ألمانيا والمجاعة في لبنان خلال الحرب العالمية الأولى موقف ومسؤولية

sinno

د.عبد الرؤوف سنّو

(أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر/الجامعة اللبنانية)

ليس الهدف من هذا البحث تحرّي صحّة المقولات العديدة حول أسباب المجاعة في لبنان وجبله، وإنّما ما هو متعلّق فقط بتحديد مقدار مسؤولية ألمانيا عنها، عبر شراء الحبوب من سورية لجيوشها في ساحات القتال بتسهيل من العثمانيين، أو شحنها إلى بلادها، وبالتالي التسبّب بشحِّ في أسواق بيروت وجبل ولبنان وارتفاع جنوني في الأسعار. فكانت ألمانيا تعاني نقصاً في الحبوب، منذ أن ضرب الإنكليز الحصار الاقتصادي عليها في المحيط الأطلسي والبحر المتوسّط. واشتد هذا الحصار منذ دخول الولايات المتّحدة الحرب إلى جانب “دول الوفاق الودّي” في العام 1917.

فرضية البحث، أنَّ ألمانيا مسؤولية جزئياً عن المجاعة من الناحيتين الأخلاقية والإنسانية.

سأقارب الموضوع من خلال طرح أربعة أسئلة:

هل قام الألمان فعلاً بشراء الحبوب من المناطق السورية؟

هل علموا بالمجاعة في لبنان؟

هل قاموا بإجراءات لمنع تفاقمها؟

هل يتحمل الألمان مسؤولية المجاعة؟

هل قام الألمان فعلاً بشراء الحبوب من المناطق السورية؟

خلال العام 1916، اشتدّت حاجة ألمانيا للمواد الغذائية، نتيجة الحصار البحري. وفي نيسان، طلب الرايخ من الدائرة التجارية في وزارة الخارجية الألمانية بحث مسألة استحواذ ألمانيا على المواد الزراعية من الدولة العثمانية. وتلقّى المارشال أوتو ليمان فون زاندرز (Otto Liman von Sanders)، رئيس البعثة الألمانية لتحديث الجيش العثماني منذ العام 1913، وقائد الجيوش العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، التعليمات بأن يطلب من المسؤولين العثمانيين زيادة مساحات الأراضي الزراعية لديهم، وإنشاء دائرة مركزية لجمع الحبوب والمواد الخام والثروات الباطنية في الشرق الأدنى. وكتب زاندرز في مذكراته: “بدأت القيادة العليا الألمانية في العام 1916 الاستحواذ على المواد الخام، وعلى منتجات زراعية من تركيا وشحنها إلى ألمانيا بإشراف ألمان” حصلوا على وظائف في وزارة الحربية العثمانية، وكانوا يتفاوضون مع السلطات المحلية مباشرة على شراء ما تحتاجه ألمانيا من مواد زراعية وثروات باطنية، أو أن يتمَّ ذلك عبر السفارة الألمانية في استانبول ومفوّضها العسكري.

وفي هذا السياق، تلقّى رئيس الدائرة الزراعية الألمانية لاقتصاد الحرب كيسرلينج Keyserlingk التعليمات بالاتصال بالهيئات العثمانية الموالية لألمانيا، مثل طلعت باشا، من أجل تشجيع الزراعة العثمانية لتواكب متطلّبات الحرب لألمانيا. ورأى تقرير أنَّ ممارسة نفوذ على الانتاج الزراعي العثماني، لا يكون مجدياً إلّا في حال تمَّ الحصول على ثقة “الكليك” العسكري والمدني العثماني، من أجل الاستحواذ على الانتاج الزراعي لعثماني لخدمة اقتصاد الحرب الألماني.

