ريمون شبلي… نابض بالثورة وثّاب إلى المعالي

jihad naaman

د. جهاد نعمان

(أديب- لبنان)

يا للإنسان الذي قرأتُه قبل أن أقرأ له فصاغ منّي صديقًا له !

يعيش كزنبقة مرتعشة في غابة كبيرة. كُتبَ عليه جانب من المعاناة فأمسى صاحب رؤى في زمن كفيفي البصيرة وعادمي الضمير.

يشدو لأحبّاء مضوا، ويشتاق إلى تحقيق آمال وأحلام.

الشاعر المطبوع ريمون شبلي.

لم يبقَ شعره على ما كان عليه الشعر من مدح أو رثاء أو هجاء. فهل مات الأمل في صدره وباعدت العلل بين البصر والبصيرة واتجاه النور؟

خلقت المدنيّة المزيّفة المقلّدة شعره المتمرّد والتوّاق إلى أسباب العدالة والتحرّر من كلّ ظلم وقلق.

شعره الاجتماعيّ يعكس آلام شعبه. يدعو فيه إلى تربية الأطفال، ويزيح الستار عن مضار تصرفات رعناء، ويكثر من التحدّث بالوطنيّات والعطف على المظلومين والمنكوبين القابعين في الزوايا المظلمة.

يتعرّض شعره لأغراضٍ مستجدَّة كالتلوّث البيئي. يخشى حتى الريح والدموع ومهبط الليل الخبيث الرطب ينفذ إلى رؤيته ويحزّ في صدره ويحشرج  الصوت الكليل في حلقه الذي أرهقته مهنة المهن التعليم.

طريقه إلى التجديد القويم هو الأدب الأصيل وأساليبه وصفاء لغته والتأثّر المتعقّل بالفنّ الغربي والتعمّق في الثقافة الغربيّة تعمُّقًا حقيقيًّا لا يقف عند القشور ولا يكتفي بالتوقّف عند بعض العناوين والصور والمعاني.

guilaf raymond chebli

لديه ملكة نادرة للغة الضاد، صقلها الـمِـران، لذا أتحفنا بأثر شعريّ خالد.

خياله يتجلّى في صور نابضة بالحياة على غير تصنّع أو ميوعة أو ركاكة أو نغولة أو رطانة.

أوزانه الشعريّة موسيقيّة في أكثرها، وقد خرجت في قسم منها على ما عهدناه عند العرب.

فنّه الشعريّ فنّ الطبيعة المتدفّقة لا تلمس فيه تأثّرًا بأسلوب معيّن. ليس من المتصنّعين الذين يتوفّرون على الصناعة اللفظيّة والمعنويّة كأتي تمام الذي حذا المتنبّي حذوَه في سواد شعر صباه، وليس من المتفلسفين الذين يلجأون في شعرهم إلى قوالب فلسفيّة خارجيّة جاهزة. أنامله المرمريّة الناعمة تعبث بالزهور تحت شمس الظهيرة. عيناه المرفرفتان يجثم فيهما الأبد. لا يخشى فيه الناس وأقاوليهم والله أحقّ أن يخشاه.

أهمل الأساليب السوقيّة أو المبتذلة التي يتهافت عليها بعض شعراء اليوم أو القوالب الجامدة التي يفرغ فيها البعض نتاج قرائحهم. أعرض، ما استطاع، عمّا اعتمدوه من طرائق الصناعة والتنميق، مبتكرًا لشعره قوالب شخصيّة حيّة تنسجم فيها معانيه وعواطفه وصوره. اصطبغ فنّه بألوان شخصيّته.

شعره في اشتياقه نابض بالثورة وثّاب إلى المعالي مدوّي الحماسة تشيع فيه الثقة الكاملة والكبر المنتصر. وشدوُه لا يحدّ من وثبته ألم الخيبة وحزن الفقدان والإخفاق. يقول في الشهيدة الحيّة مي شدياق (ص 81-82): “خاب الجناةُ!… تقولين: ابتدأتُ غدًا عمرًا جديدًا… وهُم في حِقدهم هُزِموا”.

ويقول بُعَيْدَ اغتيال جبران “النهار” في ظلامنا الطويل:

“فجّرتُمُ الجسمَ؟ نِلتُمْ منه؟ لعنتُهُ

وراءَكم، واليراعُ السيفُ ينتقمُ”.

وتراه يوجز فلسفته بقوله (ص 73):

“نكتبُ الأيامَ، بل تكتبنا في ورق الدنيا المقلّة”

أظهر معجزاتك يا ربّ، فأنتَ رحمة وحنان وأنت عدل وإنصاف، وأنت أمل وجمال وحبّ.

يشدُّك الكاتب إلى عالم آخر هو عالم الأفراح والأعراس، عالم سِفْرِ عبور يجتازه الصوت الصافي (ص 100) وصوت نور الهدى ألكسندرا بدران “خمرة تُسكِر الخمره” (ص 102). والعبور يتكرّر تحت قلمه: “أكسرِ البابَ الأسود، أخرجْ واغتسِلْ في ضوء الغدْ… إرمِ عينَ الماضي، لا تلتفتْ! أعبُرْ وانطلِقْ” (ص 76 وما بعدها). أجل، يا أخي في الروح والوجد سيفوز يومًا القتيل ويفرح بالأبد والقلم والخلود.

أمّا المسيح الطيّب الكريم الحيّ المنقذ، فلا يمكن أن تعرفه عموماً هذه المسيحيّة الحضاريّة المحتضرة. أين هي المسيحيّة الجامعة الشاملة المانعة؟ أين هي، في أوساطها، سياسة النفس التي يتحدّث بها الكاتب مقارنةً وبساطة الإنجيل وتواضع السيّد الإله؟ أين تلك الأجساد البلّوريّة الضابطة للهوى؟ أين هي المسيحيّة في نفوذ هنا وهناك ومؤسّسات لا تؤمن بفاعليّة المسيح الجامع حول نفسه بالحبّ والإبداع مَن يشاء؟ أين المسيحيّة الأسيرة الآسرة تكشف الآن، مع فرنسيس الأوّل، أزمة هويّتها وقلّما ينبري نبيّ أو يبرز مَن يكسر للأطفال خبـزًا ريثما ينال المستحقّون الغبطة الكبرى يجود بها نور المسيح فيفرحون في رحلة الأبد أمثال شريكة حياة المؤلّف؟

*****

(*) ألقيت في الندوة حول ديوان “أشدو وأشتاق” للشاعر ريمون شبلي  في الحركة الثقافية- أنطلياس.

اترك رد