منار علي حسن
منذ ان بدأ وعيه يتفتق على الحياة، عشق ابن المنيا (مصر) الدكتور إسماعيل بهاء الدين سليمان السينما، وراح يتردد عليها ويتابع بدهشة الأفلام التي تنم عن عظمة العقل البشري في ابتكار صور ومشاهد تمرّ على الشاشة وكأنها حياة كاملة في حد ذاتها. ومع السنوات، بقيت السينما تحت انظاره وازداد عشقه لها، وما إن انتهى من دراسته في ثانوية المنيا، التحق بأكاديمية الفنون في المعهد العالي للسينما في مصر وتخرج فيها.
بعد ذلك أخذته الحياة إلى ضفاف أخرى، فتبوأ مراكز رفيعة في مصر وفي خارجها، من بينها رئيس القسم العربي في إذاعة الأمم المتحدة ومقرها نيويورك، وأستاذ في كلية الإعلام في جامعات مصرية… أنجز مشروعه الضخم «موسوعة الشاشة الكبيرة» الثنائية اللغة (مكتبة لبنان ناشرون)، حول تطوّر علاقته بالسينما والمنهجية التي اتبعها في وضع الموسوعة ومكانتها في المكتبة السينمائية العربية كان الحوار التالي معه.
كيف ولدت فكرة “موسوعة الشاشة الكبيرة”؟
عندما قررت تَرْكَ وظيفتي كرئيس للقسم العربي في إذاعة الأمم المتحدة في نيويورك، والتفرغ للترجمة والكتابة، كان طبيعياً أن تتوجَّه بوصلةُ خياراتي نحو مجال الدراسات السينمائية. فشرعتُ في الإعداد لمشروع ترجمة عدد من الكتب التي تتخذ من السينما موضوعاً لها، سواء منها ما يعود بالقارئ إلى الجذور النظرية للسينما كفَنّ، أو ما يقفز به إلى مستقبل السينما كصناعة.
انتهيتُ يومها إلى اختيار خمسة من الكتب الحديثة، وعندما بدأتُ في مراجعتها لاختيار بأي منها أبدأ مشروعي، وجدتُ أنها تزخر بمُصطلَحات متخصِّصة لا يمكن العثور على ترجمة جاهزة لهل، ناهيك عن شرح، لكثير منها، في القواميس العادية الثنائيةِ اللغة. ومن ثمّ، كان لا بدّ من اللجوء إلى القواميس أو الـمَعاجِم المتخصِّصة. وهنا، وجدتُ نفسي أمام حقيقة هي أن المكتبة العربية لا تتضمَّن معجماً سينمائياً ثنائي اللغة، إنكليزي/عربي، سوى “معجم الفن السينمائي” الذي كان قد كتبه كل من الأستاذ أحمد كامل مرسي والدكتور مجدي وهبة، ونشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1973، ولم تُعِد طباعتَه رغم نفاد جميع نُسَخِه.
لكن هذا المعجم الذي يعكس جهداً رائعاً، قد تخطاه الزمن للأسف الشديد، بسبب مرور أربعين عاماً على صدوره. وأربعون عاماً في عمر السينما هي دهر طويل، خاصةً مع دخول السينما عالم التقنيات الرقمية.
ساعتَها، أدركتُ حاجةَ المكتبة العربية الماسّة إلى معجم سينمائي ثنائيِّ اللغة، يكون أداةً في يد مَن يرغب في معرفة معنى المصطلحات السينمائية الإنكليزية المتداولة في الكتب والدوريات ومواقع الإنترنت المتخصِّصة، ويكون أيضاً مرجعاً لكل المفاهيم والنظريات والتقنيات والمدارس السينمائية.
ولدى النظر في القواميس السينمائية الأميركية والبريطانية لاختيار أكثرها شمولاً وترجَـمَــتِه، لاحظتُ أن تلك القواميس تلتزم بفكرة التخصُّص التي يتبنّاها الأكاديميون الغربيون بشكل عام، والأميركيون منهم بشكل خاص. فمنها ما يركِّز على ما يحتاجه دارس السينما دراسة أكاديمية، أو ما يحتاجه السينمائي في حياته العملية، أو التعريف بالأجهزة والمعدّات، أو شرح الـمُصطلَحات النظرية، ولكن في إيجاز شديد. هنا، سقطَتْ فكرتان في آنِ، فكرة الترجمة وفكرة القاموس، وولدت فكرتان بديلتان: التأليف والموسوعة.
