محاضرة اـ جان داود في مؤتمر الشبيبة
حاضر العميد البروفسور جان داود عن “دور الفن في بناء السلام في زمن الوثنية الجديدة”، في مؤتمر “الشبيبة الدولي للسلام” الذي ينظمه “نادي الشرق لحوار الحضارات” في الجامعة اللبنانية في مجمع الحدت الجامعي ويضم حوالي اربعماية مشاركا من ثلاثين دولة.
وتناول داود في المحور الأول من محاضرته مسألة “نقاء الشباب في عالم فاسد ومسؤولية الجامعات والمؤسسات التربوية ووسائل الإعلام والجمعيات الشبابية والأحزاب حيال هذا النقاء”، مؤكدا ان “النقاء المقرون بالوعي والمعرفة العميقة هو سلاح الإنسانية ضد العجز أمام حروب المصالح والفساد، والنقاء المقرون بالوعي والمعرفة الإيجابية هو سلاح الشباب ليحموا أنفسهم في معركة استعادة الحياة وبناء الإنسان”.
وقال: “عشنا في شبابنا النقاء حتى البراءة، وفوجئنا بأن البشرية ليست ما هي عليه في أحلامنا. وفوجئنا أننا في زمن ما بعد الحداثة نعيش استباحة للقيم وتصنيعا لقوانين بحسب الطلب وبما يخدم المصالح والفساد. أعتقد أن البشرية تدخل في وثنية جديدة: في مسميات دينية بلا قيم، إذا بلا دين. في مسميات حضارية بلا قيم، إذا بلا حضارة. في فنون ومسميات ثقافية بلا قيم أيضا، إذا بلا فنون وبلا ثقافة”.
واعتبر ان “عالم الاستهلاك يريد الشباب سلعة وأرقاما وقروضا مصرفية، ونحن نريد كلا منكم قيمة وحالة بحث عن الجميل. عالم الاستهلاك يزعم الديموقراطية والتشريع النظيف ويقول بالحرية الفردية المزيفة ويأخذ الناس إلى العبودية: عبودية المادة. والسيء في الأمر أن الناس مخدوعون ويصفقون لهم (ولا أتكلم عن لبنان. الفاسدون في لبنان أو خدام الفساد في لبنان حلقة في مشروع العولمة التي نريدها بناءة والتي يريدونها أمبراطورية مصالح)”.
اضاف: “يفضح أكثر من فيلم وثائقي الصراع الخطير الذي يرتدي أقنعة العلم، وعلى سبيل المثال، ليس هناك من عالم على وجه الكرة الأرضية لا يدرك ولا يحذر من الاحتباس الحراري ومخاطره. ويفاجئك أصحاب المصالح بأن لديهم مجموعة من العلماء المزعومين الذين ينادون عكس ذلك، وقد نجح هؤلاء في فرض وجهة نظرهم. من هم هؤلاء: عالم مزعوم يحمل إجازة أو ربما دكتوراه في الفيزياء أو الكيمياء أو حتى في العلوم السياسية، ومجموعة أسماء ليست بذات صفة علمية، إلا أنهم يوقعون وثيقة وينشرونها عبر الإعلام ويشكلون جزءا من لوبي ضاغط لخدمة المصالح وعدم السماح بتشريع يحمي البيئة. وقد ربحوا المعركة وناوروا وراوغوا وحصدوا المليارات على حساب أرضنا وبيئتنا. الأمر مماثل في حال بعض شركات التبغ والمدافعين عن والصحة العامة. هناك مأجورون لخدمة المصالح، وهم لا يخجلون وقد سئل أحد هؤلاء في فيلم وثائقي: هل تقبل بالعمل لمنظمة غرين بيس، فكان جوابه: بالطبع لا فهم غير قادرين على الدفع لي بمقدار خصومهم. الشرفاء في الغرب أيضا من العلماء مغلوب على أمرهم، وهناك فاجر يزور رأي العالم وبالتالي يسوغ التشريع الذي يخدم الفساد والمصالح”.