وبعد حوالى الشهرين من التعليمات التي تلقاها زاندرز، أرسلت ألمانيا في حزيران 1916 نصف مليون كيس فارغ لملئها بالقمح السوري وشحنها إلى استانبول، وأنَّ جمال باشا، الحاكم العثماني العام على سورية، اجتمع بكبار التجار في حلب وبيروت وحوران لتحضير الكمية المطلوبة، على أن يتمَّ شراؤها من المزارعين مباشرة. فكان على حلب أن تؤمّن 60 ألف طن من الدقيق، والتاجر ميشال سرسق في بيروت 80 ألف طناً، وأسرة عينتابي المقدسية 10 آلاف طن. وفي تشرين الثاني 1916، تكرّرت المحاولة مرّة ثانية، حين أمر جمال باشا تجاراً من بيروت وطرابلس وحلب والقدس بتأمين كمية 235 ألف طن من القمح.

وحول السؤال: هل واظب الألمان في السنوات التالية على الاستحواذ على القمح السوري؟ لم نعثر على شيء في الأرشيف الألماني يؤكّد ذلك. لكن فون زاندرز، ذكر أنَّ نتائج الاستحواذ على القمح والمواد الخام من السلطنة كانت محدودة. ويمكن تفسير ذلك أنَّ الزميل الحكيّم لم يعثر على معلومات أخرى حول الموضوع في الأرشيف الفرنسي تتعدّى العام 1916. وذكرت المؤرّخة الألمانية ليندا شاتكوفسكي شيلشر التي عملت على موضوع المجاعة في الأرشيفين البريطاني والفرنسي، أنَّها لم تجد معلومات حاسمة بالنسبة إلى موضوع المجاعة، مسبّبات ونتائج. لكنّها أشارت إلى وجود مذكّرات متفرّقة تشير إلى أنَّ فرنسا وبريطانيا كانتا على علم بها منذ العام 1916، لكن أرشيفيهما لا يحتويان على مناقشات لمسألة المجاعة وتبرير استمرار الحصار في ضوئها.

في المقابل، يؤكد شهود محليون مسؤولية الألمان عن سحب الحبوب من سورية طوال سنوات الحرب. فذكر سعيد اسحق، الذي كان يعمل لدى “شركة سكّة حديد بغداد” الألمانية في شمال سورية مقابل الحصول على الطعام فقط، كيف أنَّ الشركة كانت تشتري الحبوب من المخازن في منطقته بأسعار مرتفعة، ما تسبّب بمجاعة لدى سكانها. ووصف الشيخ علي الطنطاوي، أحد سكان دمشق، ما كان يراه فيها بالقول: “كان الناس يقفون أرتالاً أمام الأفران يطلبون الخبز بالذهب، فلا يجدونه، لأنَّ الألمان استأثروا بأطايب القمح، وتركوا للناس شراء الحنطة وأبخث الشعير. ويعزو لطف الله نصر البكاسيني في كتابه أنَّ الغلاء الفاحش الذي ضرب لبنان في السنة الأخيرة من الحرب (1918)، هو أنَّ ألمانيا كانت تبتاع ما تستطيع من الحنطة السورية بأثمان يعجز الوطنيون عن المشترى بمثلها. وكان لديها زهاء 20 ألف سيارة تنقل الحنطة إلى بلادها. ومن سياق الشاهدات المحلية والتقارير الفرنسية والمعلومات الألمانية، فما من شكٍّ أنَّ ألمانيا كانت تستحوذ على القمح السوري طوال الحرب، وإن كانت الكميات المشتراة غير معروفة. على كل حال، هناك تصريح للمارشال فون زاندرز عقب دخول الجيش البريطاني إلى فلسطين نهاية العام 1917 وقيامه بشراء القمح منها لوحداته في المنطقة، جاء فيه: لو توافرت لنا الاعتمادات المالية، لكنا اشترينا القمح وشحناه إلى ألمانيا.

