رسالة إلى أمين معلوف

amin maalouf

رؤوف قبيسي

(كاتب-لبنان)

عزيزي أمين معلوف. أكتب إليك معاتباً، ولا أخفي عليك بأني شُدهت وأسفتُ لحظة سمعتُ بظهورك على شاشة إسرائيلية. لم أفهم سبباً لفعلك هذا الذي أقطع بأنك كنت تعرف منذ البداءة، أنه سيثير ردود فعل سلبية من قراء لك محبين، لبنانيين وعرب، بعضهم سمّى فعلك هذا حماقة، وسمّاه آخرون خيانة. لم أجد ما يشفع لك، بغض النظر عن فحوى ذلك الحوار، لأن مجرد ظهورك على شاشة إسرائيلية، معناه أنك بدأت تخيّب آمال الكثيرين من المعجبين بك، وتسفّه أمنياتهم وأحلامهم.

آمل أن لا تذهب بك الظنون وتعتقد أني أخوّنك، أو أخاطبك بلغة بعض القوميين، أو بلغة أصحاب العصبيات الدينية. لست من هذه الجماعات، لا أصطنع لغاتها ولا أستسيغ مفرداتها. ما أنا بعنصري ولستُ ضد اليهود، ولي من بينهم في لندن أصدقاء كثر أحرار، وثقْ بأنني لا أنتقد إطلالتك على القناة الإسرائيلية من منطلق وطني أو قومي أو ديني، أنا الذي لم ينتم يوماً إلى أي عقيدة دينية، أو قومية أو سياسية، لكنني أتجرأوأسمح لنفسي بأن آخذ عليك ذلك الظهور من منطلق علمي وتاريخي وإنساني بحت. وأعتقد أن ملايين الأحرار في العالم، من الفرنسيين وغير الفرنسيين، ومن العرب واليهود، من يأخذون عليك ذلك الظهور إذا كان فيه “تلميع” لصورة إسرائيل.

أرفض أدبيات العصبيات الدينية والقومية في بلادنا، هذه التي لم تفضِ يوماً إلى شيء عظيم، وفعلت بجسد الوطن اللبناني، والوطن العربي، أضعاف ما فعلته حراب الصهاينة، لكني آخذ عليك ظهورك على شاشة إسرائيلية بحكم ثقافتي العلمانية الخالصة، التي تجعلني أرفض أي دولة تقوم على عصبية دينية، أو خرافة دينية. إسرائيل في نظري خير مثل على ذلك. هي كيان قام على القهر والتعسف والتسلط، وعلى خرافات عنصرية لا أساس لها، لا في علم التاريخ، ولا في المدارج الإنسانية. هي باطل لا بد أن يزول أو يتغير، وهي ضد الإنسان وضد العرب وضد الفلسطينيين، وسيثبت الزمن أنها ضد اليهود أنفسهم.

لقد تمكن الصهاينة من الحصول على وعد من بريطانيا بإقامة وطن قومي لهم في فلسطين، في وقت كان الكثيرون منهم يرفضون قيام ذلك الوطن، ويؤثرون الاندماج في مجتمعات دول عاشوا في كنفها. لكن الرعيل الأول من الصهاينة، وقد ألهبت مشاعرهم خرافة جبل صهيون، سعوا إلى تلك الدولة بحجة أنها ستكون المكان الوحيد الذي سيشعر اليهود فيه بالأمن والأمان، تماماً كما “دواعش” هذه الأيام، الذين يسعون إلى إقامة الخلافة، وفي ظنهم أنها ستكون دولة الخلاص. لقد جاهد الصهاينة ما وسعهم الجهد، وحصلوا على ما يريدون، وإذا بوطنهم القومي هذا يتحول الآن إلى دولة تحكم العالم العربي، وما كان ذلك يتم لولا ذكاؤهم ودهاؤهم، وغباء العرب وتخاذلهم. اما القول إن إسرائيل تحكم العالم العربي اليوم فليس لي، هو للراحل محمد حسنين هيكل في آخر حديث له في جريدة “السفير”.

