شكيب أرسلان أنموذجاً
د. عبد الرؤوف سنو
(باحث ومؤرخ- لبنان)
من سمات عصر النهضة العربية منذ الربع الأخير للقرن التاسع عشر، بروز تيارات فكرية عديدة في الولايات العربية التابعة للدولة العثمانية، اندرجت في طروحاتها ما بين “الجامعة الإسلامية” و”الرابطة العثمانية” والوطنية الإقليمية والعلمانية والقومية العربية. وكان قاسمها المشترك إمّا مواجهة مخطّطات الاستعمار والصهيونية تجاه البلدان العربية، وإمّا تلمّس مصير البلاد العربية في حال سقوط الدولة العثمانية. وبُعيد اندلاع الحرب العالمية الأولى،
وجد الإسلاميون وأنصار “الجامعة الإسلامية وعدد من الوطنيين العرب أنفسهم في معسكر ألمانيا حليفة الدولة العثمانية، اعتقاداً منهم أنَّها يمكنها أن تنقذ السلطنة من مخطَّطات دول الاستعمار التقليدية، بريطانيا وفرنسا وروسيا. وأملت “الحركة العربية” في أن تؤدي ألمانيا دوراً بعد الحرب في إبراز الشخصية العربية الوطنية أو القومية، مع الحفاظ في الوقت نفسه على الروابط بالدولة العثمانية كمظلَّة استراتيجية تحمي البلاد العربية. وفي المقابل، انحاز قوميون عرب وقوميون لبنانيون إلى الشريف حسين وحليفته بريطانيا، على أمل أن تحقق هذه الدولة للعرب أمانيهم في قيام دولة عربية مستقلّة.
ما هو موقف شكيب أرسلان (1869 – 1946)، المفكر والسياسي والأديب والشاعر اللبناني من هذه الطروحات؟ وما هو موقفه من الدولة العثمانية ومن دول “الوفاق الودّي”، ولماذا مقت دول الاستعمار مفضلاً عليها ألمانيا قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها؟ وهل كان عداؤه للصهيونية على قدم المساواة في عدائه للاستعمار؟ وبالنسبة إلى الشقّ الأول من التساؤل، سوف استعين بالوثائق الألمانية، وبمقالات منشورة بالألمانية موقّعة باسم شكيب أرسلان تكشف على المزيد من مواقفه من الدولة العثمانية ومن دول الاستعمار الأوروبي. أما بالنسبة إلى الشق الثاني من السؤال، فسوف اعتمد على الوثائق الألمانية والأدبيات المعاصرة.
بداية، سأتناول بإيجاز علاقة أرسلان بالدولة العثمانية وموقفه منها وأسباب ذلك. ثم أتناول موقفه من دول الاستعمار في مرحلتين، الأولى حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، والثانية في فترة ما بين الحربين العالميتين، حتى وفاته. كما سأتناول مناهضته مشروع تهويد فلسطين في مرحلة ما بين الحربين، حتى وفاته.
1) أرسلان والدولة العثمانية: إستراتيجية الدفاع الإسلام
قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها، كان شكيب أرسلان من أبرز الشخصيات العربية التي أدَّت دوراً مميَّزاً في الدفاع عن بقاء البلاد العربية تحت الحكم العثماني، وهو الذي قاتل الاستعمار بقلمه وبندقيته. فانصب همّه على رؤية الإسلام، ممثلاً بالدولة العثمانية، قادراً على التصدّي لأوروبا. فشارك في الفرقة العثمانية التي حاربت الإيطاليين في طرابلس الغرب خلال العام 1912، ورفض المشاركة في مؤتمر باريس في العام التالي، لأنَّه وجد في اللامركزية ما يضعف الروابط بين العرب والعثمانيين، ولأنَّ الظروف التي كانت تمرُّ فيها الدولة العثمانية (طرابلس والبلقان) غير موآتية للبحث في مشروع كهذا. وعلى الرغم من دفاعه عن العروبة، إلا أنَّه اعتبر وجود العثمانيين في المشرق العربي، رغم ضعفهم، يشكّل حماية استراتيجية للأماكن المقدّسة للإسلام، مكّة والمدينة، ولاستقلال بلاد الشام وسيادتها التي تتربص بها قوى الاستعمار. فطالب بأن يلتفّ العرب حول الدولة العثمانية، مشترطاً في المقابل على العثمانيين إحياء اللغة العربية والعروبة.
خلال الحرب العالمية الأولى، حافظ أرسلان على مواقفه تجاه السلطنة، معتبراً نفسه ليس زعيماً درزياً، وإنما ممثلَّاً لمشاعر معظم العرب في سورية، وكل القيادات العربية الموجودة في أوروبا تقريباً. فوقف ضدَّ التحالف الذي قام بين الشريف حسين وبريطانيا، معتبراً أنَّه موجه ضدَّ الدولة العثمانية والإسلام، وضدَّ مصلحة العرب. لكنه رفض في المقابل اتهامات العثمانيين للعرب بالخيانة بعد اندلاع “الثورة العربية الكبرى”، معتبراً أنَّ الشريف حسين لا يمثِّل كلَّ العرب. وعزا سبب التباعد بين العرب والعثمانيين وظهور ما يسمى بـ “المسألة العربية”، وانقسام السوريين بين مستعين بفرنسا وآخر ببريطانيا، إلى سياسة التتريك ونظرة بعض دوائر الاتحاديين إلى العرب على أنَّهم ليسوا أكثر من سكان مستعمرة تركية. وتوقَّع أن يكون أكبر تهديد للعثمانيين في إنشاء العرب دولة مستقلّة لهم. فطالب العثمانيين بإعطاء العرب الحريّة لتطوير أنفسهم اقتصادياً وثقافياً، لكي تبقى السلطنة قوّة عالمية تحتضنهم مع غيرهم من الشعوب الإسلامية، وأن يعوا أنَّ أهم عوامل قوَّتهم هي في معاملتهم الجيدة والصالحة للعرب. وأكد أرسلان أكثر من مرّة في الصحافة أنَّ أي فصل بين العرب والأتراك سيؤدي إلى وقوع العرب تحت سيطرة البريطانيين والفرنسيين.
وخلال زيارته الأولى إلى ألمانيا في العام 1917، تحدث أرسلان مع المسؤولين هناك حول ضرورة تغيير نظام السلطنة بعد الحرب بحيث تتحوّل إلى فيدراليات تضم إمارات عربية مستقلة مرتبطة بالدولة العثمانية. لكن بعد خروج الدولة العثمانية مهزومة من الحرب، وجد أرسلان خيارين أمام العرب، إما البقاء تحت سيادتها، أو تطبيق “مبادئ ويلسون” عليهم في تقرير مصيرهم. وسوّغ ذلك بأنَّ العرب يرفضون الشريف حسين زعيماً أو خليفة عليهم، أو غيره من الزعامات العربية، وأنَّ لا خيار لهم سوى في الاستفتاء حول مصيرهم، فيما لا تريد بريطانيا ذلك لهدف خبيث، وهو تنفيذ “اتفاق سايكس – بيكو” للعام 1916 على المنطقة و”وعد بلفور” الذي صدر في العام التالي.
2) أرسلان ودول الاستعمار: مسوّغات العداء قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها
كشف أرسلان في أكثر من مناسبة بأنَّ ميله إلى العثمانيين وتمسّكه بهم لا يعود إلى “الرابطة العثمانية” ولا إلى “الجامعة الإسلامية” بقدر كراهيته دول الاستعمار التقليدية، بريطانيا وفرنسا وروسيا وهولندا، التي تقهر المسلمين وتعمل على تقسيم البلاد الإسلامية والعربية. وقال إنَّ ما فعلته دول الاستعمار بالعالم الإسلامي، يجعل الإسلام يخشى من مخطَّطاتها”. فبرأيه، هناك حالة عداء تاريخية مزمنة من جانب دول الاستعمار تجاه الدولة العثمانية كممثِّلة للإسلام، منذ أن وطأت أقدام المسلمين أراضي أوروبا. “فكما أنَّ روسيا هي عدو للإسلام كلَّه، وبشكلٍ خاصّ للأتراك، وتضطهد ملايين المسلمين، كذلك هي انكلترا عدو للإسلام وبخاصّة العرب ومصدر بلاياهم من خلال مركزها في الشرق”. فاتهم روسيا بأنَّها تعمل منذ قرون عديدة للسيطرة على الممرَّات العثمانية للوصول إلى المياه الدافئة، في حين تستعبد فرنسا عشرات الملايين من المسلمين العرب في شمال إفريقيا، وتعمل على فرنستهم، أما هولندا، فهي تُحكم قبضتها على “أندونيسيا” المسلمة عن طريق القهر والظلم، على الرغم من أنها دولة صغيرة. وفي إشارة إلى استغلال دول “الوفاق الودّي” المسلمين في جيوشها لمحاربة “دول المحور”، قال أرسلان: “يموت المغربي كي تنتصر فرنسا على ألمانيا، ويموت الهندي كي تتغلّب انجلترا على عدو لها، ويموت التتري في سبيل ظفر الروسيا”.
