يا صديقي ريمون
قرأت ديوانك الجديد: “أشدو… وأشتاق” وسجلت لك هذه الكلمات بكل صدق ومحبة. قد تفاجأ بهذه الفاتحة المغناة:
قل للمليحة في الخمار الأسود
ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان شمّر للصلاة ثيابه
حتى ظهرت له بباب المعبد
فسرقت منه دينه ويقينه
لا تقتليه بحق “الرب الأوحد”
كلنا مرهونون للغواية. وهي جوهر السبيل إلى اللذة والتجدد والخصب، وبها يكتمل كوننا الأزلي… فاعذرني إذا بادأتك بها فهي تحمل عبء الصرخة المأساة بين الله والنسك والتعبد والصلاة والتهرب من الغواية الملتهبة بالأوجاع والآلام!
بعد أن قلّبت آخر ديوان صدر لك بعنوان: “أشدو… وأشتاق” مرتين خرجت مشحوناً بالتساؤلات: لمن أنت تشدو… ولمن تشتاق؟
ألبشر من لحم ودم ووجدان؟
أم لأرواح جفّ لحمها ويبس دمها؟
ولمن ترهن أحاسيسك ومشاعرك كل يوم؟ صبح مساء؟
وتقدم صلواتك وابتهالاتك وتأملاتك كلما دعا داعي الواجب للصلاة؟ وللتعبد؟
أللكفر النجس المقدّس؟ أم للإيمان الطاهر المزيّف؟ اللوداعة المتناهية بصفائها ونقائها؟ أم للزندقة المتسلطة بالكبرياء؟ أم للتعبد المتظاهر بالتبرج والزهو والضائع بخيلاء الغباء؟
يا صديقي ريمون
يا من جمعتنا مأساة واحدة، آن ضُربنا بوحشة التوحّد، ثق تماماً، لن يستطيع سلطان مهما علا شأنه وكبر حجمه، واستبد ظلمه أن يمنعك من “الشوق” ويبدّد “الشدو” في دخيلة نفسك. لقد أحسنت حين ميّزت بين انشطار”الشدو” و”الشوق” في وجدانك تماماً كما انشطار بارجة بجبل من جليد!
من يقرأك بتأنٍ يشعر أن مأساتك أكبر منك ولكنه في الوقت ذاته يدرك أنه أمام سراب… وعليه أن يقتنع أنه قادر على التخلص من أدرانها بالشدو… والشوق إذا اجتمعا! … وان وجعك الدفين هو وجع الشباب الضاحك للحياة، والهازئ المستهتر بمآسيها، يفتت بكلتا يديه حباتها كما حبّات العنب عن عناقيدها… ويبعثرها غير مقيم للجهد المضاعف.. وللهاث والتعب واليأس، أي وزن، ليفي نذوراً… ويزرع فرحاً في مشاتل الوجدان.
يا صديقي ريمون
إذا لم تتمكن من أن تتخطى وجع القلب ووجع الشبق، فأنت باقٍ أسير الحيرة… تأخذ في تلابيب وجدانك وتأملاتك… وتبقى الصبابة الراجحة ترعى في صحرائك الجدباء… وتفرض عليك أن ترسف في أصفادك مهاناً، يمسك القلق بأنفاسك ويخدّرك… وتكتب بترددك صك عبودية عصرتها المأساة الانسانية كما حجر الرحى يعصر حبات الزيتون ميروناً ملعوناً أو مقدساً… أو زيتاً مغشوشاً يحيي النور في زبالة ضوء عليل يتمرد على الظلمة الكالحة في شموخ الكاتدرائيات!
يا صديقي ريمون
أنت في ديوانك شاعر المناسبات والوفاء والوجدانيات والتأملات حين يعبر بك الشوق من ضفة الى ضفة… ولكنك آن تستسلم للشدو يختلط شدوك أو يتشابه مع شدو “صرّار الليل”، هذا الماجن القزم، حين يشتد عليه قهر الذات فلا يستوعب شهقاته وتنهداته تخت يصيء من الألم… ولا يلملم لهاثه خباء… ولا ألمح أثراً أو ظل أثر… لا في عنفوان النسك والتجلّي، ولا في عنجهية الخيلاء… ولا في قافية ملمومة أو أوزان مفككة… ولا في رتابة الصيد في السفاري أو طرائد القوس والنشاب أو الرماح والجريد…!
لا أنكر عليك، حقك في أن تأتي قصائدك قصائد مناسبات أو تأملات ووجدانيات متشابهة مصبوغة بالأبيض حيناً أو بالأسود ولا جديد فيها يتسامى بها الى فقه العقل، ولا قعر لها يغوص بها الى بحار الظلمات الخارقة… إنها مرآة لأحاسيسك ومشاعرك اللازوردية ببشر عرفتهم وعرفوك… وبشر زرعوا جيناتهم بجيناتك وانقطعت صلاتك بهم انقطاعاً أبدياً، فلا هي مدح حين يعزّ المديح، ولا هي تقريظ ساخن، ولا شوق حار، ولا نجوى عميقة الأغوار. لا حزن بليغ… ولا كآبة سرمدية لا تجديد فيها أو تلوّن أو تنوّع! وإن كانت متفلتة من قيود الأوزان وخالية من أية رمزية أو سوريالية تحكمها رتابة تعاني من غفوة سريرية!
ولا أنكر عليك بالتالي، حقك في قصائد الوجدان والتأملات أن تعبّر عن فرح مكبوت، كنهه أعجر… فلا هو سوريالي ولا هو انطباعي ولا هو كلاسيكي… قصائد الأحاسيس المتفاوتة لشاعر عبثت الحياة بكينونته فخنقها حتى غارت بدل أن تتفجّر كأنها البركان المستعر بحممه وغارت معها الدموع الدفّاقة في المآقي المقهورة!
يا صديقي ريمون
أنا أعترف، بصدق، أنني لم أقرأ لك من قبل سطراً واحداً شعراً من دواوينك الثمانية وهذا تقصير فاضح مني… وجهل… وتمنعني هذه الحال في أن أتمادى في البحث عن المثالب… أو البحث عن الكنوز… ولكنني مهما حاولت أن أظلمك، وأطعنك في بعض جوانب من أحاسيسك ومشاعرك وعواطفك، وأسير عكس التيار في الثناء والأطناب… لا أنكر عليك وفاءك المميز لمن رحلوا عن ديارك وما زالت أرواحهم تملأ أرجاءك الرحبة وكونك الأنيس، وكهولتك النضرة وشبابك الريّان النظيف بمتعه… تقاوم ولا تستسلم للشرور الشمطاء!
يا صديقي ريمون
لا تدع الطحالب تبدّل وجه الأيكة الرضية عندك، فأنت مخزون من قيم بحاجة الى نبش وعناية لا إلى اهمال واستسهال وتراخ…
تحررّ من خوفك وترددك، فبينك وبين الحياة الدنيا مساحة زمنية كفيلة بأن تغذّي التمرد الشريف في حروفك.
انت لست بذيئاً ولا ماجناً، فلتبق قصائدك أيقونات في معبدك مهما تقلبّت مليحات الغواية لتسرق منك دينك ويقينك وحاولت صروف الزمان الماكرة أن تؤلب الشرّ على عالمك المسحور بالنعم!
ألا رفقاً بالقوارير؟ ولتشفع بك صلاتك.
(صديقك جورج شامي)
24- 5- 2016