بلال حسن التل
تحدثت في المقال السابق عن بعض أحكام الزكاة، وبينت كيف أن البعض يخلط بين الزكاة والصدقة، على اختلاف ما بينهما من أحكام وحكم، وأشرت إلى أن الكثيرين منا توقفوا عند مظاهر الزكاة دون فهم فلسفتها ومقاصدها، وهي مقاصد عظيمة،لو سعينا إلى تحقيقها لتمكنا من القضاء المبرم على الفقر، ولنا في الواقعة التاريخية التي تروى عن خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز، وكيف بحث عن فقير مستحق للزكاة في أرجاء الدولة فلم يجد، فنثر الحبوب للطيورلتأكل منها حتى لا يقال أن طائراً جاع في بلاد المسلمين، كل ذلك بفضل عدل الحاكم وحرصه على تنفيذ أحكام الله،
وفي الطليعة منها الزكاة التي هي الحق المعلوم في أموال الأغنياء للفقراء والمساكين وغيرهما من مصارف الزكاة التي تشكل في النهاية حقاً من حقوق المجتمع، وسبيلاً من سبل تحصينه وتقويته اقتصادياً واجتماعياً،فمن المسلمات أن المجتمع المعافى اقتصادياً تقل فيه المشاكل الاجتماعية، وغيرها من المشاكل التي تعاني منها المجتمعات الفقيرة، والتي أُضيف إليها في عصرنا هذا مشكلة العنف والتطرف، التي يشكل الفقر إحدى حواضنها الرئيسية. وهذه حقيقة على الجميع أن يعيها وفي الطليعة منهم رجال المال والأعمال، الذين يشكل استقرار المجتمعات وأمنها البيئة الخصبة لازدهار أعمالهم ونمو أموالهم، مما يحتم عليهم أن يكونوا أكثر الناس حماسا وعملاً لمحاربة الفقر من خلال أداء الحق المعلوم للفقراء والمساكين في أموالهم والمتمثل بالزكاة، وإن زادوا عليها بالصدقات فذلك فضل سيعود خيره عليهم أولاً، وعلى المجتمع الذي يعملون به ويتعاملون معه ثانيا
وفي طريقنا إلى اجتنات الفقر عبر الزكوات والصدقات يجب أن لا يفوتنا أن من أهم واجباتنا أن نحفظ كرامات الناس خاصة الفقراء منهم، ولعل هذا هو البعد التربوي في حث رسول الله لنا بأن لا تعلم اليد اليمنى لأحدنا عما تنفق يده اليسرى،فأين نحن من هذا التوجيه النبوي، وقد حولنا عمل الخير بما في ذلك أداء الزكوات والصدقات إلى مظهر من مظاهر النفاق والرياء الاجتماعي، ووسيلة من وسائل الإعلان التجاري الرخيص وبابا من أبواب التهرب الضريبي في اعتداء سافر على المال العام، على أن أخطر ما في سلوك بعض الذين يزعمون أنهم يقدمون العون للفقراء والمساكين من خلال طرود الخير أو موائد الرحمن أنهم مقابل لقيمات معدودة يقدمونها للفقير والمسكين يسلبونه كرامته وكبريائه، وهم يصرون على تصويره أثناء تقديم المساعدة له في صورة بشعة من صور المتاجرة بآلالام الناس وأوجاعهم، التي صارت طريقا للبعض لبناء صور اجتماعية زائفة، نرجوا أن لا نرى الكثير منها في شهر رمضان الذي نعيشه ونحن بين يدي الانتخابات النيابية وانتخابات اللامركزية،حيث اعتدنا أن تنشط التجارة بعذابات الفقراء، وفي واحدة من صور تفريغ العبادات من مضامينها ومقاصدها، فالمتأمل في سلوك بعض الأفراد والمؤسسات والجمعيات والجماعات سيجد أن هذا السلوك يكسر أولاً مفهوم العبادة كعلاقة بين الخالق والمخلوق يجب أن يجردها المخلوق من أي هوى أو غرض دنيوي.
غير كسر مفهوم العبادة فإن هذا السلوك يكسر مفهوم عفة النفس عند شرائح متزايدة من الناس يجري استغلال حاجتها لبناء شعبية وصورة اجتماعية زائفة، وترويج تجاري رخيص لهذه الشركة أو تلك،وهذا كله تفريغ للعبادة من جوهرها، وصرف لعمل الخير عن مساره الطبيعي وهذا كله أيضا يصب في بناء مفاهم خاطئة، أبرزها تغذية مفهوم اليد السفلى، وتعزيز روح الاتكالية عند البعض من الذين يستمرئون العيش عالة على الصدقات والأعطيات، في حين أن الهدف من الزكاة ومثلها سائر الصدقات إخراج الفقير من فقره، ومن خانة الإعالة، وتحويله إلى قوة منتجة تساهم في بناء المجتمع وتنميته، من هنا فإننا نجدد الدعوة إلى إحياء مفهوم الوقف الإسلامي حيث كان المسلمون يوظفون أموالهم أوقافاً تبني الطرق والجسور والمستشفيات ودور العلم التي كان يتم الإنفاق على تلاميذها من أموال الأوقاف، فلماذا لا نعيد هذا المفهوم الحضاري لأوقافنا فنحول ملايين الدنانير التي ننفقها سنويا على طرود الخير وموائد الرحمن وما شابهها لإقامة مشاريع إنتاجية توفر فرص عمل، تخرج شبابنا من فئة العوز والبطالة إلى فئة الإنتاج والبناء، وهذا هو جوهر العبادة ومقصدها خاصة عبادة الزكاة والصدقات.