لقد انصبت كراهية أرسلان للاستعمار في الدرجة الأولى على بريطانيا، التي اعتبر أنَّها أسوأ أنواعه، لأنَّا تدَّعي صداقة الإسلام والدولة العثمانية، وتترجم ذلك على أرض الواقع باستعباد ملايين المسلمين والعمل على تقسيم السلطنة. ووصف الاستعمار الفرنسي بأنَّه أشدَّ همجية، وبرهن عن ذلك في مناطق استعماره في شمال إفريقيا، ويأتي بعده الاستعمار الإيطالي الذي عمل على الاستحواذ على “ليبيا” في العام 1912. لكن أرسلان، رأى أنَّ ما يجمع هذه الدول الثلاث هو رغبتها في القضاء على الإسلام الممثَّل بالدولة العثمانية واستعباد العرب والتنكّر لعهودها ومواثيقها معهم. فيتساءل: “اين هي المعاهدات التي لم تُنتهك من قبل بريطانيا وفرنسا؟ وأين الوعود التي حافظت عليها الدولتان؟”
رأى أرسلان أنَّ بريطانيا تعمل منذ احتلالها مصر على تدمير الدولة العثمانية وضرب قيادتها للعالم الإسلامي (الخلافة)، وتحويل السلطان العثماني إلى حاكم في القسطنطينية فقط، فضلاً عن أضعاف روابط السلطنة بالمسلمين عبر تحريض شعوبها عليها، وفي مقدّمهم العرب. وبسبب المخطَّطات البريطانية، لم تتمكّن السلطنة، برأي أرسلان، من القيام بأي شيء من دون تدخل بريطانيا في شؤونها والسيطرة على إرادتها، إضافة إلى عدم تنفيذ بريطانيا تعهداتها بإخلاء مصر. واتهم أرسلان بريطانيا بأنَّها احتلت بلاداً عربية وإسلامية في آسيا وإفريقيا، فضلاً عن الهند، وتعمل على نهبها تحت ستار صداقتها للمسلمين وللعرب. وفي هذا المعنى، قال: أرسلان: صحيح إن بريطانيا تتودّد إلى العرب وتدعم الشريف حسين في ثورته ضدَّ الدولة العثمانية وتمدُّه بالأموال والأسلحة، لكن ذلك يحدث طالما أنَّ الحرب قائمة، لكن بريطانيا في الواقع ضدَّ مشروعه لضم سورية إلى الحجاز في مملكة موحَّدة تحت عرشه، وهي لا تخشى قيام دولة عربية موحَّدة فحسب، وإنما دولة عربية مستقلّة في الحجاز تشرف على البحر الأحمر، أي طريق السويس – الهند، مما يشكّلُ تهديداً خطيراً لمصالحها الإستراتيجية ومركزها في الشرق الأدنى.
ورداً على تصريحات رئيس الوزراء البريطاني حول حقِّ العرب في تقرير مصيرهم، تساءل أرسلان عما إذا كانت بريطانيا تريد بالفعل أن يقرّر العرب مصيرهم بأنفسهم أم أنَّها تعمل على فصلهم عن الدولة العثمانية للسيطرة عليهم وعلى مواردهم. ورأى أنَّ بريطانيا تعامل العرب كالزنوج والرقيق، وتتنكّر لحقوقهم في تقرير مصيرهم، من جهة كي لا تُضطرّ لإخلاء البلاد العربية التي تحتلّها، ومن جهة أخرى، لمنع تحوّل العرب إلى قوّة كبيرة تقف عائقاً في وجه مخطَّطاتها الاستعمارية، وفي مقدَّمها مشروع تهويد فلسطين.
وانطلاقاً من مقولته بأنَّ “بريطانيا تعيش في الشرق وتموت فيه”، وإنَّه من دون الشرق (الهند)، لن تكون بريطانيا أقوى دولة في العالم”، قام أرسلان في العام 1915 بتشكيل وحدات من الدروز للمشاركة في الحملة العثمانية على قناة السويس انطلاقاً من فلسطين. وطالب “دول المحور” بحسم المعركة ضدَّ بريطانيا ليس في الغرب، وإنَّما في الشرق حيث مواصلاتها ومستعمراتها ومصالحها الحيوية. وقال: “يجب أن يكون هدفنا هو ضرب بريطانيا في الشرق من دون انتظار حسم الحرب في الجبهة الغربية”. فلا يمكن إلحاق الهزيمة ببريطانيا، برأي أرسلان، من دون القضاء على قوّتها البحرية ونزع الهند منها.
3) شكيب أرسلان وألمانيا: صداقة منزّهة عن الأطماع؟!
بسبب تنامي مصالحها في الدولة العثمانية، وضعت ألمانيا منذ التسعينيات من القرن التاسع عشر سياسة تقوم على الحفاظ على السلطنة في وجه القوى الأوروبية الأخرى الساعية إلى تقسيم ممتلكاتها. وفي الوقت نفسه، ابتعدت ألمانيا عن الاستعمار المباشر تجاه ممتلكات السلطنة متوسلة في ذلك التغلغل السلمي (Drang nach Osten) الذي رأت أنه يحقق لها مصالحها وسياساتها من دون استخدام العسكر، ما يجعلها قوة صديقة في نظر المسلمين. وقد تركزت المصالح الألمانية في الدولة العثمانية على تركيا الأسوية، حيث اتجهت إليها الاستثمارات الألمانية، والتي جرى التعبير عنها بخطوط حديد الأناضول و”خط حديد بغداد”. أما سورية، فلم تكن ضمن مجال اهتماماتها. ويتضح ذلك من رفض الحكومة الألمانية مشروعاً للمستوطنين الألمان من “جماعة الهيكل” (Die Tem[ler) في فلسطين، عندما طالبوا بجعل فلسطين وجنوب سورية مستقلة ذاتياً تحت عرش أمير أوروبي. فاعتبرت أنَّ المشروع ليس قابلاً للتنفيذ.
وبعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، عملت ألمانيا على استخدام الإسلام و”الجهاد الإسلامي” وصفة السلطان العثمانية كخليفة من أجل استمالة الشعوب الإسلامية الخاضعة لدول “الوفاق الودي”، وحثها على القيام بانتفاضات تنهك هذه الدول وتشغل قواتها بعيداً عن جبهات القتال. ولاستمالة المسلمين، سربت الدعاية الألمانية بأن الحرب الدائرة هي للقضاء على المسلمين. وكان الانطباع العام في ألمانيا، ولدى الدوائر الكنسية، بضرورة التحالف بين ألمانيا المسيحية وبين المسلمين ضد بريطانيا، بغض النظر عن الاختلاف في العرق والثقافة والدين، وعدم ترك الأخيرة تحتكر لنفسها التحالف معهم. وأوصت الإرسالية الإنجيلية الألمانية رئيس الوزراء الألماني تيوبالد فون بتمان هولفيغ (Theobald von Bethmann Hollweg) بضرورة انتباه وسائل الإعلام إلى عدم انتهاك قيم المسلمين وإثارة مسائل دينية حساسة، والابتعاد عن مناخ الحروب الصليبية التي تؤجج مشاعرهم، وفي الوقت عدم تقديم ألمانيا تنازلات للمسلمين في ما يتعلق بقيمها المسيحية.
وقد تمكنت برلين من إقناع القيادة العثمانية بدخول الحرب إلى جانبها وإعلان “الجهاد المقدس” ضد دول “الوفاق الودي”. وكان إعلان “الجهاد” أحد شروط ألمانيا للتحالف مع السلطنة. فمن دونه، ومن دون تجييش العالم الإسلامي وراء ذلك الشعار، فلا نفع للتحالف مع العثمانيين، حيث كان الألمان، رغم التحسينات التي أجروها على الجيش العثماني قبيل الحرب، يشكون في قدراته. وكانت مصر إحدى الأهداف الإستراتيجية الرئيسية لحرب ألمانيا في المشرق العربي، بسبب المركز الممتاز الذي كانت تتمتع به بريطانيا وسيطرتها على قناة السويس والمواصلات مع الهند والشرق الأقصى. لذا، كثفت ألمانيا دعايتها في تلك المناطق بأنها حليفة المسلمين وسلطانهم الخليفة العثماني، وأنّها تعمل على تغيير أوضاعهم بعد الحرب. فأنشأت المؤسسات للاضطلاع بهذه المهمة، كـ: “دائرة استخبارات الشرق” التي رأسها المستشرق الألماني ماكس فون أوبنهايم(Max von Oppenheim) . واستخدمت في الوقت نفسه مفكرين وسياسيين وصحافيين عرب، من ضمنهم الأمير شكيب أرسلان لترويج صداقتها للإسلام في سورية. وكان الألمان يعتثدون أنه في حال نسج علاقة مع طوائف سورية، فيجب أن يكون ذلك مع السنّة والمسيحيين الملكيين، بسبب تعاطفهم مع ألمانيا، وأن رعايتهم ستكون مفيدة لها.
وعلى الرغم من أنَّ الحرب العالمية الأولى هي التي بلورت مواقف أرسلان من ألمانيا، إلا أنه من الثابت أنَّه أقام علاقات مُبكِّرة مع مستشرقين ودبلوماسيين ألمان، أهمهم المستشرق وعالم الآثار أوبنهايم، سبقت اندلاع الحرب بعشرين عاماً. ارتبط بصداقة مع أوبنهايم وأطلق عليه تسمية “صديقي البارون”. أما أوبنهايم، فوصفه بأنه “من أنبل العائلات السورية”، و”صديق مخلص وثابت لألمانيا”، و”أكبر زعيم سياسي في الشرق، يدافع عن العروبة، ولا يمكن الاستهانة بتأثيره في العالم الإسلامي”. وقد رافق أرسلان الإمبراطور وليم الثاني في زيارته إلى بلاد الشام في العام 1898، بناءً على أمر من السلطان عبد الحميد الثاني. أمَّا ميله إلى ألمانيا، أسوة بغيره من الوطنيين العرب، فسبب كراهيته للبريطانيين والفرنسيين. ورأى أنَّ ألمانيا لم تمارس سياسة استعمارية تجاه البلاد العربية، وتتعاطى مع السلطنة كحليف رفضت تقاسم ممتلكاته مع الدول الغربية، ولا تستغل مشاعر المسلمين والعرب في سبيل الاستقلال.
