“المعلّم” منير أبو دبس عملاق المسرح اللبناني الحديث لا وارث له

laure ghorayeb

لور غريّب

(شاعرة وأديبة ورسامة تشكيلية- لبنان)

عندما شاع خبر رحيل أحد كبارنا منير أبو دبس عن عمر 88 سنة، قلت لنفسي: معقولة يفل من دون ان يُخرج آخر مشهد في حياته بلا مشاهدين وممثلين ملثمين يرندحون او يتمتمون ما يشبه الندب الذي يتفجع ويتألق عندما تصبح الكلمات فارغة من معانيها لفرط استعمالها احيانا في وجهة تأبينية اجتماعية، ولا سيما عندما يكون الراحل من شباب الضيعة الثكلى بسبب وجعها الآتي من وراء القدر الذي لا يعترف بإرادة قاهرة تفوق الايمان والتسليم بـ”هيك الله بدو”.

جميعنا يعرف ماذا حدث في الستينات. قمنا بثورة، وحررنا انفسنا من الوراثة التقليدية في كل مجالات الثقافة. كنا في ما مضى نكتب الشعر التقليدي. نقرأ المعلقات السبع. ونتمرجل على من لا يعرف لغة اجنبية ولا يطلع على ما توصل اليه الغرب في الحقول الثقافية المختلفة. كنا في غربة تامة عن الحركة المسرحية العالمية، ومعرفتنا بها كانت تتوقف على حافة المسرح الكلاسيكي الذي كان يزورنا بين وقت وآخر بفضل فرق محترفة كانت غالبا من حظ الاغنياء لانها كانت تأتي ضمن مهرجانات بعلبك او بفضل مغامرين أخذوا على عاتقهم عملية الانتاج وكل المصاريف التي يفترضها العمل في شتى الامور.

أتى النور المسرحي بفضل مغامر اسمه منير ابو دبس الناسك. كانت المدينة تغلي بتطلعاتها التي تتوزع بين الشعر الحديث وحركة يوسف الخال والرسم ومجموعة الفنانين الطليعيين الذين ذهبوا الى اوروبا وتتلمذوا على أيدي اهم الفنانين، فرنسيين اكانوا أم أوروبيين، معنيين بقضية الثورة على كل ما هو تقليدي وكلاسيكي ومنضوٍ تحت قواعد صارمة ترفض الخروج على المقدسات. في هذه “الطفرة” العامة عاد المغامر الشاب منير ابو دبس (من الفريكة، المتن) الى بيروت مطلقاً مشروعه العلمي وحالماً بإمكانات مسرحية تحرر المدينة من المحاولات اليتيمة التي لم تصل الى التحرر من التقليد والاقتراب من المحاولات الجديدة التي تقتحم التجارب العالمية ولا سيما الفرنسية منها والانكليزية بواسطة الترجمة والاقتباس والكتابة الآنية على رغم محاولاتها الشابة ونواقصها.

المحاولات والجرأة دفعت لجنة مهرجانات بعلبك الى تبني “مدرسة المسرح الحديث” التي انشأها ابو دبس والى مساندته ودعمه، بينما التحق قسم من المثقفين الشباب بحركته الفتية، نذكر منهم ابرزهم انطوان ولطيفة ملتقى وريمون جبارة ورضى خوري وتيودورا راسي وميشال نبعة وانيس سماحة، وفي ما بعد انطوان كرباج وغيرهم. لم اعد اذكر بعض من خرج من الفرقة او دخل، لكن المهم ان الفرقة كانت متماسكة ومنطلقة في اعدادها ما يختاره “المعلم” القليل الكلام والصارم في تعاليمه ومتطلباته الجسدية والفكرية، لانه كان يقول لهم: جسدكم هو الالة التي تعزفون عليها ويجب ان يكون في افضل حال من الجهوزية.