Otto Liman von Sanders

Otto Liman von Sanders

هل علم الألمان بالمجاعة في لبنان؟

نعم.. لقد علموا بها وبتأثيرها الكارثي على الجيش العثماني وعلى المدنيين. فخلال حملة السويس لم تتجاوز حصّة المقاتل العثماني 150 غراماً من الخبز والتمر والزيتون، ونصف ليتر من الماء يومياً، وهي غير كافية لجندي يقاتل في الصحراء.

ويؤكّد المارشال ليمان فون زاندرز في مذكراته: أنَّ 17 ألفاً من الجنود العثمانيين في سورية قضوا جوعاً بين شتاء العام 1917 ونيسان العام التالي. ويضيف، أنَّ المجاعة تسبّبت في فرار عدد كبير من الجنود العثمانيين من جبهات القتال، فبلغ عددهم أكثر من عدد الجنود الباقين في الخدمة. ويقول: “إنَّ النقص في الطعام كان كبيراً جداً، بحيث أنَّ القوات العثمانية المحاربة لم يكن لديها بشكلٍ عام ما تأكله في اليوم التالي، وإنَّ هذا تسبّب بفرار الجنود من ساحات القتال، ما جعل قيادة الجيش الثامن العثماني في طولكرم تقرّر إطعام الجنود في الخطوط الأمامية فقط، إلى درجة الشبع. أمّا الجنود في المؤخّرة ، فحصلوا على حصص غذائية أقلّ.

ومن خلال التقارير العديدة التي بحوزتنا وكانت ترفع من قبل القناصل الألمان في بيروت وطرابلس، ومن قبل السفارة الألمانية في استانبول إلى برلين، فقد علمت الحكومة الألمانية بالمجاعة وبحجم معاناة اللبنانيين منذ العام 1916، كما فرنسا وبريطانيا، وبأنَّ إدارة التموين العثمانية للقطاع المدني سيئة وفاسدة، ما سمح بالاحتكار والمضاربة بالأسعار. ونقل موتيوس (Mutius)، القنصل الألماني في بيروت، فحوى محادثة بين بيارد دودج (Bayard Dodge) المسؤول عن الإغاثة الأميركية، الذي أصبح فيما بعد رئيساً للجامعة الأميركية في بيروت، مع التاجر ميشال سرسق الذي أصرَّ على بيع طحين اشتراه بـ 40 قرشاً بـ 250 قرشاً، مع علمه أنَّ دودج كان يريد شراء الطحين لأطفال جائعين لدى جمعية الإغاثة الأميركية.  

وفي تشرين الثاني 1916، وهو بداية فصل شتاء سيكون قاسياً جداً على اللبنانيين، رفع السفير الألماني في استانبول إلى رئيس الوزراء تقريراً لموتيوس عن حجم معاناة السكان في بيروت والجبل، وجاء فيه: “بالنسبة إلى الطبقات الوسطى والفقيرة يشتدّ الصراع من أجل البقاء صعوبة، بسبب استمرار الارتفاع في الأسعار، وانهيار قيمة العملة (الليرة التركية أصبحت تساوي 39 قرشاً).. وفوق كلِّ شيء عدم استطاعة السلطات تأمين الرغيف للناس (هبوط الحصّة اليومية للشخص من الخبز من  200 غرام، إلى 100 غرام)، فيما لا يجد البعض هذه الكمية ليقتات”. مع ذلك، فإن هول المجاعة في بيروت والجبل لم تكن لها النتائج الكارثية نفسها في المناطق الأخرى. فأقليم الخروب، على سبيل المثال، وفق شهادة الحاج جمال بشاشة، من برجا، لم يتأثر بالمجاعة، ولم يخل من القمح الذي كان يوفره له ثلة من التجار الذين كانوا يحملونه على دوابهم عبر الأودية والهضاب من صيدا وفلسطين ويبيعونه، بينما كان بإمكان النسوة تهريب القمح من فلسطين إلى صيدا، وقلّما تعرّض لهن الجند العثمانيون. أما دروز الجبل، فلم يتعرّضوا لكارثة المجاعة، بسبب لجوئهم إلى أبناء مذهبهم في حوران. إلى ذلك، لم يفرض جمال باشا حصاراً على تموين جبل عامل. وقد قارن أحد الباحثين اللبنانيين بين الوفيات في مناطق شمال لبنان حيث الغالبية المسيحية ومناطق في جنوب لبنان، بأن عدد الوفيات كان كبيراً جداً في المناطق المسيحية. وهذا يجعلنا نميل إلى فرضية أن العثمانيين، رغم تأثّر المناطق اللبنانية بمستويات متفاوتة، إلا أنهم تعمدوا إجاعة المناطق المسيحية، خاصّة إذا صحّة المعلومات حول تصريحين لجمال باشا وأنور باشا باستهداف المسيحيين.