ويعترف أرسلان بعدم وجود صداقة بين شعبين من دون مصالح مشتركة، وهو ما ينطبق على العلاقات المتينة بين ألمانيا والإسلام، حيث يتبادل الفريقان، برأيه، الدعم والمساندة بكلِّ إخلاص. وتوقَّع أن تصبح ألمانيا دولة استعمارية كبيرة، بعدما تؤول إليها مستعمرات دول “الوفاق الودّي” بعد انتصارها في الحرب. لكن أرسلان يسارع إلى الافتراض أنَّ ألمانيا، التي تتوافر لها كلّ مقومات الدولة الاستعمارية، تختلف عن غيرها من دول الاستعمار التقليدية، فهي لا تنتهك حرية الشعوب ولا تضطهدهم، وجعلت سويسرا تأذن له بإصدار مجلته “الأمة العربية” (La Nation Arab). كما أن ألمانيا هي التي تعامل العرب الذين لجأوا إليها معاملة حسنة، والأمة الوحيدة التي، برأيه، لم تعتد على العرب والمسلمين.
وبدافع الخشية على الإسلام من مخطَّطات “دول الوفاق الودّي” وإمكانية سقوطه مع الدولة العثمانية، دعا أرسلان الإسلام لأن يكون صديقاً لألمانيا التي تتصدّى للساعين إلى الإضرار به وبدولة الخلافة. فقال: “إنَّه من الواضح أنَّ صديق الإسلام هو الذي يكون عدواً للذي يضمر شراً بالإسلام. وأي عدو أقوى من بريطانيا وفرنسا في الوقت الراهن في البرِّ والبحر غير الدولة الألمانية”. فطرح معادلة اعتبر أنها القاعدة الطبيعية بين البشر، وهي “إن عدوّ عدوّي صديقي، وإن صديق عدوّي هو عدوّي”. فدعا العرب والمسلمين إلى أن يبقوا على تحالفهم مع ألمانيا، ويقدِّموا المساعدة لها، كما يحصلون هم بدورهم على دعمها. وختم بالقول: “طالما أنَّ البريطانيين والفرنسيين يمارسون سياسة الاضطهاد ضدَّ البلدان الإسلامية … طالما أنَّ الأتراك والألمان كتفاً على كتف ضدَّ كل عدو يسعى إلى محاربتهما … لن ينجح هؤلاء في إطفاء نار الحب المتوقّدة في صدور المسلمين والألمان”.
وفي عام 1917، زار أرسلان برلين موفداً من قبل وزير الحربية أنور باشا، كشخصية موثوقة لدى القائد العثماني ليطرح مسألة استمرار التحالف الألماني – العثماني. فأحاطته حكومتها برعاية خاصَّة كزعيم درزي رفيع، واستغلت وجوده عندها، بعدما رأت فيه عنصراً عربياً مهماً يساند السياسة العثمانية. ومنذ تلك الزيارة، أخذ أرسلان يعمل على نشر المقالات في الصحف الألمانية، وأصدر كتيبات مناهضة لدول “الوفاق الودّي” ومؤيّدة لدول المحور. كما ألقى الخطب أمام الألمان، وأمام الأسرى المسلمين في المعتقلات الألمانية، دعا فيها إلى تأييد ألمانيا. وكان أرسلان اقترح على ألمانيا مطلع الحرب تجميع الأسرى المسلمين لديها في معسكرات وتأهيلهم وإعادة إرسالهم إلى الجبهات للمحاربة ضد الحلفاء. وطالبها بأن تقوم بتسليح الانتفاضات الإسلامية ضد دول الاستعمار.
4- أرسلان وألمانيا والأوضاع في سورية ولبنان
الواقع أن ألمانيا عملت خلال الحرب على توطيد نفوذها في سورية ولبنان، وإنهاء نفوذ دول “الوفاق الودّي” في المنطقة. وأولى خطواتها في هذا المجال، كانت تنمية مؤسساتها التربوية والتجارية على حساب مؤسسات “العدو”، إذ عملت على إغلاق قنصليات دول “الوفاق الودّي” ومدارسها، واعتقال رعاياها. وعلى خط موازٍ، سعت ألمانيا من خلال “دائرة استخبارات الشرق” (Deutsche Nachrichtenstelle für den Orient) التي أسس أوبنهايم لها فروعاً في كل المدن السورية، إلى التقرب من السكان المسلمين، مستخدمة في ذلك أساليب الدعاية وتوزيع المنشورات باللغة العربية، ودعوة قيادات وطنية إلى زيارتها. وقد تولى أرسلان، بناءً على رغبة ألمانية، تحرير جريدة “الشرق” الدمشقية لشهور عدة، وكتب الافتتاحيات فيها، قبل أن يتولى إدارتها محمد كرد علي والشيخ عبد القادر المغربي.
لقد تحدث أرسلان عن ارتعاد المسيحيين السوريين من الانتصارات التي حققتها ألمانيا والدولة العثمانية على أعدائهما خلال الحرب العالمية الأولى. ورأى أن إلغاء الدولة العثمانية الامتيازات الأجنبية في أيلول 1914، والتي كانت وبالاً عليها، وإنهاء وضع جبل لبنان الخاص في السلطنة (المتصرفية)، كان ضربة موجهة إلى رجال الدين الكاثوليك ودول “الوفاق الودّي”.
وخلال العام 1915، أخذت الغواصات الألمانية تتردد على مرافئ الساحل السوري، حيث كان بحارتها يُستقبلون بالترحاب من قبل الجالية الألمانية في بيروت. لكن هذه السياسة ترتبت عليها نتائج سلبية، إذ أخذ الساحل السوري ومدينة بيروت يتعرضان منذ ذلك الحين إلى القصف والحصار من قبل بوارج دول “الوفاق الودّي”، مما عرض البلاد لانهيار اقتصادي.
وبعد اندلاع “الثورة العربية الكبرى” وزحف جيوشها على سورية بقيادة انكليزية، بدا أن مشاعر العروبة المؤججة من قبل بريطانيا قد تفوقت على مشاعر “الجامعة الإسلامية” التي روجها شكيب أرسلان مدعياً أن المسلمين يساندون التحالف الألماني العثماني. وسبق أن ذكر المؤرخ لونغريغ أن إعلان شيخ الإسلام “الجهاد المقدس” في تشرين الثاني 1914 ضد دول “الوفاق الودي” لم يحرك عند السوريين مشاعر إسلامية قوية.
وفي خلال إقامته في ألمانيا العام 1917، ألقى محاضرة حول المجاعة في سورية، دافع فيها عن الألمان والعثمانيين كمسببين لها، وعلَّلها بالحصار البحري الذي ضربته أساطيل “دول الوفاق الودّي” على الساحل السوري. وعندما تحدثت الصحافة العربية في نيويورك عن حدوث مذابح ومجاعة في لبنان، نفت وزارة الخارجية الألمانية ذلك، مؤكدة وجود شحّ في المواد الغذائية، لكن عدم حصول مجاعة.
وإزاء المجاعة، وعلى عكس ما رواه أرسلان، لم يحرّك العثمانيون ولا الألمان ساكناً. وأخذوا يستولون على الحبوب والماشية من دون رقيب ويرسلونها إلى بلادهم. وقد أشار القنصل الألماني في بيروت إلى تجاوزات الجنود الألمان في المدينة عبر القيام بالمتاجرة بالسلع الغذائية التابعة للجيش الألماني أمام أعين السكان المحليين. وتحدث عن شائعات حول اعتداء جنود ألمان على نساء مسلمات. فأدّى ذلك إلى تراجع سمعة ألمانيا في بلاد الشام، وحمل القيادة العسكرية الألمانية على تكليف الشرطة السرية الألمانية في الميدان باستقصاء الأوضاع في سورية.
وفي تقريره حول الوضع عقب رحلة قام بها إلى حوران ودمشق ورياق وبيروت ومتصرفية جبل لبنان وحلب، قال رئيس الشرطة السرية، إن مسلمي البلاد ومسيحييها ينظرون إلى الألمان إما بلا مبالاة أو بحقد، وإنه سمع بنفسه في بيروت وفي جبل لبنان ودمشق اتهامات السكان للألمان بأنهم مسؤولون عن المجاعة التي ضربت البلاد، عبر الضغط على السلطات العثمانية لعدم تزويد بل لبنان بالمؤن الكافية، وقيامهم بشراء كل محاصيل الحنظة والحبوب وشحنها إلى ألمانيا. واعتبر رئيس الشرطة أنَّ مصادر دول “الوفاق الودّي” وبعض الأتراك تقف وراء الإساءة إلى ألمانيا. وعزا التقرير أسباب المجاعة أيضاً إلى سياسة احتكار الحبوب من قبل تجار محليين في دمشق وبيروت. وصحيح أن رئيس الشرطة لم يتحدث عن أعداد الوفيات بسبب المجاعة، إلا أنه أشار إلى تقديرات متصرفية جبل لبنان بأن أعدادهم قرابة 200 ألف نسمة. وأكد رئيس الشرطة قائلاً: “إنه شاهد بأم العينين في بيروت وجبل لبنان حالة البؤس والوفيات التي لا تحصى بين الأطفال والأمهات من جراء المجاعة”. وسمّى التاجر ميشال سرسق، الذي اتهمه واضع التقرير بتخزين كميات كبيرة من الحبوب، وبيع الرطل منها بـ 250 قرشاً، فيما كان السعر الحقيقي للشراء هو 40 قرشاً. وفي الختام، اقترح رئيس الشرطة بأن تقوم ألمانيا بتقليد الأميركيين والبريطانيين عبر إنشاء مطابخ مجانية للفقراء في الكنائس والمساجد، معتبراً أن هذا كفيل بتحسين صورتها بين السكان، ويشكل “دعاية صحيحة لرفع سمعة ألمانيا بين السكان نصف المتحضرين”. وما لبثت سياسة جمال باشا التعسفية تجاه السوريين واللبنانيين أن جعلت القوات الألمانية العاملة مع الجيش العثماني الرابع تجد نفسها وسط سكان يزدادون عداء لها.
