خالد غزال
(كاتب وباحق- لبنان)
يُطرح سؤال عن صحة إطلاق صفة المواطن على اللبناني، وهل بات لها أساس في الانتساب؟ بعيداً من العدمية المطلقة في الجواب، لا بد من القول إن المواطنية اللبنانية لم تعد تلك الصفة الجامعة التي يلتقي اللبنانيون تحت خيمتها. إذا كانت القوانين الوضعية المنصوص عليها في الدستور وسائر التشريعات تشكل الأساس في تحديد المواطنية، فإن هذه القاعدة باتت شبه متلاشية. فمرجعية اللبناني اليوم هي المؤسسات الطائفية والمذهبية، بحيث يتحدد موقع اللبناني استناداً إليها وليس إلى القانون.
قديماً أطلق عالم القانون الدستوري إدمون رباط تعبيره الشهير: «يولد اللبناني ويعيش ويموت طائفياً»، وهو تعبير يتجدد عاماً بعد عام ويكتسب قوى من جميع مكونات المجتمع اللبناني. تعبير الانتماء الطائفي السائد قبل الحرب الأهلية يعتبر خطوة متقدمة عن المرحلة الراهنة التي تحول الانتماء فيها إلى المذهب، بحيث لم يعد يكفي للتعرف إلى اللبناني من خلال طائفته، بل يحتاج إلى إبراز مذهبه وبلورته كل يوم.
وعندما يتراجع القانون في تحديد المواطنية لمصلحة المذهب والطائفة، يترتب على ذلك تغيير في النظرة إلى الآخر غير المنتمي إلى هذا المذهب. يستبدل العيش المشترك بالانغلاق والتعصب الأعمى تجاه اللبنانيين بعضهم لبعض، ويرتفع منسوب الحقد والكراهية بين الطوائف والمذاهب، بما يجعل هذه المواطنية خارج التاريخ كلياً. يستتبع هذا الانغلاق ارتفاع جدران العنصرية على مختلف درجاتها، فلا تبقى متركزة على الخارج والغريب، بل تصبح قانوناً يحكم اللبنانيين بين بعضهم البعض.
لعقود سبقت، وخلال السنوات الخمس الأخيرة، ازدادت النظرة العنصرية اللبنانية تجاه ما كانت تسميه قوى سياسية أيام الحرب بـ «الغرباء»، وكان هؤلاء من الفلسطينيين والسوريين، بل وسائر العرب من غير اللبنانيين. لم تتقلص العنصرية اللبنانية تجاه هؤلاء، بل ارتفع منسوبها إلى أقصى الدرجات. لكن العنصرية اللبنانية وتعبير الغرباء تطورا على يد اللبنانيين ليطاولا شعوبهم القائمة على أرض الوطن. باتت كل طائفة تنظر إلى الأخرى على أنها الخصم إذا لم نقل العدو، والأسوأ أن الانقسام داخل كل طائفة إلى مذاهب اتخذ موقعه في شكل واسع، فبات الأعداء والأخصام بين المذاهب المختلفة من الطائفة نفسها. استحضر كل مذهب موروثاً تاريخياً من الخصام والعداوة، وسيّجه بمنظومات أيديولوجية من أجل إثبات الحقيقة المطلقة لكل واحد. بات المشهد اللبناني قائماً على مجموعات الطوائف والمذاهب التي تدعي كل واحدة منها امتلاك الحقيقة، فيما يقع الآخر في الضلال. لا تنتج هذه النظرة سوى الكراهية المقرونة بالتكفير والهرطقة والزندقة، بما يبرر قتل هذا الآخر المختلف واضطهاده.
عندما تصل الشعوب اللبنانية إلى هذا المستوى من التفكك والتذرر الطائفي والاجتماعي، لا يعود غريباً أن يتحول الولاء إلى مكونات ما قبل الدولة، أي إلى العصبيات العشائرية والقبلية المحمية بسلطة الطوائف الدينية. منذ تأسيس الكيان اللبناني وبعد نيل الاستقلال، كان هناك تناقض دستوري – سياسي قائم في البلد. فالدستور ينص على حقوق مواطنية كاملة، فيما «الصيغة» التي شكلت الدستور الحقيقي تقوم على تمييز المواطنية في الحقوق، وتضرب منطق المساواة بين اللبنانيين لدى تكريسها حقوقاً لطوائف ومنعها عن طوائف أخرى. استفحل هذا التمييز بعد اتفاق الطائف الذي نظم المحاصصة الطائفية في شكل صريح، بما وضع المواطنية في أدنى درجاتها. هكذا تحوّل الولاء اللبناني، من الدولة ومؤسساتها إلى الطوائف ومؤسساتها. وهو تحول زاد من تفكك المجتمع اللبناني إلى أبعد الحدود، وطاول هذا الولاء السياسة والاقتصاد والأمن… بحيث اكتسحت هذه الطوائف ومؤسساتها ما كانت الدولة تمثله من مساحة مشتركة بين اللبنانيين.
ختاماً، وفي العودة إلى الفقرة من الدستور التي تتناول كون «لبنان جمهورية ديموقراطية برلمانية»، فان الواقع اليوم لا يصب في صحة هذا التوصيف. اختفت الديموقراطية والبرلمانية وتعطلت مؤسسات النظام، وبات التقاسم الفئوي القانون العام الذي يسود البلاد ويحكم اللبنانيين، إلى أمد غير منظور.