ما المعايير التي اعتمدتها في وضع الموسوعة، وكم من الوقت استغرق تنفيذها، خصوصاً أنها تتضمن جوانب الفن السابع كافة من تاريخ وتقنيات ومعدات ومدارس ونظريات وسيميائيات؟
كان قراري منذ ولادة فكرة الموسوعة، أن تكون موسوعة بالمعنى الأكاديمي للكلمة، أي شاملة ومفصَّلة، بحيث تشمل كل ما يتعلق بالسينما كفَنّ وصناعة منذ لحظات ما قبل ميلادها إلى لحظة الدفع بالمخطوطة إلى المطبعة، وأن يتم التعامل مع كل مدخل من مداخلها بأكبر قدْرٍ ممكن من التفصيل والتأصيل، خصوصاً في ما يتعلق بالموضوعات ذات الطابع النظري، أو التنظيري، وألّا أكتفي بالعرض فقط، بل أن أتدخَّل بالتعليق على ما هو قائم ومناقشة ما هو مطروح، كلما لزم الأمر.
وهكذا بدأَتُ بتجميع ما تتضمَّنه قواميس السينما المنشورة ومواقع الإنترنت السينمائية الأكاديمية من مصطلحات، فكوَّنتُ قائمة من 13553 مدخلاً. وأثناء عملية الكتابة، استبعدتُ بعض المداخل وأضفت مداخل أخرى. وبعد أربع سنوات كاملة، صدرت الموسوعة متضمنة 8866 مدخلاً، تُرافقها 612 صورة.
استعنتُ خلال كتابة الموسوعة بأكثر من 150 مرجعاً باللغة الإنكليزية، وأكثر من 40 مرجعاً باللغة العربية، وعدد من المراجع المكتوبة باللغة الفرنسية. وهنا أود أن أشيد بالجهد المشكور الذي بذلته الكاتبة اللبنانية الصديقة نهاد الحايك لمساعدتي على الاستفادة من بعض المراجع المكتوبة باللغة الفرنسية التي لا أجيدها، وذلك بالإضافة إلى دورها في مراجعة النص والتدقيق فيه، حيث سخرت خبرتها الطويلة في المراجعة والتحرير في إطار عملها على منشورات الأمم المتحدة، لخدمة هذا العمل وضمان اتساقه وتنسيق أجزائه على نحو يفي بمعايير النشر العالي الجودة. ولا أبالغ عندما أقول إنه ما كان من الممكن أن تخرج الموسوعة بالشكل الذي خرجت به، دون هذه الإسهامات الرائعة.
غرام ساحر
هل اكتشافك السينما باكراً، أي في عمر صغير، ساهم في حماستك لوضع هذه الموسوعة؟
بالتأكيد، فمن بين كل ما مارَسْتُه من مِهَن في حياتي، تبقى السينما الأقرب إلى قلبي. ومن بين كل ما شاهَدْتُه على مدار حياتي، وعلى امتداد أربع من قارات العالم، تبقى تجربةُ مشاهَدة فيلم سينمائي، التجربة الأكثر إثارة بالنسبة لي. فقد وقَعْتُ في أسْرِ السينما منذ لحظة تعرُّفي عليها لأول مرة على شاشة سينما الأهلي في مدينة بني سويف صيف عام 1960، ولم أفلت من أسْرِ هذا السحر حتى اليوم، بل إنني لم أحاول للحظة واحدة أن أفلتَ منه. فالسينما بالنسبة لي، هي أروعُ ما تفَتَّقَت عنه عبقريةُ الإنسان المخترع، وأروع ما يفجِّر عبقريةَ الإنسان المبدع.
من أبرز مميزات الموسوعة أنها نتاج عمل أكاديمي جاد ومنظم، فكل صورة وكل معلومة موثقة، هل تؤسس هذه الموسوعة لدراسات شاملة عن فن السينما التي تفتقر إليها المكتبة العربية، وهل تلبي الموسوعة فضول المتعطش إلى الثقافة السينمائية؟
نعم، فقد أردتُ، منذ البداية، ألا تكون هذه الموسوعة مجرد مرجع وقتي لمن يبحث عن معنى مُصطلَحٍ ما، بل أن تكون مكتبةً سينمائية مصغَّرة بين دَفَّتَي كتاب واحد، ينتقي القارئُ من بين موضوعاتها ما يشاء، وقتما يشاء، لقراءته، وكأنه يقرأ دراسة موجزة حول موضوعٍ ما. كما أردتُ أن يكون لها، بلُغَةِ السينما، جمهورٌ عريض، يشمل الطلاب الذين يدرسون السينما في الدول العربية وخارجها، والباحثين الذين يُعِدّون أبحاثهم ورسائلهم في سياق الدراسات العليا، والمحترفين الذين يسعون إلى البقاء على صلة بأحدث تطورات السينما من خلال الكتب والدوريات، بالإضافة إلى تلك النوعية الخاصة من عشّاق السينما، الذين يتجاوز عشقُهم المواظَبة على مشاهَدة الأفلام، إلى الحرص على متابعة كيف ولماذا تُصنع الأفلام بالشكل الذي يشاهدونه.