صحيح أن مذابح لم تحصل بين المسيحيين في لبنان أسوة بالمذابح ضد الأرمن، إلا أن جمال باشا قام بإعدام الوطنيين اللبنانيين بعد اقتحام العثمانيين للقنصلية الفرنسية في بيروت والعثور على وثائق تدين تورط البطريرك الياس الحويك والأسقف أنطون عريضة وشخصيات لبنانية إسلامية ومسيحية في مؤامرة مع فرنسا ضد السلطنة. وكانت أكبر دفعة من الذين أُعدموا في يوم 6 أيار 1916. واستدعت مسألة المجاعة وردود الفعل لدى الأسرى المسلمين في المعسكرات الألمانية، إلى دعوة دائرة استخبارات الشرق” الداعية الإسلامي عبد العزيز جاويش وكذلك أرسلان لإلقاء محاضرات عليهم والدفاع عن ألمانيا. على عكس ذلك، اتهم مسيحيو جبل لبنان الحكومة العثمانية بمسؤوليتها عن المجاعة، وإنها تقصدت ذلك لأسباب سياسية وهي معاقبتهم على مواقفهم المعارض منها.
وعلى عكس الرأي المتداول في الأدبيات التاريخية والسياسية بأن أرسلان كان وراء حملة الإعدامات التي نفذها جمال باشا في حقّ رجالات “جمعية الإصلاح”، تشير مراسلاته مع القنصلية والسفارة الألمانيتين على التوالي في بيروت والآستانة إلى محاولاته اليائسة لوقفها، وأن الدوائر السياسية في برلين لم تعر هذه المسألة أهمية قصوى، خشية اغضاب حلفائها العثمانيين. وعبر التقارير التي كان يرفعها إلى الألمان، كان أرسلان يصف الأوضاع في سورية والمواقف الشعبية على أنها مؤيدة لدول المحور، وخصوصاً توقعه تحوّل الدروز عن تأييد بريطانيا إلى جانب ألمانيا في حال تغلغلت قوات الأمير فيصل والإنكليز في اتجاه درعا. واعتبر قنصل ألمانيا العام في دمشق د. بروده (Brode) أن الدروز يرون في تعاون بريطانيا مع المسلمين ومع الشريف حسين تحديداً “يضرّ بهم”، وسوف يضطرون للتحالف مع ألمانيا، لأن بريطانيا لم تعد تكترث بهم. لذا، طالب أرسلان “صديقة” المستشرق أوبنهايم بأن تعمل بلاده على تدعيم الجبهة السورية مع مطلع شتاء 1918، وزيادة عدد الجنود الألمان في سورية. لكن القيادة الألمانية، وكانت المعارك قد حمست في الجبهة الشرقية ضد القوات العثمانية وقيادتها الألمانية، كانت عاجزة عن تنفيذ ذلك. وعلى عكس ما روجه أرسلان، وصف تقرير للسفارة الألمانية في الأستانة مشاعر العرب المسلمين تجاه ألمانيا عشية انتهاء الحرب العالمية الأولى، بأنه مختلف ومعظمه متحفظ، لكنه في الغالب ليس معادياً لها. لكن التقرير اعترف بأن كراهية العرب المسلمين لألمانيا، يعود إلى تحالفها مع الأتراك، الذي يصب في نهاية الأمر ضد القومية العربية، فيما عزا الفلاحون السوريون معاناتهم إلى الألمان وتصرفات جنودهم.
ومرة أخرى، زار أرسلان برلين في العام 1918 مبعوثاً لأنور باشا. وفي أيلول من السنة نفسها، بعث ببرقية إلى الإمبراطور الألماني يرفض فيها تنفيذ “اتفاق سايكس – بيكو” على سورية وفلسطين، وجعل الأولى منطقة نفوذ فرنسية والثانية تحت نفوذ بريطانيا، ما يجعل الحرب الدائرة حرب احتلال واستحواذ على الأراضي. وقال: “إنَّه بصفته نائباً عن حوران في البرلمان العثماني، يحتج ضدَّ أي تدخّل لفرنسا وبريطانيا في مصير وطنه، معتبراً إنَّ سورية عثمانية وستبقى كذلك، على الرغم من خسارة معركة أو معركتين”. وأبلغ المبعوث الألماني في برن (Bern) خلال مفاوضات السلام في فرساي رفضه تقاسم بريطانيا وفرنسا الانتداب على سورية وفلسطين والعراق، مقترحاً على الإمبراطور وليم الثاني إجراء استفتاء حرّ للسوريين على مصير بلدهم، ومن دون تدخّل أية دولة.
وعشية انتهاء الحرب، طالب أرسلان المسلمين في المقابل بمعاملة حسنة للمسيحيين، خصوصاً بعدما اتسعت الخلافات في ما بينهم حول مصير سورية بعد زوال الحكم العثماني. وبعدما أصبحت “الثورة العربية” تدق على أبواب سورية ولبنان، بدأ مسيحيو لبنان يشعرون بخطر قيام حكم عربي – إسلامي يشمل جبلهم فيخضعون بالتالي للشريعة، ويتعرّضون لاضطهاد أشد مما عانواه تحت الحكم العثماني. ولهذا، بدأ المسيحيون المؤيدون لفرنسا، يروجون لانتداب فرنسي على “لبنان”، فيما نادى المسيحيون الذين عاشوا في مصر بانتداب بريطاني.
5- أرسلان العروبي والاستعمار بعد الحرب العالمية الأولى
بعد سقوط الدولة العثمانية، تحوَّل فكر أرسلان من “الجامعة الإسلامية” و”الرابطة العثمانية” إلى العروبة، وإلى استقلال البلدان العربية ووحدتها وعدم وقوعها تحت حكم الاستعمار أو انتدابه. لكنه ظل يأمل بأن يتكلل التعاون بين الأقطار العربية للوصول إلى الوحدة، ما يؤدي إلى إحياء الخلافة الإسلامية. فدعم الحركة الوطنية وقادتها ضدَّ دول الاستعمار الفرنسي في أقطار المغرب العربي، أمثال عبد العزيز الثعالبي والحبيب بورقيبة في تونس، وعبد الحميد بن باديس وبشير الإبراهيمي ومصالي الحاج في الجزائر. وقد ناهض أرسلان السياسة الفرنسية هناك، وحثَّ على وحدة أقطار المغرب العربي لمقاومة الاستعمار، كخطوة ممهِّدة للوحدة العربية الشاملة بين أقطار المشرق والمغرب العربيين. وشنَّ خلال العشرينيات والثلاثينيات حملة ضدَّ سياسة فرنسا الاستعمارية في المغرب العربي لدى الرأي العام الأوروبي، ودعا العرب والمسلمين إلى مقاطعة سلعها وسلع وإيطاليا ومؤسَّساتها، معتبراً ذلك أمضى سلاح يمكن أن يحارب به المسلمون دول الاستعمار. وساند أرسلان دعوة محب الدين الخطيب بمشروعه “جهاد القرش”، أي عدم خروج قرش واحد من أموال المسلمين إلى الغرب. لكنه هادن بداية الاستعمار الإسباني لمنطقة الريف، إذ خشي من أن ثورة محليّة لطرده قد تأتي بالفرنسيين لاحتلال المنطقة. وكان يعلق الآمال على الجمهوريين الأسبان الذين وصلوا إلى الحكم في العام 1931. لكن هؤلاء تنكَّروا لوعودهم، ما جعل أرسلان يعارضهم، ويساند ثورة عبد الكريم الخطابي في الريف ضدَّهم.
وبالنسبة إلى المشرق العربي، دخل أرسلان في العام 1925 في مفاوضات مع المفوض السامي الفرنسي لسورية جوفنيل (Jouvenel) أثناء وجوده في جنيف، وقدَّم له برنامجاً لاستقلال سورية التام، مع إعطاء فرنسا فيها موقعاً تفضيلياً في المجال الاقتصادي بموجب اتفاق تحالف بينها وبين سورية المستقلة. وقد وافق المفوض السامي على العرض الأرسلاني، لكن الدوائر العسكرية والاستعمارية الفرنسية رفضته، ثم أتت حكومة بوانكاري (Poincaré) إلى الحكم، فعطَّلت الاتفاق.
