شارل مالك نصباً تذكارياً في بيروت… قضيته الأولى حماية حرية التفكير والضمير والدين

charles malik

كلود أبو شقرا

الدكتور شارل مالك (1906- 1987) الفيلسوف والمفكر والسياسي والمساهم في وضع شرعة حقوق الإنسان، الغائب جسدياً والحاضر أبداً في كل فكر وفلسفة، احتضنه قلب بيروت نصباً من توقيع النحات اللبناني بيار كرم، وذلك في احتفال نظمته أندية الليونز في المنطقة 351 لبنان، والأردن، والعراق وفلسطين، وبحضور وزير السياحة في لبنان ميشال فرعون.

في عصر تدمّر فيه القيم وتنتهك حقوق الإنسان بشكل يومي، ترتسم علامة استفهام كبيرة، هل اغتيلت شرعة حقوق الإنسان التي وضع أسسها شارل مالك وانطبعت بأفكاره؟

كانت أحلام شارل مالك كبيرة، تقوم على انصهار الجماعات المتعددة طائفياً في مجتمعاتها وتقليص التباعد وتعميم التعايش بينها، وطالما دعا في محاضراته وكتبه إلى نبذ التطرف والعصبيات وحذّر منهما وكأنه كان يستشرف المستقبل والمسير والمسار اللذين تسلكهما بعض المجتمعات في المنطقة العربية، وصولا إلى الحاضر الذي يناقض ما بناه رجالات من أمثال شارل مالك حول خدمة الإنسان والحفاظ على كرامته.

من لبنان إلى العالم

في بلدة بطرام الكورة، في شمال لبنان، تفتحت عينا شارل مالك على الحياة، واكتشف باكراً، وهو بعد يحبو خطواته الأولى، جمال بيئته وأهله، ومع السنوات، راحت تكبر في ذهن الطفل والمراهق والشاب في ما بعد، أفكار حول كيفية الحفاظ على ما وهب الله الإنسان من قيم، ووضع نصب عينيه أن كرامة الإنسان وحريته هبة من الله وليست منّة من أحد.

تلقى تعليمه في طرابلس وتخصص في الجامعة الأميركية في بيروت في الرياضايات والفيزياء، وتابع تخصصه في جامعة هارفرد ونال دكتوراه في الفلسفة (1937)، وقد تمحورت أطروحته حول الميتافيزيقيا في أساس فلسفات هايدغر.

زار شارل مالك ألمانيا ودولاً أوروبية وأميركية، وحاضر في جامعاتها، من ثم عاد إلى لبنان، وأسس في أربعينيات القرن الماضي قسم الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت، ودرّس فيها، فاحتك مباشرة بالطلاب وبثهم فكره المتمحور حول تسخير العلم لخدمة الإنسان وليس تدميره، وبقي صوته صادحاً في أرجاء الجامعة لغاية 1945، عندما عيّن سفيراً للبنان في الولايات المتحدة الأميركية، فمثل بلده في مؤتمر سان فرانسيسكو الذي تأسست فيه الأمم المتحدة، وشغل منصب مقرر للجنة حقوق الإنسان (1947)، ورئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة (1948).

شرعة حقوق الإنسان

ولأن الأمم المتحدة تأسست في أعقاب حربين عالميتين ذهب ضحيتهما آلاف الضحايا، برزت حاجة ملحة لدى أعضائها لحماية حقوق الإنسان التي انتهكت بأبشع السبل والوسائل، وبما أن شارل مالك مؤمن بقضية الإنسان إلى أي عرق أو دين أو بلد انتمى، شارك، بما لديه من أفكار، في مناقشة ووضع مسودة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مع رئيس لجنة حقوق الإنسان، ومندوب الولايات المتحدة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، اليانور روزفلت التي ظلت في منصب سفير للولايات المتحدة والأمم المتحدة حتى عام 1955.

وُضعت مسودّتان لشرعة حقوق الإنسان، الأولى تألفت من 400 صفحة، أنجزها جون همفري (كندي)، والثانية مختصرة مؤلفة من 30 بنداً، أنجزها رينييه كاسان بتكليف من روزفلت، فاعتمد على “إعلان حقوق الإنسان والمواطن” الصادر عن الثورة الفرنسية عام 1789، وشرعة {الماغنا كارتا} الصادرة عن نبلاء بريطانيا العظمى سنة 1215، مستعيناً بشارل مالك في بلورة نصوصها وصياغتها، وقد وضع الأخير مقدمة الشرعة.

ركز شارل مالك على ضرورة حماية حرية التفكير والضمير والدين، وحرية الاشتراك في الجمعيات والجماعات السلمية وعدم إكراه أي إنسان في الانضمام إلى جمعية ما، فضلا عن حق الإنسان في التعليم، ومشدداً على أن يكون للاعلان قوة قانونية، تشبه المعاهدات التي تفرض تغييرات بقوة قوانينها، وألا يكون إعلاناً إعلامياً فحسب، معتبراً إياه بمثابة سلاح إيديولوجي فعّال، وقد يكون الأهم في العالم إذا رافقته نوايا حسنة.

اهتمت وزارة الخارجية الأميركية بأفكار شارل مالك، فوضعته في موقع المسؤولية المشتركة مع رئيسة اللجنة اليانور روزفلت لتبني هذا الاعلان العالمي، في إشارة إلى كونه المؤثر الاكبر في وضعه.

لدى وفاة اليانور روزفلت عام 1951، اختير شارل مالك خلفا لها في رئاسة اللجنة، وفي عام 1958 ترأس الجمعية العمومية للأمم المتحدة.

لم يكتف شارل مالك بتحقيق حضور في المنابر العالمية، بل سخر إمكاناته لخدمة قضايا بلده، فعاد إلى لبنان وشغل مناصب وزارية عدة من بينها: وزير الخارجية (1957)، ووزير التربية والفنون الجميلة (1956 و1967).

مؤلفات
كتب شارل مالك حوالى 85% من مؤلّفاته بالإنكليزيّة، أما المنشور من نتاجه حتى الآن فلا يتجاوز %10. من ابرز مؤلفاته: الجزء الاول من كتابه “المقدَمة” وفيه رسم بعض أوجه تطوره الكياني، وعرض “الفلسفة الظهورية” Phenomenology، وشرح نظرته الى الرياضيات والعلوم والكوزمولوجية والحلولية والمثالية.

في هذا السياق وُقِّع اتفاق تعاون بين مؤسسة الفكر اللبناني في جامعة سيّدة اللويزة والدكتور حبيب مالك (ابن شارل مالك)، تم بموجبه تقديم نسخ من أوراق شارل مالك ومخطوطاته إلى الجامعة كهبة دائمة. عليه تصبح هذه النسخ في حوزة مؤسسة الفكر اللبناني لتكون بتصرف الباحثين والطلاب تعزيزاً للدراسات والأبحاث حول نتاج شارل مالك وفلسفته. وقد كلفت مؤسّسة الفكر اللبناني باحثين لتحقيق وتقديم مؤلّفات شارل مالك وإعدادها للنشر.

اترك رد