نلاحظ أن لكل عنصر يتعلق بالسينما تفسيراً، من الكلاكيت إلى كاميرات التصوير وغيرها… من أين استقيت التعريفات التقنية؟
تلك التعريفات هي حصاد أكثر من ثلاثين عاماً قضيتها في رحاب الثقافة السينمائية متذوقاً ودارساً، مُمارساً ومُعلِّماً، وأخيراً باحثاً أكاديمياً متخصصاً. ولتعميق وتأصيل تلك التعريفات كان عليّ أن أشاهد عشرات الأفلام، كي أختار من بين مَشاهدها وأحياناً لقطاتها، ما يجسد مفهوماً معيّناً أناقشه. كما كان عليّ في كثير من الحالات أن أنحت لفظاً عربياً جديداً، لترجمة مصطلح ما، ترجمةً شارحةً لمضمونه.
في الموسوعة صور تعود إلى بدايات السينما العالمية، كيف استطعت الحصول عليها؟
كنت حريصاً طوال ما يقرب من خمسة عشر عاماً قضيتها في الولايات المتحدة على أن أجمع وأرتِّب وأصنِّف كل ما يقع تحت يدي من صور تتصل بالسينما. وقد بدأتُ بتجميع الصور الورقية، قبل أن أتحوّل إلى تجميع الصور الرقمية مع بدايات القرن الحالي، مع العمل على رقمنة ما تراكم لديّ من صور ورقية.
هل في نيَّتك إصدار جزء جديد للموسوعة أم تعتبر أن هذا الجزء ألمَّ بالفن السابع بنواحيه كافة؟
من الصعب على أي عمل مكتوب أن يُلمَّ بكافة جوانب ميدان المعرفة الذي يتعامل معه، ورغم أن الموسوعة لا تحتاج إلى جزء جديد، إلا أن طبيعة فن السينما، وما يلحق به من تطورات سريعة، تفرض عليّ مراجعة الموسوعة، وتحديثها حذفاً وإضافة، كلما صدرت لها طبعة جديدة.
ماذا عن موسوعة الشاشات الصغيرة التي لا تزال قيد الإعداد؟
أنا ألتزم في {موسوعة الشاشات الصغيرة} التي لا أزال أكتبها بالأسلوب الذي اتبعتُه في كتابة موسوعة الشاشة الكبيرة، مع اختلاف الموضوع، حيث تتناول الموسوعة الجديدة كل ما يتعلق بالتلفزيون والفيديو والوسائط المتعددة، صوتاً وصورة.
صناعة الأفلام رقمياً
ترجم د. إسماعيل بهاء الدين سليمان كتاب «صناعة الأفلام رقمياً» لسونيا شينك وبن لونج، حول ما إذا كان تكملة للموسوعة، يوضح: «ليس لهذا الكتاب علاقة مباشرة بالموسوعة، لكنه دليل عمليّ، يشرح بالتفاصيل كافة مراحل إنتاج عمل فني بالوسائل الرقمية، من لحظة البحث عن فكرة، حتى لحظة عرض العمل بعد اكتماله. وقد واجهتني خلال ترجمة الكتاب مشكلة كانت قد واجهتني خلال تأليف موسوعة الشاشة الكبيرة، وهي إيجاد مُعادل عربي لكثير من المصطلحات الرقمية، لا سيما تلك التي تنتمي إلى عالم الهندسة الإلكترونية».
ويضيف: «لتعميق الفائدة من الكتاب، ألحقتُ به معجم مصطلحات يتجاوز حجمه 100 صفحة. فالكتاب موجَّه إلى كل من يعتزم دخول ميدان إنتاج الأفلام بالوسائل الرقمية، بغضّ النظر عن توفر أو عدم توفر خبرات سابقة له، في مجال الإنتاج بالوسائل التقليدية. وقد أجمع سينمائيون كثيرون على أهمية هذا الكتاب، الذي يُعَدّ الأول في هذا المجال باللغة العربية، خصوصاً مع تسارع وتيرة التحوّل إلى الإنتاج الرقمي، تلفزيونياً وسينمائياً، على مستوى الوطن العربي”.
****
(*) جريدة الجريدة الكويتية
شرفت بمعرفة الدكتور اسماعيل فعلاً هو شخصية رائعة ونادرة وياريت يتم تأريخ هذا الكم من المعلومات والمعرفة لدية
حفظك اللة
مهندس/ خالدعمر