وبالنسبة إلى إيطاليا، لا حاجة لتكرار دور أرسلان في دعم المقاومة الليبية بعد استيلائها على المناطق الساحلية من البلاد، وكيف أنَّه كان مع استمرار المقاومة المسلحة ضدَّ الإيطاليين، رغم تنازل الدولة العثمانية لهم عن “ليبيا”. ومنذ أوائل العشرينيات، عقد أرسلان لقاءات عدّة مع موسوليني بهدف الحصول على دعم ايطاليا للقضية السورية في المحافل الدولية. وقد فشل في التوسّط بين الزعيم الإيطالي وبين زعيم الحركة السنوسية أحمد الشريف السنوسي. لكنه هاجم في كتابه: “لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم”، وفي مقالات أخرى، فظائع إيطاليا في “ليبيا”، ودعا إلى مقاطعتها اقتصادياً، لعدم ايمانه بنجاح الثورة المسلّحة، فأثار الرأي العام الدولي ضدَّها، ما عَّرضة لهجوم الصحافة الإيطالية. لكن بعد لقائه موسوليني في العام 1934 والتفاهم معه على كثير من القضايا التي تخصُّ الشعوب العربية، وتلقيه الوعود من الدوتشي بتنفيذها، أصبح يعتقد أنَّ أيطاليا الفاشية هي أقلُّ خطراً على “الحركة العربية” من بريطانيا وفرنسا. وفي العام نفسه، كثفت إيطاليا من دعايتها بين العرب المسلمين، عبر افتتاح “إذاعة باري” (Radio Bari) التي كانت تُسمع على نطاق واسع في المغرب، وحصلت على تعاون أرسلان.
وفي حينه، اتهمت قيادات عربية أرسلان بأنَّه يبثُّ الدعاية للاستعمار الإيطالي في اريتريا ويمتدح حكمها هناك، ويهادن مخطَّطاته لاحتلال الحبشة الذي تمَّ خلال العامين 1935 و1936، حتى أنَّه وافق على بثِّ الدعاية الإيطالية في سورية لإثارة التنافس بين فرنسا وإيطاليا لاعتقاده أنه يفيد القضية العربية. وقيل إن أرسلان تلقى الأموال من موسوليني. لكن أرسلان نفى أن يكون داعية لإيطاليا، وإنَّما أراد المساومة بالقضية الحبشية من أجل موقف إيطالي مؤيّد للقضية السورية والفلسطينية. صحيح أن الأمير كان يتلقى الأموال من مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني ومن الخديوي عباس حلمي الثاني، ومن أصدقاء على سبيل الهبة أو الاستدانة، إلا أن أوضاعه المالية كانت سيئة منذ الأزمة الاقتصادية العالمية. حتى أنه رهن مصاغه، وناشد الحكومة الألمانية عن طريق المستشرق أوبنهايم السماح بتحويل أموال إيجار مبناه في برلين وقدره 2,300 مارك إلى سويسرا. وكان الأمير اشترى في العام 1921 عمارة في منطقة “فريديناو” (Friedenau) في برلين، مؤلفة من 20 شقة تسكنها عائلات ألمانية ليستنفع من إيجاراتها. لكن “دائرة الأملاك المبنية” في برلين فرضت عليه إصلاحات بسيطة فيها كلفته 4 آلاف مارك، فاستدان المبلغ من صديقه الدكتور ميخائيل بيضا. وفيما بعد أقدم أرسلان على رهن العمارة بمبلغ 40 ألف مارك، ليبني لنفسه منزلاً في صوفر أجّره بمبلغ 150 جنيهاً استرلينية في السنة.
وعلى الرغم من علاقته بدوائر استشراقية ودبلوماسية ألمانية قبل الحرب العالمية الأولى وخلالها وبعدها، فقد استهجن أرسلان سياسة جمهورية فايمر (Weimar Republik) في تشجيع الهجرة اليهودية إلى فلسطين وتدعيم الصهيونية العالمية مركزها في ألمانيا على الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية. وطالب “حكومة فايمر” بألا تصوّت ضد سورية في “عصبة الأمم”، وألا تتدخل من أجلها، بل بألا تصوّت ضدها. لكن الحكومة الألمانية أبلغت أرسلان بأنها لا تريد أن تنغمس في قضية الانتداب الفرنسي على سورية، وكانت في ذلك الحين خارج “عصبة الأمم”. كما عارض أرسلان “اتفاق الترانسفير” المعقود في العام 1933 (Haavara Transfer) بين “حزب العمال الوطني الاشتراكي” (Nationalsozialistische Deutsche Arbeiterpartei= NSDAP) بزعامة ادولف هتلر الذي وصل إلى السلطة في مطلع العام 1933، وبين “الوكالة اليهودية”، وأن تكون ألمانيا جنباً إلى جنب بريطانيا في عملية تهويد فلسطين. وقد بلغ عدد اليهود الألمان الذين هاجروا إلى فلسطين بموجب الاتفاق في الفترة ما بين 1933 و1941 (53,200) نسمة، شكلوا نسبة 25% من إجمالي اليهود المهاجرين إلى فلسطين في الفترة الزمنية تلك.
لقد كتب شكيب أرسلان إلى كورت بروفر (Kurt Prüfer) في الخارجية الألمانية يحتج على هجرة اليهود من ألمانيا إلى فلسطين. فرد عليه الدبلوماسي الألماني بأن بلاده تشجع بشكل عام هجرة اليهود من ألمانيا، لكن ليس لها تأثير على تلك الهجرة ولا تريد، وبأنها تبتعد عن التدخل في موضوع الهجرة الصهيونية إلى فلسطين. وبعد العام من توقيع الاتفاق الترانسفير، كتب أرسلان إلى صديق ألماني يشكو له سياسة بلاده تجاه تهويد فلسطين. وبعث برسالة مفتوحة إلى صحيفة “در رايشسفارت (Reichswart) الأسبوعية الناطقة باسم الاشتراكية الألمانية تطرَّق فيها إلى خطر الهجرة اليهودية على فلسطين. وأرسل إلى الحكومة الألمانية يطالبها بالحدِّ من هذه الهجرة. لكن ألمانيا نفت وجود مشروع لها لتهويد فلسطين أو أي بلد عربي.
وفي تشرين الثاني 1934، زار أرسلان ألمانيا طالباً مقابلة زعيمها هتلر ورئيس الوزراء لشرح القضية العربية والتعاون المشترك بين برلين والأقطار العربية، سورية وفلسطين، في حال اندلاع الحرب بين ألمانيا وبريطانيا. لكن طلبُه رُفض. وكرر أرسلان المحاولة مرة أخرى في العام 1938 دون نجاح. وقد انتقد أرسلان سياسة ألمانيا تجاه “الحركة العربية” وعدم إصدار تصريح واضح قبل الحرب وخلالها ينسجم مع تطلعات العرب بالاستقلال. حتى أنه أصبح في المرحلة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وخلال الأخيرة، أكثر انتقاداً لسياسة ألمانيا تجاه “الحركة العربية” مقارنة بالمرحلة السابقة وقبلها. فأصدر في العام 1941 بياناً ينتقد فيه ألمانيا، وجاء فيه: “إن المفكرين المسلمين كانوا ينتظرون من جانب ألمانيا حليفتهم الطبيعية أن يكون اهتمامها بالعالم الإسلامي، ولا سيما بالأمة العربية متناسباً مع أهمية المسلمين في العالم، وهذا ما لم يُعرف حتى الآن بصورة كافية”. وانتقد أرسلان كذلك بيان الخارجية الألمانية لتشرين الأول 1940 الذي سيأتي الحديث عنه، “باعتبار أنه لم يتكرر شيء في معناه، ولم يكن فيه الوضوح الكافي ليطمئن العرب إليه تمام الاطمئنان” وأضاف: “كان يمكن حكومة الرايخ أن تشفي غليل العرب ببيانات شافية تبين الخلاف العظيم الواقع بين بيانات انكلتره وأفعالها، وتصرح بأن ألمانيا لا تنوي مساعدة العرب على نيل استقلالات اسمية كاذبة كهذه، وإنما هي تنوي أن تساعدهم على تحقيق استقلالهم الفعلي حتى يكونوا كسائر الأمم الحرة المستقلة”.
صحيح أن “الحركة العربية” تطلعت، بسبب عدائها الواضح لبريطانيا وللحركة الصهونية، إلى ألمانيا النازية كحليف محتمل يمكن الاعتماد عليه في نصالها الوطني وللتصدي للمشروع الصهوني لتهويد فلسطين، إلا أن حكومة “الرايخ الثالث” بقيت متحفظة قبل الحرب العالمية الثانية وفي مطلعها تجاه إعطاء الوعود للعرب باستقلال، بسبب اعتقادها بإمكان عقد الصلح بينها وبين بريطانيا لتقاسم النفوذ في العالم وبالتالي عدم رغبتها بزيادة التوتر معها، وبسبب خشيتها في الوقت نفسه من إغضاب حكومة فيشي (Vichy) بإصدار تصريح يتضمن استقلال سورية ولبنان. لكنها تذرعت بعدم وجود موقف عربي موحد من تقرير لجنة بيل (Peel Committee) للعام 1937، والذي قضى بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، فضلاً عن تشرذم “الحركة العربية”، لتتنصل من إصدار تصريح يلاقي تطلعات العرب بالاستقلال وحماية فلسطين من التهويد. فوقفت موقفاً معتدلاً من المسألة الفلسطينية يميل إلى الغموض. لكن “مكتب الشؤون الخارجية” في “الحزب النازي الألماني” أقام علاقات قوية مع جماعات قومية عربية ذات أيديولوجيات فاشية. كما كانت ألمانيا النازية تأخذ في الاعتبار مطامع حليفتها إيطاليا في شرق البحر المتوسط. وما أصدرته الحكومة الألمانية مع إيطاليا من تصريح مشترك في 23 تشرين الأول 1940 حول “اهتمامها المستمر بنضال البلدان العربية في سبيل الحصول على استقلالها”، لم يُخمد غليل “الحركة العربية”. كان العرب يريدون اعترافاً ألمانياً – إيطالياً صريحاً باستقلالهم، بينما أرادت ألمانيا وإيطاليا استخدام التصريح في دعايتهما ضد بريطانيا، وليس للتعبير عن إستراتيجية سياسية أو عسكرية لمصلحة الأماني العربية.