Bayard Dodge

Bayard Dodge

وبالعودة إلى القنصل الألماني في بيروت، فكتب إلى رؤسائه في شباط 1917 يعلمهم بـ “أنَّ عدد سكان لبنان انخفض منذ اندلاع الحرب بنسبة الربع، بسبب المرض والنقص في الغِذاء والهجرة،” مضيفاً أنَّ الفساد نخر حتى جمعيات خيرية أسّسها أعيان في البلد للحصول على المواد الغذائية الضروربة وتوزيعها، ما جعل عملها غير منتظم وصل إلى حدّ التوقف. وأشار القنصل إلى الشائعات التي تتهم المشرفين على توزيع الطحين بالإثراء غير المشروع بشكلٍ فاحش. ومع أنَّ السلطات العثمانية وضعت جلب الحبوب من الداخل السوري إلى لبنان على عاتقها، ينقل القنصل إلى رؤسائه أنَّ العثمانيين، بسبب سوء إدارتهم وافتقارهم إلى وسائل النقل، فشلوا في تأمين الحبوب للمواطنين، ما جعل تلك التجارة تزدهر لدى القطاع الخاص. وهذا ما أدى إلى ارتفاع أسعار الحبوب والسلع الأخرى بشكلِّ غير عادي، وتسبّبت بالتهريب وبالتالي عدم تغطية الطلب على الحبوب.

وبتحديد أدق، يخبرنا القنصل الألماني في بيروت أنَّه بدلاً من أن تؤدي إجراءات الحكومة العثمانية لتوفير الحبوب بأسعار معتدلة، قام المشرفون على الهيئة التي أسّستها السلطات العثمانية باستغلال مراكزهم، فقاموا بإخفاء كميات كبيرة من الحبوب وبيع القنطار منها ما بين 5 إلى 7 أضعاف سعر شرائه. ويضيف أنَّ الأرباح كان يتقاسمها التجار المشرفون مع كبار الموظفين العثمانيين في لبنان.

وفي تقرير آخر، يحدّد القنصل نفسه لرؤسائه كبار المتورّطين في تجارة المضاربة على القمح والحبوب. فيسمي ميشال سرسق الذي يرد اسمه في صفقات احتكار أخرى من هذا النوع، بمعاونة زوجته صاحبة مكانة رفيعة لدى الدوائر العليا في الإدارة، والثاني هو المدعو نجيب أصفر الذي يصفه بأنَّه كان يسعى وراء الأعمال التجارية المربحة. ويصف القنصل الفساد المستشري بأنَّه يبعث على الاشمئزاز، بعدما أصبح يمسّ بالحياة العامّة في البلاد. ويختم تقريره بإبلاغ رؤسائه بـ: “أنّ لبنان يحتاج على وجه السرعة للفت انتباه الحكومة المركزية (العثمانية) إلى وجوب تعيين حاكم حكيم ونزيه على لبنان خلفاً لمنيف بك”.

