الشعر درب إلى السلام اليقيني ونعمة للتجدّد
في ديوان” اعترافات جامحة”
لـ نهاد الحايك
د.ناتالي الخوري غريب
نهاد الحايك شاعرة اللحظة الناريّة، بهذه الكلمات يعرّف أنسي الحاج بالشاعرة صاحبة ديوان اعترافات جامحة الصادر عن دار سائر المشرق، وقدّمه الشاعر الدكتور جورج زكي الحاج، بعنوان: كان مجيئها من علُ، الذي رأى إلى شعر نهاد الحايك أنّه بحثٌ مضنٍ مشوب بالألم والحرقة، كان وليد الرجاء، ابن الإيمان، الذي لم يستسلم أمام كثافة الهموم، وبقي مصرًّا على الخلاص بواسطة الشعر، ص7.
بعد المقدّمة، تستهلّ الشاعرة ديوانها بتصدير هو أقرب إلى بيان شعري، أو قل نظرتها إلى الشعر في إطار الإبداع والتلقّي، فهي لا ترى إلى الشعر ترفًا، بل هو جسر إلى ولادات جديدة ونور ينبثق من الضباب ليضيء الطريق ومدماك أساسي في صرح الثقافات، ص19، وبخاصّة أنّها تنتمي إلى جيل صدم بوحش الحرب ينهش جسد الأرض ويزهق أرواح الناس، ويبدّد الأعمار هباء ويسمّم دم الأحلام، ص 20، لتصبح كتابة الشعر لديها فعل تفاؤل وعلاقة عشق من دون أن تكون مهنة أو التزامًا، ص 21.
بحث عن معنى الحياة
قصائد نهاد الحايك بحث عن معنى الحياة على الرغم من مرارة الحروب، بحث عن الخلود على الرغم من الإقرار بالفناء، خلق تفاؤل من رماد الذاكرة ، إعادة الجدوى الى الكلمة في زمن اللاجدوى، بحث عن قارئ يحيي النصّ حين يتورّط بالقراءة كما تورّطت هي بالكتابة.
جموح الاعتراف في العنوان ينبئ عن ثورة ما عادت الشاعرة بقادرة على إخمادها، فجّرتها غربتها عن الوطن، لكنّها ثورة عاقلة وناضجة، يتحكّم بها العقل، حتّى أحلامها يتحكّم بها الوعي، ليترجَم الجموح في ديوانها من باب الإصرار على البوح شعرًا. فاعترافاتها أقرب إلى روح تقصّ سيرة خيباتها ومواجعها وطموحاتها الضائعة، في الحبّ والوطن والكلمة، لإعادة صوغها من جديد.
هي اعترافات نعم، لأنّ الشعر عند نهاد الحايك تجربة كيانيّة تهزّها فتخرج ما في أعماقها في حالة عري كلّي. فاللافت في شعرها أنّها تعيشه بالكليّة، فتعبّر عن وجع كيانيّ عند الفراق، وحبّ كيانيّ عند اللقاء، وغربة كيانيّة في البعد عن الوطن، وتوق كيانيّ حتى النزف، لا تعيش الشاعرة أوساط الأمور، حتى السلام الذي تصبو إليه، لا ترضى به إلاّسلامًا يقينيًّا، ص 91.
ونهاد الحايك تنشد في كتابتها التناغمَ تعويذةً من كلام الحبّ ليصبح الكون قاموسًا للمحبين، ص80 وهو طموحها، فالحبّ في شعر نهاد الحايك نعمة للتجدّد، ومع تجدّده هو ثبات الانتماء الذي تصبو إليه، وهو القادر على إنهاضها من رماد الضحر، القدرة المحيية، فالشاعرة لديها من الطاقة لتنهب الحياة تبدّلاً وسفرًا، ص85، ولتنتصر به على ما فات من وقت لا حبّ فيه: آه لو يعكس الزمن/لنرمم الوقت المبدّد/بأيادٍ سعيدة/ص90، هو الحركية التي لم يُرضِها سكون الوحدة، حركية متفجرة في كلام الحب، ذخيرة لدحر ألوية الغربة ص86.
فعل خلاص
وبذلك، يصبح الشعر لديها فعل خلاص، لأنّه ملاذ تلجأ إليه لإيمانها بقدرته على تجاوز الأقدار، إيمانها بأنه ميناء، بأنّه سراج، بأنّه وطن مهما طافت سيكون وسادتها التي تلقي عليها احتضارها، ص 98، إذ أنّها تجعله تكثيفًا للحواس القادرة على استرجاع من غابوا واستحضارهم عند تجمهرها حول الذات وتكوّمها، والاستكانة في أحضان الأب والجدّة والوطن والأصول.
وهو ليس فعل خلاص وأملا بالبقاء تريد أن تكتب به فقط مسوّدة العمر من جديد، ص 110، وليس رغبة في الفهم فحسب، بل هو سلوتها وفتنتها وعشقها ولعبتها المشغولة من خرز الحروف، ص 99، وألوانها، ترسم بها رقصتها ووجعها وحيرتها، ص99، لتخبر به عن لعبة العناصر المشتتّة في محاولة إلى ضمّها، تنشد استقرارًا لا تجده بعد دوخة اللف والدوران، حول الذات والوطن والكون، وعلى الرغم من كلّ تمرّدها، ومحاولات الاصرار على…تنتهي بخيبة الواثق المستسلم للعدم:لكنني غبارٌ غبار/ يحوّم في فلك الأبد ص 129.
وإن كان لا بدّ من كلمة ختام لهذه العجالة، فليس أفضل من كلمة الشاعر جورج جرداق التي تزيّن غلاف الديوان: ما أندر أن نجد الفنّان الصادق الذي تكمن في ذاته أصالة الكائن الحيّ. ونهاد الحايك من هؤلاء النادرين، وفي ذلك ما يمنح نتاجها الشعري ميزة رئيسيّة من ميزات النتاج الفنّي.
*****
(*) جريدة الأنوار 7-4-2016.