وعلى الرغم من أن الأمير شكيب لم ينف علاقته بألمانيا ولا حماسه تجاه هتلر، فقد علقّ على التصريح الألماني – الإيطالي المشترك “بأن العرب لا يرون في الخطب الألمانية الرسمية، ولا في بلاغات الريخ شيئاً تقريباً يتعلق بهم، فكأنهم غير موجودين في الدنيا، مع أن ألمانيا تذكر أمماً صغير كثيرة لا نسبة بينها وبين المسلمين في الأهمية”. بالإضافة إلى ذلك، انتقد أرسلان سياسة ألمانيا بأنها وإيطاليا تركتا مسلمي البوسنة والهرسك في مناطق احتلالها في البلقان يُذبحون خلال الحرب العالمية الثانية على أيدي الصربيين والكرواتيين، من دون أن تتخذ إجراءات لحمايتهم أو تقديم الأسلحة لهم للدفاع عن أنفسهم. لقد سوّغ أرسلان غيرته على المسلمين انطلاقاً من مقولة إن العرب على رأس الأمة الإسلامية في العالم البالغة 400 مليون نسمة، متكافلون ومتضامنون مع هذه الأمة الإسلامية. و”هذا العالم الإسلامي مرتبط بالعالم العربي ارتباطاً تاماً، بل العالم العربي هو من العالم الإسلامي، بمنزلة الرأس إلى الجسد”، كما جاء في بيان له.
مع ذلك، وجه أرسلان كل اهتمامه إلى قضيتين محوريتين: عروبة فلسطين وحمايتها من المشروع الصهيوني المدعوم من بريطانيا والولايات المتحدة، ومناهضة الانتداب الفرنسي على سورية، وبخاصة خلال الثورة السورية ضد الفرنسيين في العام 1935، وقصف دمشق بشكل وحشي من قبل الطائرات الحربية الفرنسية.
هذا الرجل الذي رافق إمبراطور ألمانيا إلى فلسطين، واعتبر ألمانيا “البلد الذي يحبُّه كثيراً”، وأدى خدمات كثيرة في سبيل توطيد العلاقات بينها وبين الدولة العثمانية وبينها وبين “الحركة العربية”، وكان صديقاً حميماً لماكس فون أوبنهايم، الخبير في شؤون الشرق الإسلامي، تعاملت ألمانيا معه ومع غيره من رجالات الحركة العربية على أنَّهم مجرد مصادر للمعلومات أو أدوات للدعاية وليسوا حلفاء. وفي العام 1938، رفضت رئاسة الوزراء الألمانية وشرطتها الأمنية وساطة ضابط ألماني من أجل زيارة أرسلان إلى برلين بصفته زعيم “الحركة العربية”، أو حتى استقباله كضيف رسمي بدافع مقابلة هتلر وقيادات ألمانية ليعرب لها عن أمنياته الطيبة بضم ألمانيا النمسا إليها. وفي حين اعتبرته القيادة العسكرية العليا في وزارة الحرب الألمانية أنه “شخص غير موثوق” فيه، وأن وسيطه الضابط أوتمار فون غومبنبرغ Ottomar von Gumppenberg)) مشبوه، رأت وزارة الخارجية الألمانية في المقابل أن أرسلان صديق لألمانيا، لكن كان عليه أن يسلك طريقاً آخر غير غومبنبرغ. وفي مراسلتها مع الشرطة الأمنية، استدركت الخارجية الألمانية بأن أرسلان أصبح “رجلاً طاعناً في السنِّ يجب ألا يُعطى قدراً أكثر من حجمه”. وفي هذا المعنى، أوقفت الحكومة الإيطالية في العام 1941 دعمها المالي عن أرسلان، مسوغة ذلك بأنَّه لم يعد يؤدّي دوراً في الحياة السياسية لسورية.
هكذا، انتهى شكيب أرسلان، في نظر السياسة الألمانية، رجلاً طاعناً في السنّ غير موثوق فيه وغير مفيد لمصالحها، بعدما كان من أكثر المروجين للصداقة بين ألمانيا والشعوب الإسلامية، وقدّم من أجل ذلك خدمات جليلة لها. وكان عليه في السنوات المتبقية من عمره في جنيف أن يواجه مؤامرات لضرب ما تبقى من مصداقية له عند ألمانيا. فاتهمه تقرير مجهول المصدر رفعه الأمن الألماني إلى رئاسة الوزراء بأنه يخضع لنفوذ إميل خوري مراسل جريدة الإهرام الذي رأت فيه دوائر ألمانية بأنه على تواصل مع أجهزة الاستخبارات البريطانية في المنطقة. وفي العام 1941، طالب السياسي الفلسطيني جمال الحسيني الألمان، نيابة عن المفتي الحاج أمين الحسيني، بعدم التعامل مع أرسلان في ما يتعلّق بالقضية العربية. وأوضح رئيس الأمن (Sicherheitsdienst) للدوائر الحكومية الألمانية، بناءً على تقارير تحمل على أرسلان، أن أية مبادرة ألمانية وضعت في السابق بين يدي أرسلان كان مصيرها الفشل، و”إن العرب من شمال سورية حتى مصر ينظرون إليه (أرسلان) على أنه شرلطان، ولم يعد موثوقاً به للتعاطي مع مسائل سياسية جدية”. فردت الخارجية بأن التقرير الموضوع ضد أرسلان لا بد أنه كتب من أحد خصومه، وأنه لا يمكن القبول بفحواه قبل توضيح هوية الشخص الذي كتبه.
أما بالنسبة إلى علاقة أرسلان ببريطانيا بعد الحرب العالمية الأولى، فبقيت على حالها متوتّرة كما كانت قبلها. لكن العامل الجديد الذي فجر العلاقة بينهما كان “وعد بلفور” وتداعياته، وقد اعتبره أرسلان خيانة للعرب. وقد رفض الأمير انتداب بريطانيا على فلسطين واتهمها بأنَّها تعمل على تحقيق الوطن القومي اليهودي، وتستخدم دعاية منسقة مع اليهود مبنية على التضليل وقلب الحقائق، وشراء الضمائر. وقال في العام 1936 إنَّ صكَّ انتدابها على فلسطين مخالف للشرعية الدولية لتناقضه مع ارادة الشعب الفلسطيني في أن يختار حكومته المنتدبة بنفسه، معتبراً أنَّ الانتداب مجرد صيغة استعمارية دولية لتقاسم البلاد العربية أُلبست لباس “عصبة الأمم”.
وبسبب مواقفه الرافضة للهيمنة البريطانية على بلدان عربية، وبخاصّة مشروع بريطانيا لإنشاء كيان صهيوني في فلسطين، منعت بريطانيا أرسلان من دخول البلاد العربية التي تسيطر عليها. ومنع كذلك من دخول فلسطين. وقد بقي أرسلان طوال الوقت خارج البلاد العربية بسبب منعه أيضاً من قبل الفرنسيين من زيارة سورية ولبنان.
6) مواقف أرسلان من الصهيونية ومشروع تهويد فلسطين
شكَّلت المسألة السورية والقضية الفلسطينية بعد الحرب العالمية الأولى ثنائية عروبية بالنسبة إلى شكيب أرسلان. فسورية قطر عربي يعاني من التجزئة بفضل فرنسا، وفلسطين مستهدفة بالمشروع الاستيطاني الصهيوني وبتآمر دول الاستعمار معه، وبخاصة بريطانيا والولايات المتحدة. واللافت أن ألمانيا القيصرية رفضت خلال الحرب مشروع الصهيونية لتهويد فلسطين، انطلاقاً من رغبتها في عدم تعكير علاقاتها مع الدولة العثمانية. لكن تحولاً طرأ على موقفها هذا منذ العام 1913، حين استحدثت “دائرة شؤون اليهود” في وزارة الخارجية، كنوع من التعاطف مع اليهود. فتابعت هذه الدائرة خلال الحرب مسألة حماية المستوطنات اليهودية في فلسطين ضد سياسة جمال باشا. وبعد صدور “وعد بلفور” في العام 1917، وجدت ألمانيا نفسها مضطرة لمنافسة عدوتها بريطانيا وإصدار”وعد بلفور ألماني” في محاولة لكسب اليهود الأميركيين إلى جانبها. فاستغلت زيارة الصدر الأعظم طلعت باشا إلى برلين في كانون الثاني 1918، وإعلانه أن الحكومة العثمانية سوف تعيد النظر في موقفها من اليهود حالما تنتهي الحرب “بصورة تحقق أمانيهم”، وأصدرت تصريحاً رسمياً جاء فيه أن وجهة نظرها تتفق مع تصريح الصدر الأعظم حول “تنمية استقرار يهودي مزدهر في فلسطين من خلال الهجرة غير المقيدة والاستيطان ضمن قدرة البلاد الاستيعابية، وقيام حكم ذاتي يتفق وقوانين البلاد والتطور الحر لحضارتها”. واللافت أيضاً، أننا لم نعثر على موقف للأمير أرسلان من التصريح الألماني، ولا من التصريح العثماني.