ومن جهة أخرى، أبدى مراقب ألماني تعجّبه في العام 1918 من عدم مبالاة المسؤولين العثمانيين تجاه المضاربة بأسعار الحبوب، وكتب في تموز 1918 أنَّ رفع أسعار الحبوب ومعها أسعار السلع الحياتية الأخرى، تسبّب بجوع اللبنانيين ومرض الآلاف منهم. وأضاف، أنَّ الافتقار إلى الرقابة الحكومية على الموظفين العثمانيين أعطى الانطباع بمسؤولية الإدارة العثمانية عن المجاعة. وتزامناً، كان هوفمان (Hoffmann)، نائب القنصل الألماني في طرابلس، يؤكّد أنَّ الآلاف من سكان طرابلس وضواحيها ماتوا جوعاً، ومعظمهم من المسيحيين.

maja3a loubnan

ويبدو أنَّ القيادة العسكرية الألمانية العليا في سورية انزعجت من الموقف الشعبي في لبنان الناقم على ألمانيا من جراء المجاعة، فأرسلت ضابطاً، ويدعي زاندل (Sandel)، للاستقصاء عن الأوضاع في لبنان وبيروت. فرفع الأخير إليها تقريراً سرياً على أثر جولة قام بها في حوران ودمشق وحلب ورياق وبيروت وجبل لبنان، جاء فيه بأنَّ قسماً من السكان المحليين، مسلمين ومسيحيين، غير مبالين بالمجاعة، فيما قسم آخر يحقد على الألمان. وقال إنه سمع بشكل خاص في دمشق وجبل لبنان وبيروت كلاماً كبيراً يحمّل الألمان مسؤولية المجاعة الكبرى وارتفاع الأسعار. وعزا الاتهامات التي توجّه إليهم حول شراء كلِّ مخزون الحبوب وإرساله إلى بلادهم عبر سكّة حديد رياق، بأنَّ أنصار” دول الوفاق الودي” في جبل لبنان من جهة، وبعض العثمانيين، يروّجون هذه الشائعات لرفع المسؤولية عنهم بالنسبة إلى المجاعة. ومضى التقرير بأنَّ “أناساً عقلاء يتهموننا نحن الألمان بأنّنا كنا المستفيدين من تجويع لبنان”، وإلّا “لكانت ألمانيا العظمى القوية، التي تفرض إرادتها على كلِّ جبهات القتال، أرغمت الحكومة العثمانية على إرسال كميات كافية من المواد الغذائية إلى جبل لبنان، أو لكانت سمحت، على الأقلِّ، للبنان باستيراد الحبوب”.

وعلى الرغم من أنَّ زاندل لا يتبنَّى رقماً لضحايا المجاعة، إلا أنَّه يشير إلى إحصاءات متصرفية جبل لبنان بموت حوالى 200 ألف نسمة. لكنّه يقرّ بأنَّه مقتنع شخصياً بأنَّ مأساة فظيعة حلّت ببيروت وجبل لبنان، وعدداً كبيرأً من الأطفال والأمهات ماتوا بسبب الجوع”. وأكّد التقرير نفسه، وجود مخازن كبيرة للحبوب في بيروت ودمشق، وأنَّ المضاربين يعملون بمعرفة السلطات المحلية، والمدعو ميشال سرسق، الذي سبق ذكره في تقرير القنصل الألماني موتيوس، يملك مخزناً كبيرا مليئاً بالحبوب، وهو يتمتّع بحماية جهات نافذة.

وفي معرض تقويمه للوضع الإنساني في جبل لبنان وبيروت، حثَّ زاندل حكومته على الاقتداء بالأميركيين والبريطانيين وتأسيس مطابخ شعبية في برمانا وبيروت لإطعام الجائعين. ورأى أنَّ هكذا نشاط يحقّق أفضل دعاية لألمانيا. من هنا، اقترح على السفير في استانبول لو أنَّ المارشال فون زاندرز يعمل على الاقتداء بالجمعيات الخيرية الأميركية والبريطانية، لأنَّ ذلك: “سيرفع اسم ألمانيا عالياً ويكون له صدى آخر، وسيدعو الناس لها في الكنائس والمساجد”. ويرى زاندل أنَّ هكذا مشروع لن يكلف كثيراً، فيكفي تأمين وسائل النقل وعدد من عربات الحبوب ما بين 2- 3 عربات أسبوعياً.

