي أنتمي إليه، والوعي بالتراكمات المختلفة والمتناقضة التي أجد نفسي فيها كثيرًا دون أن تحدّ من حريتي كما القصة”.
المجتمع وعاداته
وترى أن “المواضيع والمواقف هي التي تفرض نفسها على الكاتب، والفـرد ابن بيئته بمحاسنها ومساوئها، ويكتسب منها سلوكيات اجتماعية بفعل التعود والتكرار، حتى أضحت أنماطا سلوكية متوارثة فرضت سلطتها على المجتمع وأصبحت ممارستها لاشعورية تؤسس لفكر اجتماعي قاهر وعنيف، ونسق اجتماعي تتداخل فيه الأدوار، وبطبيعة الحال ينعكس ذلك على أفراده”.
وتصف بنّور المرأة بأنها “الضحية الأكبر”، مفسّرة: “هي ضحية السلطة الذكورية، وفي نفس الوقت البيئة الاجتماعية بعاداتها وتقاليدها”.
وفي الوقت ذاته تؤمن بأن المرأة جزء من التراث الثقافي للمجتمع لابد من إبرازه والمحافظة عليه كموروث ثقافي يبرز خصائص المجتمع، ولذا فقد أخذت المرأة الحيز الأكبر والاهتمام منها.
وحصلت ضيفتنا على العديد من الجوائز المحلية والعربية والدولية في مجال القصة والرواية، كقصة “عذرية وطن” والتي ترجمت للغة الفرنسية، و”أنين عاشقة”، وفازت بجائزة نعمان الأدبية لرواية “اعترافات امرأة”، وقصة “الفتى العكاوي” التي فازت في مسابقة منتدى المثقفين في أمريكا وكندا.
فلسطين والجزائر.. والعامل المشترك
منذ أن وعت وهي تحمل في قلبها حب فلسطين، فأعطتها نصيبا من كتابتها، وأول نص قصصي كتبته عن فلسطين كان بعنوان “جهاد”، أهدته لروح الشهيد خليل الوزير “أبو جهاد”، الذي استشهد عام 1988، وآخر بعنوان “دموع الشبح الأزرق”، وكل أعمالها الأدبية المنشورة لا تخلو من الوجع الفلسطيني.
وتقول: “ألم فلسطين فجـر بداخلي شلالًا متدفقًا من شجون الذكريات على الوجع العربي، فولّد رواية جديدة ستصدر قريبا بعنوان (نساء من الجحيم)، وهي رواية تخاطب العقل والوجدان الإنساني، وتحمل حكاية الحب والنضال للمرأة وللقضية، وترسم صورة الشخصية الفدائية، المناضلة، وتتحدث عن المقاومة للاضطهاد بكل أنواعه من خلال الشخصية المحورية في النص وهي (غسان كنفاني)”.
ومن خلال الرواية، حاولت “بنور” قدر المستطاع أن تزاوج بين نضال المرأة الفلسطينية، والمرأة الجزائرية أثناء كفاحها ضد الاستعمار الفرنسي على لسان المناضلات “جميلة بوحيرد”، و “مريم بوعتورة”، “فضيلة سعدان”، كما تقول.
وتؤكد بنور أنها تسعى إلى الارتقاء بالنص الأدبي، والمساهمة في إيصال صوت الإبداع النسوي الجزائري خارج حدود بلادها، متمنية أن تكون قد ساهمت بروايتها الجديدة “مذكرات نساء في الجحيم” في لم شتات الذاكرة الفلسطينية، ومــد جسور التواصل والمحبة حتى يتسنى للقارئ العربي التعرف أكثر على مبدعي الأمة، وعلى إنتاجهم الأدبي الذي يصب في رافد الإنسانية والسلام.
الروائية عايشة بنور روائية تستمد مادتها من واقعها الإجتماعي ولكن بمسحة فنية رفيعة يتداخل فيها الواقعي بالخيالي والموضوعي بالفني فتغيب تلك الحدود الصارمة بينها ويتماهى البعدان ليرتسم افق دلالي يجد القاريء نفسه امام نص جديد وافق جديد وتلك هي متعة قراءة نص عايشة بنور؟