الأب كميل مبارك
حينَ أَعْلَنَ غبطة البطريرك منذ ما يقارب السَّنة تكريسَ لبنان إلى قلب مريم الطاهر، شارك كثيرون في الصَّلوات والزِّياحات تعبيرًا عن إيمانهم بفِعْلِ التَّكريس ومفاعيلِه، لَيْسَ على صعيد الفَرْدِ فحَسْب، بل على صعيدِ الجماعة،
وحينَ يُكَّرَّسُ وَطَنٌ لقلب مريم الطاهر، يَطول هذا التَّكريس جميعَ النَّاس في هذا الوطن، أآمَنوا بالتَّكريس أَمْ لمْ يؤْمِنوا، وحينَ يصلِّي المُؤْمنون به، يشملون بصلواتِهِم أُولئِكَ الَّذين لا يُؤْمنون، معتقدين صادقين أَنَّ النِّعَمَ الإلهيَّة لا تكون حَصْرِيَّة في معظم الأَحْيان إنَّما هي لأَبْناءِ البَشَر أَجْمَعين، وهي دَعْوَةٌ لهم ليكونوا واحدًا حَوْلَ إلَهِهِم الواحد، وأَبناءَ محِبِّينَ للعذراءِ مريم الشَّفعية الأَكرم عند ابْنِها الفادي.
وبعد ذاك التَّكريس جاءَ النِّداءُ مؤخَّرًا لتجْدِيدِه بالمَسيراتِ والزِّيارات والزِّياحات، فَحَمَل المُؤْمِنون تمْثالَ عذراءِ فاطيما يَجولونَ به من بلْدَةٍ إلى بَلْدَة ومن كنيسةٍ إلى أُخْرى تبرُّكًا واسْتِمْطارًا لِنِعَمِ الرِّضى وعَيْشًا للسَّلامِ الدَّاخلي، عَلَّه ينعكسُ سلامًا خارجيًّا يعمُّ لبنان ويُطْفِئُ لَهيبَ الحروب المتأَجِّجَة في مناطقَ كثيرةٍ من العالم.
جميلةٌ هذه الظَّاهرة ومُلْفِتَةٌ هذه التَّظاهُرات الروحيَّة مَهْمَا بَدَا علَيْها من أَوْجُه الاضْطِراب الإيمانيِّ الَّذي يُحوِّل صِدْقَ القلوب إلى مَهْرجاناتٍ فارِغَة من أَهْدافِها الأُولى الَّتي بُنِيَ علَيْها فِعْلَ التَّكريس، ولكنَّها على الرغم من كلِّ الشَّوائِب تَبْقَى تعبيرًا عن حبِّ البَنينِ لأُمِّهم وتكريمًا لها صادرًا أَو مدفوعًا بطلباتٍ كثيرة يرغَبُ النَّاسُ إلى أُمِّهم تلْبِيَتَها.
هكذا إذًا جالَت العذراءُ في لبنان، وبعد كلِّ زيارةٍ يعود النَّاسُ إلى حياتهم اليَوْمِيَّة مِثْلَمَا كانَتْ قَبْلَ الزِّيارة، مليئَةً بالهموم والهواجس، مَصْحوبةً بالأَخطاءِ والخطايا، وكأنَّ التَّكريسَ فعلٌ خارجِيٌّ لم يُصِب القلوبَ إلاَّ في ما نَدَر، ولم تظْهَرْ علاماتُ تأْثيره في مسيرةِ الوطن على جميع الصُّعُد، فالعُقَدُ لم تُحَلّ، والأَمْنُ لم يستَتِب، والحاجات لم تُلَبَّ، والفَقْرُ لم يُكافَحْ، والشَّعْوَذاتُ في مرايا الإيمانِ تلمع، وزادَ النِّفاقُ واتَّسَعَ الشِّقاق، وهموم النَّاسِ ما زالت كما كانت تَنْمُو وتزداد، وآذانُ المَسْؤُولين في الدَّاخل والخارج صُمَّتْ، وعيونهم عُمْيَت، وقلوبهم تَحَجَّرت، وكأَنَّ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ، وظَلَّ فِعْلُ التَّكْريسِ حَدَثًا خارجيًّا مَرَّ كَغَيْرِهِ منَ الأَحْداث، أَوْ، إذا كنَّا متفائِلين نقول، كان هذا الحدَثُ جَيِّدًا للجَيِّدين، وعابرًا لِمَنْ أَغرقَتْهُم أُمورُ الدُّنْيا وأَبْعَدَتْهُم عن الغَايةِ القُصْوَى لوُجودِهِم. فمَنْ طُلِب إلَيْه أَنْ يَخْدُمَ، ما زالَ يأْمُرُ بأَنْ يُخدَم، ومَنْ كُلِّف بالرِّعاية، تَحَالفَ مع الذِّئْبِ على القطيع، ومَنْ نُهِيَ عن عِبادَةِ ربَّيْن ترك الله واستمرَّ في عبادةِ المال، ومَنْ دُعِيَ ليُطْعِمَ الجِياعَ ويَكْسُوَ العُراة، أكَلَ حتَّى التخمة ولَبِسَ البرفير والأُرجُوان، وتَنَاسَى كلَّ أُولَئِكَ الَّذين أَوْصاهُ الله بهم، وإن شِئْتَ زِدْ على ما قلتُ ما تشاءُ فالطَّريق رَحْبٌ وواسع.
هكذا إذًا، تكرَّس لبنان إلى قلب مريم الطَّاهر، ونحتفل في أَلْفِ مكان ومكان بهذا التَّكْريس صلاةً وابتهالات، ولكن مريم تشتاق إلى تكريس القلوب والعيون والآذانِ والعقول، وترتاح إلى الطَّهارة في القَوْلِ والفِعْل، وإنْ كانت لا تَسْتاءُ من صلَوَاتٍ بارِدة، مازجَتْ صلوات المؤْمِنينَ الصَّادِقين.
****