المرة الأولى دخلتُ الى “المعبد” في رأس بيروت في الستينات لم ار شيئا. كانت العتمة تغطي كل شيء وتغطي الجميع، بمن فيهم “المعلم”. وقفت برهة. وشوشني احدهم: هاتي يدك. اجلسني. الصمت له وهرته. احترمتُه. بدأتُ ارى اشباحا مسمّرة على مقاعدها. ثم اكتشفتُ ان هناك من يتمتم او يهمهم لحنا طقسيا يذكّر بليالي القدر. شعرتُ براحة متناهية. “اذا هيدي هيي شطارة منير ابو دبس فمرحبا بالمسرح الحديث”. صرخ احدهم وتبعه اخر، وهكذا. كأن حلقة مترابطة تتولى رفع التحضيرات ايذانا بحدث ما.

صمت. قال صوت خافت. “C’est bien” . هذا هو الصوت الذي يتحكم بهؤلاء الشباب.
“المعلم” يشبه الناسك البوذي، فكرتُ، ولكنني لم اقل كلمة واحدة. قال: نحضّر مسرحية “الملك يموت” ليونسكو، ترجمها الشاعر انسي الحاج. الشباب يتمرنون. كانوا يقومون بالتركيز على ادوارهم. لم اجرؤ على قول اية كلمة. صُدمتُ. هذا عالم لا اعرفه.

abou debs 1

من “الملك يموت”: ميشال نبعة، رضا خوري، انطوان كرباج ورينيه ديك (تحت)

“الملك يموت”

يا الله يا منير ابو دبس كم كنت صادقا. زاهدا. ومحقا. كنت وبقيت الى اخر مرة جئت فيها الى بيتنا كما اكتشفتك في المرة الأولى، ربيع 1965 على ما اعتقد. ليس مطلوبا مني ان اروي ما كُتب في الانترنت التي لا تقدم الانسان بل ما ترك من اثر، لكن القلب والمعرفة والمحبة لا تنقل من قلم الى قلم بل من حواس ومشاعر وروحانيات. عندما جاء يونسكو الى لبنان قالوا له ان انسي الحاج اضاف الى نصه الاصلي جملة جميلة جدا ترد على لسان ميشال نبعه الذي كان يمثل دور الحارس: “شعر جلالته لن ينبش بعد اليوم”. قرر المسرحي الكبير الذي اعجب بهذه “اللقية” ان تضاف الى النص الاصلي حسبما اذكر.

غروتوفسكي المعلم البولوني اللامع ألهم الجميع بعدما نُشرت تعاليمه مترجمة الى لغات عدة. اصبح انجيل المسرح الحديث. كما ان منير ابو دبس اكتشف ان انطوان كرباج كان يراقب ابنه الصغير جيل وهو يتمرغ ارضا ويقاوم بيده الممدودة الى الامام اوامر الوالد، مما دفع الملك الذي اصبح عمره مئات السنين الى التصرف حرفيا مثل جيل الدلوع. كل هذه التحضيرات كانت تستغرق شهوراً من العمل في شتى الميادين، وتكاليفها كانت كبيرة، ولم يكن العرض يقدم سوى ليلتين او ثلاث غالبيتها غير مدفوعة. لكن الجميع كان سعيدا. ثم توالت الاعمال ولم يتعب “المعلم” ولا “التلاميذ”.

“العادلون”

