خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنان)
طرحت الأحداث الأمنية التي شهدتها إيران في مناطق عرقية، خصوصاً في خوزستان والمناطق الكردية، أسئلة حول ما إذا كانت عدوى الحروب الأهلية العربية سائرة للتوطن داخل إيران. صحيح أن هذا البلد قد شهد اضطرابات متعددة خلال عهد الجمهورية الإسلامية، لكن الأحداث الأخيرة تقرأ في ضوء ما يجري في الجوار، وبالعلاقة مع الصراعات الداخلية بين أركان السلطة، إضافة الى تعثر الاتفاق النووي في شقه المتعلق بالإفراج عن الرساميل المجمدة في الخارج وسائر العقوبات الاقتصادية.
موضوعياً، إيران قابلة لمثل هذه الانفجارات وأكثر، فهي تتكون من مجموعة عرقية. يشكل الفرس الممسكون بالسلطة نسبة خمسين في المئة من السكان، فيما تتوزع أعراق أخرى فيها تضم الآذاريين والجيلاك والعرب والبلوش والتركمان والأكراد… وهي أقليات محرومة من حقوقها السياسية والقومية، وتتعرض للاضطهاد دوماً، خصوصاً لدى أي حراك ينبئ بمطالب تشتمّ منها السلطة روائح انفصالية. هذه القوميات العرقية تتركز على الأطراف الجغرافية لإيران، بما يجعلها على اتصال بالعراق وباكستان وأفغانستان وأذربيجان والخليج العربي. ما يعني أنها على خط النار الملتهبة لعدد من هذه الدول التي لها امتدادات فعلية داخل مناطق هذه الأقليات.
منذ قيام الجمهورية الإسلامية أواخر السبعينات، اعتبر الملالي أن أحد عوامل قوة إيران، إضافة الى الهيمنة المطلقة على الداخل، هو التمدد خارجياً، فرأت في العالم العربي «المدى الحيوي» الذي يمكنه أن يمتص أزمات الداخل وينقل التناقضات خارج إيران. في المراحل الأولى من عمر الثورة، ارتفع شعار تصديرها، ثم سعى الملالي الى توظيف القضية الفلسطينية والتلاعب بها على غرار ممارسات الحكام العرب. لكن سنوات العقد الأخير سجلت نقلة إيرانية واضحة في التركيز على الخارج، والتدخل في شؤون الأقاليم العربية، مستخدمة المزايدة القومية أحياناً، وتقديم نفسها حامية للأقليات المذهبية، عبر استحضار الصراعات التاريخية الموروثة منذ خمسة عشر قرناً. تغيّر التدخل الإيراني نوعياً بعد قيام الانتفاضات العربية، فإذا بالملالي يكشفون عن مشروع هيمنة فعلية على بعض بلدان العالم العربي من خلال التدخل العسكري في سورية والعراق والبحرين واليمن، إضافة الى لبنان عبر حزب الله.
لم تكن التناقضات خافية بين بعض البلدان العربية وإيران، وهو أمر طبيعي بين كل الدول المتجاورة، لكن التدخل الإيراني بصفته «الاحتلالية» كان في الحقيقة تلاعباً بالكيانات الوطنية العربية، وهو ما حوّل التناقضات عداوات بعد أن اصطبغت بالدماء. سيشرّع هذا الفعل الإيراني الطريق نحو التدخل في المكونات الإيرنية نفسها وتحريض بعض القوميات على الفعل، ناهيك بأن بعض هذه القوميات وجد في التناقضات المستفحلة بين بعض البلدان العربية وإيران، مناسبة للتقدم بمطالبها والسعي الى نيل أقصى الحقوق، حتى لو أدى الأمر الى استخدام العنف من أجل نيلها. في هذا السياق، يأتي أيضاً مؤتمر المعارضة الإيرانية الذي انعقد في باريس وسجل للمرة الأولى حشداً لم يكن مألوفاً في سنوات سابقة.
نظرت السلطة الإيرانية الى مؤتمر المعارضة هذا بوصفه تدخلاً في شؤونها الداخلية وتحريضاً على النظام القائم من بعض الدول العربية. الغريب أن الملالي توترت أعصابهم من حركة هي بطبيعتها محدودة التأثير في الداخل، ولم يلفت نظرهم حجم تدخلاتهم العسكرية والسياسية في عدد من البلدان العربية، ومساهمة إيران في تدمير بنى هذه البلدان وقتل شعبها.
من حق إيران أن تقلق بعد ان بدأت تشعر بأن أسلوبها في إثارة الفتن والفوضى يمكن أن يرتد الى داخلها، وهو أمر قد بدأ بالفعل، وأن الحريق العربي يمكنه أن يصبح إيرانياً. كما من حقها أن تتوجس من التلاعب الخارجي بداخلها، المستفيد من الأزمات الداخلية الناجمة عن العقوبات الاقتصادية التي لم تجد حلاً لها مع الاتفاق النووي. والقلق أيضا فعلي بسبب الصراعات الداخلية بين أركان النظام على السلطة والمواقع، وهو أمر لم يعد خافياً، بل ينتظر نتائجه كل مهتم بالشأن الإيراني، سواء كان في الداخل أم على صعيد الدول الخارجية. ليس مبالغة التكهن بأن إيران لن تكون بعيدة من اضطرابات قومية في أقاليمها، كما لن تكون بعيدة من اضطرابات أمنية مرافقة لها.
القائلون باستحالة انتقال العدوى العربية الى إيران يستندون الى نظرية تاريخية تعتبر أن الدولة الإيرانية هي «دولة عميقة» ذات جذور راسخة في التاريخ، وأن اللحمة الأيديولوجية الإسلامية رسخت من عمق هذه الدولة. قد يكون لهذا الحكم شيء من الأساس حتى الآن. لكن مسار التطورات العربية والإقليمية والدولية في ظل العولمة السائدة واختراق الحدود بين الدول، لن يبقي إيران على مناعتها، بل إن التناقضات الداخلية، العرقية والقومية والسياسية، لا بد أن تجد لها تصريفاً في صراعات لن يكون من قبيل الخيال أن تصل بإيران الى التقسيم والتفتيت.