وتابع داود: ” أدعوكم وأدعو من لم يغرق من السياسيين في الفساد، إلى النقاء. أدعو إلى النقاء الإنساني في مسيراتكم العلمية والثقافية والتواصلية وفي فلسفة الكينونة. النقاء والكرامة إن اقترنا وكانا السيرة والغاية تنجح في إخراج العالم من كبواته وحروبه ونبني السلام. أغلب النزاعات والحروب خططت لها وصنعتها المصلحة. فأدعوكم إلى اللانفعية والنقاء في حواركم وإلى البحث والالتزام بالقيم التي تجعل العالم مكانا أفضل لأحلامكم وطموحاتكم وعيشكم بكرامة. ولنقرأ معا واقع البراغماتية والمادية ومخاطرهما فنؤسس لتطلعات سامية راقية والتزام متبادل بقيم ترتقي بالحياة وتعيد بعض النبل إليها. وأؤكد أنه طالما استشرى الفساد سنكون مدعوين بقوة أكبر إلى مزيد من النقاء والمسافة. ويبقى حصننا الوعي والإبداع”.
وأعطى داود، في محاضرته، حيزا واسعا لمسألة رأى أنها “تهدد المجتمع وأمنه وقيمه وأطلق عليها تسمية “الوثنية الجديدة”، وقال: “في هذا الصدد، تكمن الوثنية الجديدة بشكل رئيس في سقوط القيم وغياب المضمون الروحي للخطاب الديني واستغلال الدين والفن والتربية والإعلام في خدمة مشاريع ومصالح صغيرة ميتة. والوثنية الجديدة تشرع لنفسها على المستوى الدولي وعلى مستوى بعض المجتمعات. وإن أخطر ما في الأمر أن هذه الوثنية تنشأ في بعضها من رحم فساد يضرب بعض رجال الدين، فلا يصلحون كقدوة ويباتون ضد قيم دينهم ويؤسسون للابتعاد عن القيم”.
وأكد “مسؤولية التربية في مناهضة العنف وبناء السلام ومسؤولية الأكاديميين في تكوين روح للألفية الثالثة تسقط الوثنية والتبعية في النفوس”، مشيرا الى دور الإبداعية في الحياة، وقال: “أعتقد، وأعيد التفكير في الأمر، إن كان من سبب مقنع ان التكوين الذي يقولب أو يصنع أناسا محددين ومحدودين ليس بتكوين حر وصاف، ولا هو بتكوين أحرار. إن دورنا هو تحرير الفرد من كل العوائق وتمكينه من طاقته الإيجابية وتحرير المبدع الذي هو كل إنسان بالقوة ودفعه إلى التمرد والبحث، فلا إبداعية في التبعية أكانت تبعية المدارس أو الأشخاص أو السقوط أسرى التقنيات المعلبة. لا يسمح التكوين الحق بوضع نماذج مسبقة والعمل على الانتهاء إليها أو الإنتاج على أساسها والتقييم بموجبها فيكون الناس تحت عنوان الأسوياء إن هم انتهوا إلى الانخراط أو الانسجام معه أو تحت مظلتها”.
وكان المحور الأخير في محاضرة داود عن الحلول، فطرح التربية الإبداعية والفن كمدخل لبناء السلام، مؤكدا على فلسفة تكوين تلتزم بما دعاه القداسة المدنية والمنهج الصوفي ومفردة صوفية في طرحه لها تحديدها الخاص، وقال: “منذ العام 1986 طرحت مدخلا إلى تكوين الممثل ما دعوته بالمنهج الصوفي القائم على اللعب، الجسد، الإبداعية، الدراماتورجيا (بمفهومي للدراماتورجيا في تشعباتها: دراماتورجيا الممثل، دراماتورجيا الجسد، دراماتورجيا المشاعر….). في اللعب الجسد مدخل، واللعب بما أطرحه مدرحي. ومن مفاصل فلسفة العمل نظريا وعمليا في اللعب تقديم الإبداعية نفسها.