وبسبب استهدافها غير المحق لفلسطين، اعتبر أرسلان الصهيونية شكلاً آخر من أشكال الاستعمار مهما اختلفت جنسيته، لكنها أشدَّ خطراً، لأنَّها تعمل على إنشاء دولة عنصرية والاستيلاء على أرض فلسطين وتهجير السكان الأصليين. وأدرك قبل غيره أنَّ مشروع تهويد فلسطين نشأ نتيجة التقاء مصالح الحركة الصهيونية والامبريالية العالمية والشيوعية الدولية، وأنَّ واجبه يحتم عليه أن يكشف للرأي العام الأوروبي حقيقة التضافر بين الصهيونية والاستعمار.
وفي تاريخ مُبكِّر، وربما قبل غيره، أدرك أرسلان أهداف المشروع الاستيطاني الصهيوني. فعندما كان نائباً عن حوران في البرلمان العثماني، رفض السماح ببيع أرض إلى اليهود قرب بلدة طبرية. وقد أدرك الأمير جوهر الصهيونية وأساليبها وممارستها وأهدافها، فقال: “ممَّا لا خلاف فيه إنَّ الصهيونية في فلسطين اعتداء محض، وتجاوز بحت، لا يفترق بشيء عن اعتداء لصِّ من قطاع الطرق على عابر سبيل يسلبه ماله وثيابه… والذين يدعون بعد ذلك إلى الصلح بين العرب واليهود، هم أشبه بمن يدعون عابر السبيل المسلوب ماله، والمجرَّد من ثيابه إلى مصالحة اللصِّ الذي اعتدى عليه”.
لقد جعل أرسلان من مجلته “الأمة العربية” منبراً لإيصال صوته وفكره إلى الأوروبيين، والكشف بشكلٍ خاصٍ عن عداء الشيوعية والصهيونية المشترك للإسلام. ومن جنيف، أخذ يحارب فكرة عودة اليهود إلى فلسطين. وقال في إحدى مقالاته مستشرفاً المستقبل الذي تسعى إليه الصهيونية: “هل يجهل هؤلاء أنَّ حقيقة هذا المشروع (تهويد فلسطين) تتعلّق بتحويل الأغلبية العربية إلى أقليّة في فلسطين” لحساب الوطن الصهيوني”. وتساءل في مقال له: “إذا كان قد حُكم على اليهود بالشتات، أفيكون العرب مسؤولون عن ذلك؟ أيجب أن يُعاد شمل هذه الملّة على حساب العرب؟” ويضيف: “كان أولى بالأوروبيين الذين يعطفون على اليهود أن يعيدوا إليهم حقَّهم الضائع من كيسهم لا من كيس غيرهم”.
وبعد ثلاثة عقود من هذا الاقتباس لأرسلان، تمنَّى عالم الإسلاميات الألماني الراحل فريتز شتبات (Fritz Steppat) لو أنَّه جرى دمج اليهود في مجتمعاتهم الأوروبية، لكان وفرَّ ذلك مشكلة خطيرة على العالم. وأضاف: “إنَّ إصرار اليهود على وطن قومي لا يسوغ لهم الاستيلاء على فلسطين. فكان عليهم أن يفتشوا عن أرض خالية حيث لا يواجهون مقاومة. لكن شتبات يستدرك بأنَّ القومية ليست عقلانية على الدوام”. وقد انتقد العالم الألماني أخلاقيات بريطانيا بإصدارها “وعد بلفور” بالقول: “كيف يمكن لقرار (وعد بلفور) … هدفه إصلاح خطأ تجاه اليهود أن يتجاهل الحقيقة بأنَّه من خلال محاولة …الإصلاح هذه، جرى ارتكاب خطأ جديد ضدَّ الآخرين” (الفلسطينيين). ويضيف: “إنَّ العالم انتزع من عالمهم (العرب) قطعة أرض من أجل حلِّ مشكلة لا علاقة لهم بنشوئها”. وخلص شتبات إلى نفس استنتاجات شكيب أرسلان المُبكِّرة، بأَّنَّ الكيان الصهيوني هو غريب عن المنطقة ومتحالف مع الإمبريالية، وزرعَه في قلب الأمّة العربية هو ضدَّ حركة التاريخ التي كان يجب أن تؤدّي إلى إعطاء الشعب الفلسطيني استقلاله الوطني وحقَّه في تقرير المصير. ويختم شتبات بالقول: “لايمكننا … أن نتجاهل أنَّ إنشاء الدولة اليهودية قد انتهك حقوقاً عربية حيوية، حيث يشعر العرب أنَّهم مهدَّدون من خلال ذلك، وأنَّ اعتداءً قد أصاب كرامتهم، وإنشاء إسرائيل هو سبب النزاع في الشرق الأدنى”، أي تماماً كما توقّع أرسلان قبل ثلاثة عقود من إنشاء دولة إسرائيل.
وفيما أكد الباحث الألماني الراحل شتيبات مسؤولية ألمانيا عن تهويد فلسطين عبر اضطهاد اليهود عندها وبالتالي تسهيل هجرتهم إلى فلسطين، اتهم أرسلان في العام 1942 ألمانيا النازية، التي تتطلع إليها “الحركة العربية”، “بالسكوت التام عن قضية فلسطين”. وقال:”أننا لم نقرأ كلمة واحدة فقط لألمانيا تتعلق بمصير فلسطين بعد نهاية هذه الحرب”. وتساءل: هل إن الصمت عن تهويد فلسطين يعود إلى مراعاة ألمانيا بريطانيا وسعيها إلى الصلح معها؟ ويضيف: “هل سكوت ألمانيا هذا عن التصريح بوجوب إبقاء فلسطين بلاداً عربية محضة، كما هو حقها الشرعي، مبني على مداراة الأنكليز”؟ فيرى استحالة عقد الصلح بينهما لوجود “صراع حياة أو موت (بينهما) لا ثالث لهما”، فيما هناك عداوة تاريخية تجمع ما بين ألمانيا واليهود. من هنا، طالب أرسلان ألمانيا “بإبطال المشروع الذي يقال له الوطن القومي الصهيوني”. وعلى ما يبدو، لم يكن أرسلان مقتنعاً بما يروجه رجال الدبلوماسية الألمانية في الشرق العربي حول أن ألمانيا أعلنت أموراً كثيرة من المسائل التي تنوي تحقيقها للعرب، وأنها لا تنتظر نهاية الحرب. ويختم أرسلان بدعوة ألمانيا إلى اثبات صداقتها للعالمين الإسلامي والعربي “بإعلان نيتها مساعدة الأمة العربية على نيل استقلالها التام الناجز في سورية والعراق ومصر وفلسطين، مع عزمها على أن تعاون العرب على إلغاء الوطن القومي الصهيوني بتاتاً، وأن تساعد الدول العربية المستقلة كالدولة السعودية والدولة اليمنية على تعزيز استقلالها الحاضر بالأسلحة والأعتدة العصرية”. وفي مقابل ذلك، أكد أرسلان: “نحن (العرب) أصدقاء ألمانيا من المسلمين نحب أن يكون العالم الإسلامي حليفاً …لألمانيا يتضامن معها في الخير والشر”.
وكلما انغمس أرسلان أكثر في الدفاع عن فلسطين، كلَّما برزت عروبته بوضوح أسطع. فقبل وفاته بساعات قليلة في التاسع من كانون الأول 1946، قال لصديقه عبد الله المشنوق: “أوصيكم بفلسطين”. ولم تكن هذه الوصية لصديقه، بل للأمة العربية كلها وقادتها، ذلك أنَّه اعتبر مصير الأمة العربية مرتبط بفلسطين، وأن العرب لن ينالوا الحرية إلا بإنقاذ فلسطين، وطريقة إنجادها لا تكون إلا بعمل حازم من الدول العربية. فإذا انتصر الشعب الفلسطيني، أضاف أرسلان، فإنَّ العرب هم المنتصرون في النهاية. لكنه اعتبر مصير فلسطين مرتبط بنبذ العرب والفلسطينيين الشقاق والخلافات في ما بينهم، والتفكير العلمي العقلاني. وهذه المسألة الأخيرة مهمّة بالنسبة إلى فكر أرسلان الإصلاحي.
لقد عاب البعض على أرسلان زيارته إلى مستوطنة يهودية في فلسطين، وإبداء إعجابِه بالتنظيم التعاوني فيها. وفي رسالة له إلى صديقه نبيه العظمة، لفت أرسلان نظر العرب الفلسطينيين إلى تفوّق اليهود في مزارعهم في فلسطين، مطالباً إياهم بالاحتذاء بهم، لأن الزراعة وتحديثها بالآلات الزراعية هي ضمان لمستقبل فلسطين ومواجهة الخطر الصهيوني، وكذلك التصدي لمقولة الصهيونية بأن فلسطين: “أرض بلا شعب لشعب من دون أرض”. والواقع لم يكن اعجاب أرسلان موجّهاً لليهود، بقدر ما كان دعوة العرب إلى العلم والتنظيم والتعاون، كأهم عامل في عملية التحرّر. واعتبر أنَّ المعرفة والاستقلال توأمان لا يفترقان، واستقلال العرب وحده لا يكفي، بل يجب أن تسود المساواة التامة والوحدة بين الطوائف والمذاهب وبخاصَّة في فلسطين.