وفي حال لم تتأمّن عربات النقل، اقترح زاندل استخدام وسائل النقل الخاصّة بالجمعية الأميركية، من دون أن يؤثّر ذلك في سمعة ألمانيا، كما إرسال شاحنات فارغة من دمشق إلى بيروت لتنقل سلعاً إلى دمشق، فتعود هذه الشاحنات محمّلة بالحبوب إلى بيروت. ويضيف أنَّه سرعان ما سينتشر الخبر بأنَّ قيادة الجيش الألماني العليا هي التي تطعم الناس، وسيكون له ثمار في المستقبل. فيقول: “لقد دفعنا دماً في سورية وفلسطين لا يقدّر بثمن، وضحينا بملايين من الذهب والمواد من أجل رفع سمعة ألمانيا. لكن حتى الآن لم نقم بدعاية صحيحة بين السكان النصف متحضرين من أجل رفع سمعة ألمانيا”. ويختم: “إنّه من واجب الجيش (الألماني) بأن يفكر في تثبيت سمعة ألمانيا في المنطقة، كي تتمكّن في مرحلة السلام بعد الحرب من تقوية وتنمية الصناعة والتجارة الألمانيتين.” ويكرر زاندل: “إنّه من واجبنا أن نهتم من الآن بأنَّ ألمانيا التي قدّمت تضحيات الكبيرة عليها أن تحصل في المستقبل على تعويض بطرق شرعية”.

maja3a loubnan 1

وبعد أربعة أيام من إرسال تقرير زاندل إلى قيادة الجيش “أف”، بعث رئيس “دائرة ألمانيا” إلى السفير في استانبول الكونت فون برنستورف (Graf von Bernstorff) بأنَّ دائرته على دراية بالأوضاع في جبل لبنان، والتي يجب عدم إخفائها عن المراكز الموثوقة في استانبول. ولكي تقطع على فون زاندرز أي تدّخل لصالح اللبنانيين، ذكرت الدائرة أنَّ المارشال زاندرز لا يستطيع أن يمارس نفوذاً على السلطات العثمانية العسكرية والمدنية، ولا حتى على الوالي نفسه، في شأن التموين العثماني للمدنيين. وأنَّه من الصعوبة بمكان، في الوقت الراهن، أن تقوم الجهات العسكرية الألمانية فجأة بالتدخّل وتبدي اهتماماً أكثر بالسكان العرب، وخاصّة بالمسيحيين منهم، وهي تعرف حساسية السلطات العثمانية تجاه مسحيي لبنان. أمّا في حال حصل ذلك، فإنَّ الدوائر العثمانية الحاكمة سوف تعتبره تدّخلاً في الشؤون الداخلية العثمانية.

وفي المقابل، تبلّغ برنستورف من “الدائرة الألمانية” أنَّ لديها معلومات عن أنَّ والي بيروت عزمي بك يقوم بما يستطيع لجلب الحبوب إلى لبنان، لكنها تستدرك بأنَّ إطعام الفقراء وكلَّ الناس في غاية الصعوبة، خاصّة أنَّ غالبيتهم موالون لدول الوفاق. يُضاف إلى ذلك، أنّ السلطات العثمانية غير قادرة على تموين القطاع المدني، حتى أنَّها لا تقوم بتموين موظفيها وعسكرها بشكلٍ كاف. ورأت الدائرة كذلك، أنّه لا يمكن تزويد كلِّ الناس بالرغيف، أو وضع التوزيع بأيدي جمعيات خيرية، من دون حدوث مضاربات غير أخلاقية على حساب الدولة العثمانية.