كلنا يعرف أن اليهود تعرضوا لمضايقات في أوروبا قبل النازية، وفي أثناء الفترة النازية، وتعرضوا لمحرقة أودت بحياة مئات الألوف منهم على ما جاء في الكتب، لكن هذا لا يبرر إقامة وطن لهم في فلسطين، بحجة أن”الله” وعدهم بتلك الأرض، وهل”الله” تاجر عقارات، حتى يخرج شعباً من أرضه ويمنحها لشعب آخر؟! جاء اليهود إلى فلسطين وفي جعبتهم كتب قديمة وأسفار قديمة، منها الذي يقول”أنا الرب الذي أخرجك من أور الكلدانيين يا أبرام ليعطيك هذه الأرض لترثها”، ومنها الذي يقول: “وقطع الرب مع أبرام ميثاقاً قائلاً لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى نهر الفرات”.

بهذه الخرافة المدوّنة في سفر التكوين قدم الصهاينة إلى فلسطين، واستوطنوا الأرض واستعمروها وشرّدوا مئات الألوف من أبنائها. ترى لو أن”إله” العهد القديم وعد “شعبه المختار” بوطن على جزء من فرنسا أومن روسيا، هل كانت إسرائيل قامت، وتحقق وعد “الله” مع عبده أبرام؟! هيهات هيهات، إنه ليسهل على أي أمة عظيمة مثل الأمة الروسية، أو الأمة الفرنسية، أو حتى أي دولة صغيرة راقية قوية أن تبطل أسطورة ذلك الوعد الموهوم، لكننا أمة بائسة يا أمين، أمة تخاف من نفسها وتعجز عن الصمود في وجه أعدائها، لذلك نجح الصهاينة في إقامة كيانهم على أرض فلسطين!

إن ظهورك على شاشة إسرائيلية يا أمين، معناه أنك تزكّي إسرائيل، تعترف بها وتؤيد الخرافات الدينية التي هي أساس بنيانها. قد تظن أني أبالغ وأذهب إلى البعيد، لأن هناك دولاً أخرى تقوم على خرافات دينية وخرافات قومية. لن أجادلك في ذلك لأني مقتنع به، لكن إسرائيل شيء آخر. إنها كيان غاصب قام على سلب ممتلكات الفلسطينيين وحقوقهم، وتهجير مئات الألوف منهم إلى دول مجاورة، بعضهم يعيش في مخيمات تفتقر إلى أدنى سبل العيش، كما أن وجود هذه الدولة وسياساتها يتعارض وحقوق الإنسان، ويقضّ مضاجع ملايين البشر، ومنهم الكثيرون من يهود العالم. أرجو أن لا تفهم كلامي على أنه سياسة. أنا لا أتحدث في السياسة ولا أفهم فيها، وأعرف أن أي موضوع سياسي يحتمل وجهتَي نظر وأكثر، لكن العالم كله تقريباً صار يدرك الآن أن ما تقوم به إسرائيل جرائم بلا حدود، لذلك أقول لك هنا إنه لو اعترف العالم كله بإسرائيل، واعترف العرب والفرس والترك كلهم بها، فعلى كلّ إنسان عاقل حر في هذا العالم أن يبقى على موقفه الرافض لتلك الدولة القائمة على الخرافة والحراب.

لا ندري ما إذا كان ظهورك على شاشة إسرائيلية يعزّز حظوظك لتنال جائزة نوبل في الأدب. هذا إن حصل سيؤهلك لتتبوأ مركزاً عالمياً رفيعاً، ويمنحك هدية مالية مقتدرة، وحفنات لا حصر لها من المال تجنيها كتبك في أسواق العالم. ليكن لك ما تشاء على كلّ حال، ولتكن لك فائدة الشك كما تقول العبارة الإنكليزية، لأننا لسنا متأكدين ما إذا كانت “نوبل” قد داعبت خيالك ساعة ظهرتَ على القناة الإسرائيلية، ولو أن بعض الناس فسّروا تلك المقابلة بأنها محاولة منك للظهور بصورة الكاتب المحب للسلم،الطامح لنيل “نوبل” في الآداب، لأن للصهاينة تأثيراً في هذا الشان، بحكم السيطرة الإعلامية الكبيرة التي يتقنون فنونها، وهم يدركون أن أي عربي يحاسن إسرائيل ويداجنها “ثقافيا” هو محب للسلم، لكن القاصي والداني يعرف أن السلم الذي تريده إسرائيل وترتضيه، لن يكون إلا تسوية عقيمة على حساب الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة.

