الأب كميل مبارك
أَطَلَّ حزيران بدفْئِهِ وشَمْسِه حاملاً في حناياه وَعْدَ المواسمِ للبيادر، وللمعاصر اشْتِياقَ القطاف، مخبِّئًا نَدَى الرَّبيع في بواكير أَيَّامه مُعْلِنًا كرمَ الصَّيْف في أَواخِرِها، وكأَنَّه ينادي تشرين ليوقِظَ انْتِظارَه على طَيْفِ المواسم ورَحابَة الأَهْراء.
حزيران، هذا الشَّهْر المليءُ بالوعود، حمَّلَتْهُ الكنيسةُ كلَّ هذه المعاني حين خصَّصَتْهُ لقلب يسوع، يسوع الذي حقَّق كلَّ الوعود وأَعادَ الشَّبابَ للخليقة التي أَلْبَسَتْها الخطيئَةُ ثيابَ العُجَّز وسارَتْ بها نَحْوَ بُرودة المَوْت. يسوع هذا الذي فيه كلُّ العطاء، جَعَلَني حزيران الذي يخَزِّن الخَيْرَ من دون أَنْ يباهيَ به كما نَوَّار بالزُّهور وتشرين بدَفْقِ البيادِر، جَعَلَني أَفْهَمُ كلمةَ السَّيِّد المعلِّم حين قال: تعلَّموا منِّي أَنِّي وديعٌ ومتواضعُ القلب. متواضعٌ وهو الأَكْبَرُ أَرْضًا وسماء، ووَحْدَه له الحقُّ بالتَّفاخُر لَوْ شاء.
كثيرون تعلَّموا الوداعةَ واتِّضاعَ القَلْبِ فابْتَعَدوا عن كلِّ مشاهدِ التَّكَبُّرِ والبَطَر في الجسد والنَّفْس والقلب والعقل، رفَضُوا صدورَ المجالِسِ في المَجامِع ومواقع الشَّرَف، كما يحْلُو للبَعْضِ أَنْ يُسَمِّيَها، على المَوائِد، لَمْ تخمُرْ عقولَهم المناصِبُ ولا زَهَتْ عيُونُهم بالمَراتِب، رَفَضوا كلَّ ما جَعَلَهم يعتقدون أَنَّهم بَشَرٌ من طينةٍ تفوقُ قدْرًا طينةَ البشرِ أَجمعين.
أَمَّا أُولئِك الَّذين لم تَصِلْ إلى قناعاتهم كلمةُ المسيح، «تعلَّموا منِّي أَنِّي وديعٌ ومتواضعُ القلب»، فما زالت مفاعيلُ تلك الخطيئَةِ تَحفُرُ في كيانِهِم ما رسَمَتْه الحيَّةُ في ذِهْنِ آدم ودفعَتْهُ لكي يَظُنَّ نفْسَه إلهًا كمَا الله، فكان ما كان، حتَّى الطُّوفان لم يسْتَطِعْ أَنْ يَغْسِلَ تلك الأَدران، هؤُلاء الَّذين ضاقتْ بهم الدُّنيا وغابَتْ عن وُجودِهِم وَداعةُ التَّواضُع، ما زالوا يتصرَّفون كَمَا لَوْ أَنَّ الحيَّةَ ما زالتْ تفِحُّ في آذانِهِم قائِلةً: أَنْتم آلهةٌ والنَّاسُ الآخَرون ترابٌ وعلى هذا الأَساسِ يتصرَّفون، فيحتقِرون مَنْ شاؤُوا ويُنْكِرُون على النَّاسِ حقوقَهم ويتركون مَنْ حَوْلَهم يأْكُلونَ مِنَ الفُتاتِ المتساقطِ عن مَوَائِدِهِم، ويَسْتَهْلِكون الوَقْتَ الَّذي قدَّسَهُ الله للعَطاء، بكُلِّ مظاهِرِ الكَذِبِ والرِّياءِ ومُحاباة الوُجوه والتزلُّفِ استِعْطاءً لمَجْدٍ أَرضيٍّ يَسْتَبْدِلون به كلَّ أَمْجادِ السَّماء.
فَيَا أَيَّها الَّذين تقْرأُون في الكتاب أَو تسمعون آياتِه الدَّاعِيَة إلى اتِّضاعِ القلب وَوَداعَتِه، أَفْسِحُوا المَجالَ لهذه الكلمات لتَجْتازَ آذانَكُم إلى قلوبِكُم وعقولِكُم علَّكُم تَرْعَوُون. ويا أَيَّها الَّذين حَمَلْتُم مفاتيحَ الحكمة فإنْ شِئْتُم أَلَّا تدخُلوا فَدَعوا الطَّريقَ سالكةً أَمام الرَّاغبين في الدُّخول ولا تَمْنَعوهُم بالمَثَل الَّذي يرَوْنَه في تفاصيلِ حياتِكُم. ويا أَيَّها الَّذين جَلَسْتُم على كُرْسِيِّ موسى ليسْمَعَ النَّاسُ أقوالَكُم فلا تُجْبِرُوهم على فِعْلِ ما تفْعَلون رفْضًا مِنْهُم لِدَعْوَةِ المسيح إلى الاتِّضاع قائِلين إنَّكم أَوْلى بسَمَاع صَوْتِ الرَّبِّ والسَّيْرِ بحَسَبِ تعاليمِه لتَكونوا قُدْوَةً للنَّاظِرين.
كونوا كما حزيران، تُمْسِكُون الرَّبيعَ بِيَدٍ والصَّيْفَ بالأُخرى، فلا وُرودكم تُظْهِرونَها، ولا مَوَاسِمكم تُعلِنون، ولكنَّ الخَيْرَ، كلّ الخَيْر في ما تَعِدون وتؤمّلون.