ومع ذلك، ختمت “الدائرة الألمانية” حول إمكانية المساعدة في بيروت وجبل لبنان، وبالتالي القيام بدعاية صحيحة لألمانيا، عندما تقوم جمعيات ألمانية بأعمال الإغاثة، وبكميات صغيرة بداية، وإنشاء مطابخ شعبية ومراكز لتوزيع الرغيف. لكن الدائرة نفسها، اعتبرت أنَّ أي عمل في هذا المجال من دون تنسيق مع السلطات المدنية العثمانية لا معنى له، لأنَّ هناك عدم ثقة وغيرة غير محدودتين من قبل العثمانيين، مدنيين وعسكريين، تجاه النفوذ الألماني في البلاد العربية.

وبدوره، بعث موتيوس، قنصل ألمانيا في بيروت، أواخر حزيران 1918 إلى سفير بلاده في استانبول يقترح عليه أن تقوم ألمانيا بعمل إغاثي في بيروت وجبل لبنان، حيث الغلاء لا يُطاق والمعاناة عامّة. واعتبر أن َّذلك سيكون له مردود دعائي عليها، إنسانياً وسياسياً. وقال القنصل إنّه وزع أموالاً على الفقراء خلال العامين 1917 و1918، إلّا أن ذلك كان بمثابة قطرة على حجر ساخن، ذلك أنَّ قلّة قليلة من المحتاجين جرى تخفيف معاناتها، بهدف أن “نظهر نحن الألمان هنا كأصدقاء ومنقذين للفقراء، أسوة بالأميركيين الناشطين في المدينة والجبل”. وذكر القنصل أنَّ أسرة من خمسة أشخاص كانت تحتاج شهرياً إلى 400 ليرة لشراء القمح على أساس أسعار شتاء العام 1917 – 1918. وقال: إذا كان المرء في ألمانيا يريد بالفعل أن يساعد أعداداً غفيرة من الفقراء، ويحقّق من خلاله دعاية لألمانيا، فعليه عندئذ توظيف أموال أكبر، وشراء الحبوب لـ 6 شهور مسبقاً بعد موسم الحصاد مباشرة، لأنَّ الأسعار تكون متدنية. واقترح أن ينحصر عمل الألمان في بيروت بإنشاء المطابخ، بينما يتمّ توزيع الحبوب على كسروان من مركز في جونيه. وختم أنَّه يوجد في بيروت مطبخ شعبي ألماني واحد يمكن توسيعه. من هنا، طالب بالإسراع بتحويل الأموال للبدء في المشروع.

maja3a loubnan2

وفي آب 1918، نقل السفير الألماني في استانبول إلى رئيس الوزراء مقترحات القنصل، وطلب في حال الموافقة عليه بتحويل مبلغ 4,320 ليرة تركية للغرض نفسه، معتبراً أنَّ ذلك سيكون أفضل دعاية لألمانيا. وهذا المبلغ الذي طلبته السفارة الألمانية، لا يكفي سوى لشراء 36 طناً من القمح على أساس سعر شراء الطن الواحد البالغ 120 ليرة ذهبية تركية في العام 1916. ومن المؤكّد أن الأسعار ارتفعت بشكلٍّ جنوني بعد العام 1917، بحيث لا يكفي هذا المبلغ لشراء الكمية نفسها في العام 1918. من هنا، يبرز الجانب الدعائي على حساب العمل الإنساني. وحتى هذا المبلغ المتواضع، لن تقرّه رئاسة الحكومة الألمانية.