عندما قرر أبو دبس اخراج “العادلون” لألبر كامو اختار انطوان كرباج ليقوم بدور الثائر الذي يغتال المسؤول عن البلد، وهذه الشخصية كانت بعيدة كل البعد عن طبعه. كان يتعذب. فقصدت منير ابو دبس وقلت له ان الوضع في البيت لا يطاق، فأنطوان مشوش ويغضب بسرعة ولا يتحمل صراخ الاولاد. تجرأت وطلبت منه ان يعفيه من الدور فلم يقبل وقال لي إن هذا الدور صعب ولا احد غيره يستطيع اداءه. عدت الى البيت وتحملنا جميعا حتى انتهى تقديم المسرحية. منذ ذاك التاريخ لم اعد اتدخل في الامور المسرحية بل كنت اتسلح بالصبر.
عليَّ ان أشير الى ان المسرحية اخذت تتمدد ايام تقديمها، ومن صالة المسرح في الجامعة الاميركية انتقلت الى مسرح شرعي مستأجر كان الناس يشترون بطاقاتهم من قبل كما في العالم المتمدن. وتوالت الاعمال وكرت المسرحيات واصبحت الفرقة تقدم المسرحيات وتشارك في مهرجانات بعلبك وجبيل، كما انها خرجت عن اطار لبنان وسافرت الى بلدان قريبة وبعيدة، عربية واوروبية.

abou debs 2

من “ملوك طيبا”

لبنان في قرطاج

قدم منير أبو دبس اول عمل له خارج لبنان في العام 1961 ولاقت المسرحية اهتمام الحضور وكانت “ملوك طيبا” اليونانية. ثم تنقل المعلم بين المسرح الاغريقي والالماني والانكليزي فاختار مسرحيات كلاسيكية من التراث العالمي تمت ترجمتها الى العربية وقدمت كلها في الستينات وهي “اوديب الملك”، “فاوست”، “هاملت”، “علماء الفيزياء” وطبعا “الملك يموت” و”الذباب” و”العادلون”. كل هذا النشاط وجد من يتابعه ويرعاه ويسهل طريقه ووصوله الى الصالة التي ستقدمه. بدأت الامور تتسهل ولم تعد البطاقات توزع بشكل دعوات ولثلاثة ايام فقط. اصبحت الطبقة المثقفة تتابع ليس بصورة جدية وانما لتبرهن انها تحب المسرح، وهذا يجعلها حاضرة للتحدث عن المغامرة ولا سيما انها تقابل نشاطاً كهذا بجدية لافتة. ثم انتقلت العدوى الى طبقات اقل تفلسفا وادعاء، وصار المتفرج يتردد الى المسرح ويدفع ثمن بطاقته، لكن كان على العمل ان يعنيه ويعالج مواضيع تهمّه وتنطلق من معاناته ومشكلاته. هكذا ولد المسرح الشعبي من دون ان يسيء الى تجربة منير ابو دبس. تجربة “الملك يموت” برهنت ان المسرح يستطيع ان يكفي ذاته، ولكنه لا يطعم خبزا. عندها استوعب بعض الممثلين ان تجربة “المعلم” عظيمة لكنهم كانوا يدفعون من جيوبهم كل شيء حتى اجرة السرفيس للوصول الى مقر المدرسة في رأس بيروت.

انفصل البعض عن الفرقة لأسباب مختلفة ونبتت محاولات لبنانية في الكتابة والمسرحة والاخراج، وتفرق الجيل الاول واخذ يحاول العمل في نطاق المسرح الشعبي الذي اثبت انه يستطيع ان يمول وينتح الاعمال التي تهم الناس، ولا سيما الطبقة الشعبية، وتريح الجمهور وتسليه وتضحكه. وهكذا ولد مسرح شوشو. اما ريمون جبارة فأخذ يكتب ويخرج مسرحياته، كما ان جلال خوري انكب على كتابة واخراج قصص اخوت شانيه، وبادر انطوان ولطيفة ملتقى في فتح مسرحهما في المدينة وانفصل ميشال نبعه وانطوان كرباج هما ايضا وحضّرا مسرحية “الديكتاتور” التي كتبها عصام محفوظ.

اصبح منير يعكز على الرعيل الثاني من طلابه. أما المشاهدون فاختاروا النوع المسرحي الذي يناسبهم ويعجبهم. عاد منير الى حبه الاول والمسرح الطقسي لكنه لم ينجح في ارضاء الجمهور. فدقت ساعة اعتزاله وساعة نهاية المسرح العالمي المترجم رغم نجاحاته لدى حفنة صغيرة من الجمهور الميسور ذي الثقافة الاجنبية الرفيعة.