هذا الموقف من العلم والمعرفة والتنظيم هو موقف إصلاحي لأرسلان ينسجم مع كتابه: “لماذا تأخر المسلمون وتقدَّم غيرُهم”. من هنا، تعمَّد الأمير المقارنة بين اليهود والعرب لحثَّ الآخرين على تغيير حالهم. فاليهود متفوقون لأنَّهم منظَّمون ويمتلكون برنامجاً لتهويد فلسطين، ويضحّون بالغالي والنفيس من أجل ذلك. أما حركة النضال الفلسطيني ضدَّ الصهيونية، فلا تمتلك برنامجاً، والأحزاب الفلسطينية منقسمة على بعضها البعض. وأعطى أرسلان مثالاً على ذلك من خلال عقد المقارنة بين اليهود والعرب عقب اشتباكات البراق في العام 1929. فالتبرّعات التي حصل عليها الفلسطينيون المنكوبون بلغت نحو ثلاثة عشر ألفاً من الجنيهات، وما حصل عليه اليهود المستهدفون في الثورة نفسها من أبناء جلدتهم أكثر من مليون جنيه.
لقد كان شكيب أرسلان عروبياً مؤمناً بالقضية الفلسطينية يدافع عنها حتى تجاه المتخاذلين من القادة العرب. فرفض ضغوط عباس حلمي الثاني عليه إبّان الأزمة الاقتصادية العالمية التي سببت انهيار مالية الأمير. وكان الخديوي قد هدّد أرسلان بقطع معونته عنه إذا لم يستجب لطلبه بشأن نشر دعوة التصالح بين العرب واليهود، وإقناع عرب فلسطين بالنزوح إلى شرق الأردن، والسعي لإقناع الزعماء الفلسطينيين بعدم جدوى مقاومة المشروع الصهيوني. فرفض أرسلان ذلك رفضاً قاطعاً، رغم أنَّ الخديوي كان ضيفاً عليه في جنيف. وقال: “كيف يؤمل من أمير مسلم أن يسعى إلى إخراج المسلمين من فلسطين؟ أهذه المبادئ يرجو أفندينا أن يكون له شأن في بلاد الإسلام؟” وكان يراه متقلب الأفكار والأهواء بين ألمانيا وبريطانيا، ومتهوراً ومحباً للانتقام. فاتهمه الأمير شكيب بأنه يميل في كل مرة إلى الجهة الراجحة في الحرب. وقد استهجن أرسلان ضبطه كزعيم عربي – إسلامي بتهريب الذهب والعملة في سيارته ما بين سويسرا وفرنسا. أما عن مد الخديوي أرسلان بالمال، فقد سوّغ أرسلان قبوله المال منه بأنَّه للصرف على استقلال سورية. إشارة إلى أنَّ أرسلان باع مزرعته بـ 1,400 جنيه ورهن بيته في برلين بـ 2,000 جنيه.
يبرز دور أرسلان في التصدّي للحركة الصهيونية بوضوح خلال العام 1934، عند مقابلته مع إحسان الجابري بن غوريون في جنيف، حين عرض عليهما الزعيم اليهودي تهويد فلسطين بستة ملايين يهودي كمشروع حتمي لا بدَّ منه ويحظى بدعم بريطانيا والدول الكبرى. ولإغراء أرسلان، تعهّد بن غوريون، كما سبق وتعهّد تيودور هرتزل للسلطان عبد الحميد الثاني قبل أكثر من نصف قرن بتسديد ديون السلطنة لقاء الحصول على فلسطين، باستعداد اليهود دعم استقلال العرب وتقديم القروض لهم، في مقابل موافقتهم على مشروعهم الاستيطاني في فلسطين. إشارة إلى أنَّ الزعيم الصهيوني وايزمان حثَّ فرنسا على عدم إعطاء سورية استقلالها، وهو ما تناقض مع تعهّد بن غوريون.
لقد رفض أرسلان بشدّة عرض بن غوريون، معتبراً أنَّ العرب سينالون استقلالهم بأنفسهم ولا حاجة إلى قروض الصهيونية. وكتب الأمير إلى أكرم زعيتر، أحد قيادات حركة القومية العربية، واصفاً مجاهرة اليهود بصهينة فلسطين بالعمل العدواني الوقح، وقال مستشرفاً ما يحصل اليوم في ما تبقى من فلسطين، من استيلاء إسرائيل على كلِّ أراضي الفلسطينيين وطردهم وقتلهم لتحقيق مشروع “الدولة اليهودية”: “إنَّ الخطر على فلسطين أصبح مفروغاً منه، إذ كان اليهود يتستّرون بعض الشيء في نواياهم، أمَّا الآن فأصبحوا يعلنون بدون تردّد َّهم آتون إلى فلسطين بستة ملايين، شئنا أم أبينا”. وفي مذكراته، كتب زعيتر معبَّراً عن الندم الذي يجب على العرب والفلسطينيين أن يشعروا به بسبب عدم الاستماع إلى تحذيرات أرسلان حول تضافر جهود الإنكليز والأميركيين والصهيونية في مشروع تهويد فلسطين. وفي حينه طرح زعيتر في يومياته السؤال التالي: “هل من الممكن إبقاء عرب فلسطين كرعايا للمملكة اليهودية، أم يجب إجلاؤهم عنها لأجل استكمال طمأنينة اليهود على مملكتهم الجديدة؟” فمن أهداف السياسة الإسرائيلية الراهنة، إجلاء كلّ الفلسطينيين عن بلدهم وإعلان كلّ فلسطين دولة يهودية.
وخلال الحرب العالمية الثانية، أصبحت الولايات المتحدة الداعم الرئيس للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، وضغطت على بريطانيا كدولة منتدبة لفتح أبواب فلسطين أمام الهجرة اليهودية. وقد ربط أرسلان بين تأييد الولايات المتحدة تهويد فلسطين بمشروعها مد أنابيب النفط من المملكة العربية السعودية إلى ساحل البحر المتوسط في فلسطين، بعدما اعتبرت واشنطن أن الحفاظ على استقلال السعودية يدخل ضمن مصالحها الحيوية في الشرق الأوسط، ما يتطلب الدفاع عنها. وأعلن الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت (Franklin Roosevelt) في شباط 1943 إن السعودية “أصبحت من الآن وصاعداً ضرورة حيوية للأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية”.
لقد رأى الأمير شكيب في مشروع البابلاين (Pipeline) إلى المتوسط “حيلة صهيونية” لتوطيد النفوذ الأميركي الداعم لليهود ليحل محل النفوذ البريطاني. وفي هذا المعنى كتب إلى المفتي الحسيني يقول له: “فإذا سلّم الملك عبد العزيز بهذا الامتياز (إعطاء حق التنقيب عن النفط واستخراجه في بلاده إلى الأميركيين) دون أن يشترط تخلي أميركا عن القضية الصهيونية، يكون قد باع فلسطين من وايزمان وأمثاله دون أن يشعر”. وأضاف الأمير: “إن مساعدة الحكومة الأميركية للصهيونية قد تجاوزت حد التعضيد السياسي والكلام، ودخلت في شكل تسليح وتجنيد”.
نة السيء والأسواء، فضّل أرسلان “الكتاب الأبيض” البريطاني، الذي يعطي اليهود ثلث فلسطين، على التغلغل الأميركي في البلاد العربية القائم على مناصرة الصهيونية ودعمها للاستحواذ على كامل فلسطين، معتبراً أن بريطانيا التي هي أصل البلاء أصبحت “أخف شراً” مقارنة بأميركا. وفي 19 كانون الأول 1945، أصدر الكونغرس الأميركي قراراً رسمياً صريحاً حول سياسة الولايات المتحدة المقبلة تجاه فلسطين، ويقضي بجعلها وطناً قومياً لليهود عبر فتح أبوابها أمام هجرتهم إليها.
وبين الحربين العالميتين الأولى والثانية، لم تلق تحذيرات أرسلان من الصهيونية استجابة قومية عربية، فضاع نصف فلسطين. واليوم تبقى تحذيرات أرسلان صائبة وقائمة، ويُخشى أن يضيع النصف الآخر من فلسطين، فيما ينشغل العرب بربيعهم الذي تحول شتاءً دموياً. وعندما أقام الملك عبد العزيز مأدبة في جدّة لشكيب أرسلان في أواخر حزيران 1929، قال عنه في تلك المناسبة: “”لا يوجد مخلص يقول كلمة سوء في حق الأمير شكيب، وهيهات لخصومه أن يستطيعوا النيل منه، فنحن نعرف الأمير وأنه مجاهد حقاَ، فإذا كانوا إخوانه أحرار العرب يدافعون عن وطنهم فالأمير يدافع أكثر منهم، ويزيد عجبهم بأنه يهاجم خصوم القضية في وسط أوروبا. وأنا إن عينت سفراء، فسوف يكون الأمير أول من أرجوه قبول ذلك لأن فيه كلَّ المؤهلات ولا يوجد الآن عند العرب مثله”.
لقد ثبت استشراف أرسلان في شأن القضية الفلسطينية، وثبتت قناعات “المنظَّمة الصهيونية” في أرسلان بأنه ليس الشخص المناسب الذي يبيع فلسطين بأي ثمن. يقول بن غوريون في كتابه (My talks with Arab Leaders): “في حين كانت محادثاتي الأولى مع موسى العلمي ورياض الصلح وعوني الهادي قد عزَّزت الاعتقاد بإمكان التوصّل إلى تفاهم ثنائي، فإنَّ اللقاء مع الشيخ شكيب أرسلان قد بدَّد هذه الآمال”. هذه المقاومة الأرسلانية لم تجد نفعاً أمام تخاذل الدول العربية والحركة الوطنية الفلسطينية وتآمر الدول الكبرى على عروبة فلسطين. فصرح بن غوريون في تل أبيب، بأن “الصهيونية قد انتهت من وضع خطتها النهائية لإعلان فلسطين دولة يهودية، وأن اليهود لا يستغنون عن أي قسم منها، حتى ولو كان قمم الجبال أو أعماق البحار”.