هل قام الألمان بإجراءات لمنع تفاقم المجاعة؟  

كلا.. لم يقم الألمان بحثِّ القيادة العسكرية العثمانية في سورية على وجوب تحسين أدائها التمويني للمدنيين، ولا انتقدوا طريقة عملها. ولا توضح لنا الوثائق بين أيدينا عن اتصالات قام بها القنصل الألماني في بيروت أو السفارة الألمانية في استانبول مع السلطات العثمانية للفت انتباهها إلى معاناة اللبنانيين من جراء المجاعة، أو حتى أن يوفّر الجيش الألماني في سورية وسائل نقل لجلب الحبوب إلى بيروت والجبل من الداخل السوري. وعندما طالب أنور باشا فون زاندرز بأن يتدخل لوقف سوء إدارة التموين العثمانية في سورية عند حدّها، رفض المارشال الألماني التدخّل لدى السلطات المحلية لثلاثة أسباب: أولاً الخشية من أن يُسيء العثمانيون فهم تصرّفه لصالح العرب الساعين للاستقلال عن الدولة العثمانية بقيادة الشريف حسين، وثانياً أنَّ العثمانيين كانت لديهم مشاكل كثيرة في إطعام جنودهم وموظفيهم ولا يستطيعون توفير التموين للمدنيين. والسبب الثالث، أن يقوم المضاربون باستغلال الوضع، عندما يقوم الألمان بشراء الحبوب لأهداف خيرية وإنسانية.

هل يتحمل الألمان المسؤولية عن المجاعة؟

بالطبع، يحتمل الألمان جزءاً من المسؤولية عن المجاعة التي ضربت سورية الكبرى، لأنَّهم علموا بها عن قرب، ولم يكونوا فعالين في معالجة الوضع الذي كانوا مسؤولين عنه، ولو جزئياً. وقد رفضت الحكومة الألمانية والقيادة العسكرية الألمانية العليا في الدولة العثمانية الاستجابة إلى مناشدات قنصليتها في بيروت وسفارتها في العاصمة العثمانية لتوفير المخصّصات المالية المطلوبة لمساعدة اللبنانيين الجوعى. فتذرّعتا بما قد يؤثّرُه التدخل في علاقات ألمانيا السياسية بالدولة العثمانية، خاصّة أنَّ ألمانيا كانت تعترف بالحكم العثماني في سورية ولبنان في مرحلة ما بعد الحرب. وفي كلِّ تقاريرهم، تقدّم الهدف الدعائي – السياسي للدبلوماسيين الألمان في المنطقة على الهدف الإنساني.

maja3a loubnan 3

 

One comment

  1. يقول محمد العوض:

    مقال جيد … مع انني متحفظ على كثيرر مما ورد فيه…
    فالدكتور يرى فقط من زاوية واحدة، أو أنه غير مطلع على كامل المسالة… وسأفند بعض كلامه من مذكرات ليمانا باشا فقط الذي يستدل هو به..
    أولا المانيا كانت تدعم الدولة العثمانية ولم تتقلى أي مساعدة بإستثناء بعض المواد الخام التي شكلت لها لجان خاصة مثل المعادن، وبحسب ما ذكرة ليمان الذي لم يذكر في يومياته أي منتوجات زراعية فان مسؤول التموين لم يكن يمرر الا ما كانت بلاده غير محتاجه له….
    ثانيا قامت الدولة العثمانية باجراءات وهناك تقارير من القنصل الالماني ارفقها ليمان باشا في مذكراته ولا أعلم لماذا لم يذكرها الدكتور حول تجارة الحبوب وكيف أن بريطانيا تتلاعب بها وتسرقها بعد أن تدفع مبالغ كبيرة لشرائها( بهدف زيادة المجاعة )، ولم يذكر أالاجراءات التي اتخذتها الدولة العثمانية والتقارير الضخمة للقناصل الالمان حول المجاعة وسبل الحد منها.
    مثال ذلك ما قاله القنصل الالماني وود في دمشق الذي قال بأن بريطانيا عبر التهريب وبسماعدة عملاء تقوم بشراء كامل الحبوب من جبل حوران الى العقبة عبر طرق مخفية، وقد ارسل الى سفارة بلاده من أجل اعلام السلطات العثمانيية والحد من هذه البيع.

    بالنهاية بريطانيا هي المسؤولة بشكل أساسي عن المجاعة بسبب الحصار والمضاربة في السوق عبر عملاءها

اترك رد