اضاف: “في اللعب لا نهتم بالمنتج النهائي، اللعب الحاصل هو الأساس والغاية. والمنتج الفني الكائن باللعب هو بعفويته نتاج لاوعي، يبدو وكأنه وليد صدفة، ولكنك لن تبلغه قبل إزالة المعوقات أمام إبداعيتك وصفائك. في منهجي لا يشكل المنتج الفني أو سواه هدفا أو غاية بذاته، فلا ينشغل اللاعب بالنتاج الإبداعي ولا يرتبك ولا يوجه لعبه من أجل المنتج ولا يفقد عفويته، فلا يعيق رمي الداخل إلى الخارج، ولا رمي الذات المطوية إلى العلن، أو إلى الضوء الذي ينقي. فيكون صفاء واستصفاء، وتكون مصالحة مع الذات، ولا تكون حاجة لتدخل معالج بالمعنى التقليدي أو المعنى المتداول لمفردة “علاج”. كما أن حالة الصفاء هذه التي يحمل إليها الممثل، بالإضافة إلى تحفيز إبداعيته وقدراته الكامنة كممثل صوفي التكوين ومبدع تعمد بفلسفة المنهج ومفاهيم وتقنيات دراماتورجيا الممثل وبات في حال جهوزية لحياة مهنية كممثل محترف”.
وتحدث داود عن بعض مكونات منهجه، فقال: “اللعب عامة، والفن برأيي لعب، هو حال استباق، واحتراز، ووقاية مسبقة، وتعزيز مناعة، وجهوزية للمواجهة واستعداد للتعامل مع غير المتوقع لأن في اللعب إبداعية. والإبداعية جهوزية للتعامل مع المتوقع بحركة غير مسبوقة ومع اللامتوقع بما يفضي إلى جميل وارتقاء. في اللعب أيضا تمرين لكسر القواعد في إطار القواعد التي تحمي، وفيه استعداد للمجازفة والخروج من الآمن في بعض القواعد والمسلمات. وفي اللعب بحث مستمر عن مساحة حرية جديدة تحت عنوان اللعب. كما أن اللعب هو مختبر للإبداعية”.
وأضاف: “الاحتراز النفسي والمناعة قائمان بشكل أساسي على نقاء تلك البداءة والتمكن منها والاستعداد لما بعد الوعي المدرك بوعي جديد. الاحتراز النفسي والمناعة والإعداد والاستعداد للمواجهة قائمان في الإبداعية واللعب المغمسان بالإيجابية والمحبة والمرتبطان بالخير الكوني”، محذرا من “دور الساحر الذي يستمر في احتلال العقول منذ بدايات أسئلة الإنسان الغيبية، وهو ارتدى اليوم ربطة عنق، انني أريد للجماعة أن تتحرر من الساحر الذي حول كل فرد في القبيلة إلى متلق”.
وتابع: “في الاحتفال، عطل الساحر إبداعية الفرد وعطل عقله ومشاعره أو أسكن عقله ومشاعره وعقيدته في ذات الفرد، فباتت حرية الفرد حرية واهمة وفي تبعية وعصبية. وأريد من عملي في المسرح كليته الممكنة ومساهمته في تكوين الخصوصية المطلقة والتميز، أريد استعادة كل من أفراد القبيلة جذور ذاته وتحرره لينطلق لاحقا في حركة الجماعة بحرية وليس بتبعية وعصبية غبية واحتفالية قدس الساحر فيها نفسه. والساحر في التربية ملقن وعدو للابداعية قرينة الوعي”.
وختم داود محاضرته مشددا على “دور الفن في التصدي للوثنية الجديدة، وفي بناء المواطنة والسلام”، ومؤكدا “أهمية النقاء الإنساني الذي ربطه بالتربية الخفية من جهة وبنقاء المكون – المعلم من جهة أخرى”، داعيا الى “قداسة مدنية ونقاء للمكون-المعلم. إذ، لا يربي مبدع شخصا نفعيا تبعيا. ولا يبني ممثل ولا إنسان بائع أسلحة أو مراب، ولا يبني السلام راعيا يربي القطيع لذبحه، وبالطبع لن يبنيه بائع أسلحة. والمربي غير النقي والفارغ والفاسد الذي يؤله نفسه في الوثنية الجديدة أخطر من المخدر نفسه”.