قبل ان اقفل هذا الموضوع الموجع له ولبعضنا، اود ان اذكر بعض من ساهم في تحضير الممثلين جسديا وفكريا وغابوا قبله عن هذه الدنيا: رئيس الحكومة امين الحافظ للالقاء وساميا سندري للصوت وراقصة باليه محترفة للتنقل والحركات المضبوطة والايحائية ومؤذن للنطق وحسن اللفظ الخ. لا ننسى هنا ان السيدة سلوى السعيد، رئيسة لجنة مهرجانات بعلبك آنذاك، كانت تسهل الامور وتسهر على تجهيز المسرح بالديكور المناسب. وكان هناك الفونس فيليبس الذي كان يخترع ديكورات متقشفة. وكانت جانين ربيز صاحبة “دار الفن والادب” ترسم وتسهر على تنفيذ الملابس. وكانت سعاد نجار التي تتولى امر المسرح وتؤمّن كل ما يحتاجه المخرج ابو دبس.

ذاع خبر نجاحات الفرقة وكان منير ابو دبس لا ينشر اسماء الممثلين على الافيش الترويجي ولا في الصحف مهما علا شأنهم حتى اواخر سنوات عمله مع الشباب الجدد الذين انضموا تباعا الى محترفه. يجب الا اغفل عن القول ان الطقم الاول الذي شكل “فرقة المسرح الحديث” خرج منه افضل الممثلين ولا سيما ان معهد الفنون الجميلة لم يكن قد رأى النور.

abou debs 3

من “الملك يموت”

الحرب أنهت دوره الطليعي

توزع الممثلون على مسارح المدينة حسب مناطقهم وساروا في خيارات مسرحية فيها أطروحات فكرية وايضا فيها الترفيه والضحك والاستعراض وبعضها كان من دون ادعاءات فنية ضاغطة واصبحنا نشاهد في الاسبوع نفسه 6 او 7 مسرحيات في العاصمة بيروت. لم يغب منير ابو دبس كليا عن الساحة فبقيت الصحافة تتذكره وتحن احيانا الى مسرحه، لكن الجمهور اصبح يحب المسرحيات الاستعراضية على رغم ان الرأس الذي ضخ في المدينة هؤلاء المسرحيين من ممثلين ومخرجين ومؤلفين كان مغامرا شابا ترك مكانه في جامعة السوربون في باريس ليكوّن فرقة مسرحية تطال السماء بطموحها. نجح ولمع مثل النجمة الهاربة. ثم استراح.

نعترف بأن المعلم فقد الزخم الذي كان يمثله الرعيل الاول من الشباب. وعلى رغم انه عاند واراد الاستمرار بالمسيرة نفسها، إلاّ أنه لم ينجح في خلق ارادات ومواهب ذات قدرات فنية مقبولة فقصفت الحرب (1975 – 1999) ظهر المحاولات واختفت قدرات كثيرة من الوجود وكان اولها المسرح الحديث الذي خفت صوته ودخل في غيبوبة شبه ابدية.

بقي منير ابو دبس يحاول ايقاظ المسرح اليوناني الطقسي، لكن المغامرة انتهت مثل غيرها من الفنون خلال الحرب، وبعضها لم يفق من نوم اهل الكهف وبعضها الآخر غاب من دون ندب ولا تفجع ولا حتى ذكرى.

الفريكة اشتاقت اليك

يعود منير أبو دبس اليوم الى تراب الفريكة. كم اكلت من ارجلنا هذه الطريق التي كانت توصلنا إلى بيت منير وجان ابو دبس، وتجمعنا تحت سقفه!

 

abou debs

من “فاوست”: انطوان كرباج (الى اليمين) وميشال نبعة.

****

(*) جريدة النهار 19-7- 2016

اترك رد