لم تكن فلسطين التاريخية يوماًعربية خالصة، أو إسلامية خالصة، أو يهودية خالصة، أو مسيحية خالصة، لكنها كانت فلسطينية بامتياز.هكذا كانت في الكتب وفي الواقع، أرضاً حضنت هذه المكوّنات كلها عبر التاريخ. يكفي دلالة، الصخور والنقوش والحجارة، وما تشير إليه الوثائق التي تتحدث عن عرب فلسطين زمن الانتداب وقبل الانتداب. هذا لا يعني أن يهود فلسطين قبل 1948 لا حقوق لهم في تلك الأرض. هم مواطنون، حقوقهم مثل حقوق الفلسطينيين، أما الذين يأتون إليها بحجة أنها أرض الوعد فمغتصبون. هذه حقيقة تاريخية عرفها الصهاينة أنفسهم قبل أن يعرفها العالم كله. الحقيقة الثانية أن ما لحق باليهود في ألمانيا وفي أوروبا من أذى، هو مسؤولية غربية لا شأن للفلسطينيين فيها، وجريمة العرب منها براء، وأنت تعرف أن قيام إسرائيل أدى إلى تهجير مئات الألوف من الفلسطينيين عن ديارهم، وأنت خير من يعرف أن وجودهم في لبنان الصغير الضعيف، ساهم في حرب شوّهت الكثير من معالم هذا البلد، وها أنت بظهورك على شاشة إسرائيلية، ومن حيث لا تدري يا أمين،”تبارك” دولة لا تعترف بها بلادك. أفهم أن تكون حراً، وتتخلى عن هويتك اللبنانية التي تشوهت على يد زعماء لبنان الفاسدين، وتصبح فرنسياً بالاختيار، أو مواطنا كونياً. هذا حقك في الوجود، وقرارك الذي لا يحق لأحد أن يجادلك فيه. لكن ما يبقى هو العقل الخالص الذي تفرض تبعته على أي إنسان حر في هذا العالم، أن ينبذ الوهم بضروبه وأشكاله المختلفة، ويرفض الدول العنصرية القائمة على الخرافات القاتلة، وإسرائيل هنا ليست استثناءً، بل هي في رأس القائمة.

في الختام، لا أجد ما أقوله لك إلا الرجاءأن نقرأ يوماً أو نسمع أنك اعتذرت عن ذلك الظهور، أو شرحت الأسباب التي حملتك على فعله في أقل تقدير. نتمنى ذلك لأننا معجبون بك وبأثمارك الأدبية والفكرية، ولأننا حرصاء على أن تبقى في ضميرنا ذلك الأمين على الذاكرة، المنزّه من كل ما قد يشينك كروائي خرج من بلد صغير منكوب بحكّامه وأحزابه، ليشارك في زرع صورة مغايرة عنه في وجدان العالم. يبقى الرجاء يا أمين أن تثق بأنك لو كنت شخصاً عادياً لما همنا الأمر وهالنا، ولما اكترثت وكتبت إليك معاتباً، وكتب إليك الآخرون معاتبين. لكن ما هم، العتاب يبقى أفضل من الضغينة، وفيه ما هو سمح ومقبول ومحبّب أحياناً، وما عتابنا هنا إلا على قدر المحبة، والعتاب صابون القلوب كما تقول أمثالنا اللبنانية الجميلة. تحية قارئ وتجلّة مواطن والسلام.

*****

(*) جريدة النهار 29 يونيو 2016

اترك رد

%d