د. عبدالله سعيد
إن أحداث 1860، الدموية استمرت شاخصة في عيون أهالي جبل لبنان، على اختلاف مذاهبِهم ومناطقِهم، لسنواتٍ طويلة… فما إنْ اقتربَ أهالي المناطقِ المختلطة من العام 1960،حتى أخذوا يردّدون بلوعةٍ وغصّةٍ حارقة: ” سنة الستين يا رب تعين”، أو ” تِنْذكر ما تنعاد”. ولكنَّ الأحداثَ الأهلية الطائفية والمذهبية عادتْ في السنتين1975و1976 بكارثةٍ مأساوية على جميع أبناءِ الجبل والمناطق اللبنانية الأخرى. وفي وقتِنا الحاضر على بعضِ البلدان العربية المشرقية والعالمية، كأنهم لم يسمعوا بالمثل القائل: ” ما متت وما شفت مين مات”!
إذن، لماذا كان أهالينا يخافون من قدومِ سنة الستين؟ هل لأنّهم خافوا من افتراقِ الأهل والأصحاب مرَةً أخرى؟ أم خافوا من تجدّدِ القتل على الهويّة والتهجيرِ والنزوحِ والاقتلاعِ عن أراضِيهم التي زرعوها شبراً شبراً، ومنازلهم التي بنوها حجرة حجرة؟ أم الخوفُ من التدخل الأجنبي في أمورِ وطنهم؟.
لقد كانت أسبابُ خوفِهم كثيرةً: لأنَّ من في يدِه الربطَ والحلَّ وزمامَ القيادة في لبنان والأقاليم المجاورة، لم يتعلّمْ من الماضي، ولم يقرأْ التاريخَ وأحداثَه ونتائجَ حروبِه المدمّرة عندنا أو في العالم. كما أنّ بعضَ الباحثين والمؤرخين لم يفتّشوا كفايةً عن الأسبابِ العميقةِ لجذورِ الأحداثِ الطائفية في لبنان وتداخُلِها مع مجرى الأحداثِ الإقليمية والعالمية، وتغيّرِ نتائجِها باستمرار على ضوءِ ترابطِ توازنِ القوى في الداخلِ المحلّي مع الخارجِ اللعوب الماكرِ والمدمّرِ لإرادة الشعوب وحرياتِها وسيادتِها واستقلالِها.
ولإنّ هدفَ قارئ التاريخ هو التوّصلُ إلى الحقيقة، وليس فقط تسجيلَ الأحداث بالمعلومات السطحيّة والإكتفاء بعواملها الفئوية الجانب المتوفّرة لديه، دون أن يكلّفَ نفسَه عناءَ التفتيش عن الحقيقةِ الضائعة في المقلب الآخر، ومقاربتِها مع ما توصّلَ إليه من مروياتِ جماعتِه. فحتى الآن ليس من روايةٍ وطنيةٍ رسمية محايدة أو غير محادية لأحداث 1860، أو لما سبقها من فتنٍ طائفية وطبقية آنذاك. فأين نحن من تسجيلات مجالس إدارة القائمقاميتين أو تسجلات الإدارة العثمانية الرسمية للصدارة العظمى ودواوين ولاتها وعمّالها في كل من بيروت ودمشق وحمص وحلب وطرابلس وبعبدا وبيت الدين.
فالكلام عن صراع طائفي بين الدروز والموارنة، أو بين المسلمين والمسيحيين بعد «أجيال من العيش المشترك بسلام»، أي ما يقارب الأربعمائة سنة، هو تشويهٌ متعمَّدٌ لجوهر ذلك الصراع الاجتماعي بوجهه الطائفي الذي انفجر داخل بنية النظام المقاطعجي اللبناني بالذات، والذي ساهم الأمير بشير الشهابي الثاني والحكم المصري بتعميقه. حيث أنّ المساواة بين الطوائف وإدخال المسيحيين في سلك الخدمة العسكرية وتضرر السيطرة المقاطعجية المحلية وغيرها من ذلك، أفسحت المجال أمام الأغلبية السكانية النصرانية للمطالبة بوضعها على قدم المساواة مع الأقليات الدرزية المسيطِرَة. فهي قد أدركت كثرتَها العددية اللاحقة – وهذا واضح في جميع التقارير السياسية الداخلية والخارجية آنذاك – وتوزُّعَها الاستيطاني في جميع مقاطعات الإمارة اللبنانية بدون استثناء. كما أدركت الأغلبية المسيحية قواها الذاتية ودورَها الأساسي في الإنتاج في المقاطعات التي يسيطر عليها المقاطعجيون الدروز والنصارى على حدٍّ السواء. لذا، قامت تطالب بأنصافها، ورفض الضرائب الباهظة والامتيازات المقاطعجية المتعددة، أو التخلي عن سلاحها والالتحاق بالتجنيد الإجباري للقتال في مناطق بعيدة عن ساحة المعركة الحقيقية التي أحسّت إنّها قادمة لا محالة.
من هنا، من يتتبع مسار التطور الاقتصادي الاجتماعي في مقاطعات جبل لبنان، يمكنه أن يلاحظ تنامي العاميات الشعبية في المقاطعات الشمالية(المتن وكسروان وجبيل) ضد السيطرة المقاطعجية. وهذا التحرّك كان سيقود حتماً إلى صراعٍ في المقاطعات الجنوبية حيث هيمنة المقاطعجية الدرزية على مقدرات الفلاحين واستغلالهم والوقوف حجرَ عثرة أمام تطورِهم وتنامي برجوازيّتِهم الصاعدة. مع العلم، أن التطور التاريخي لتلك القوى الفلاحية في المناطق االمسيحيية كان أكثر تقدماً وجذريةً منه في المناطق الدرزية. فتلك المناطق شهدت علاقات تجارية مُبكِرَة مع الغرب، كما شهدت ضُعفَ السيطرة المقاطعجية المحلية، ومساهمة الاكليروس الأدنى والأوسط النشيطة في الإنتاج، كما شهدت تنظيم الانتفاضات حيث كانت لهذا الأكليروس المصلحة الفعلية في التخلّص من سيطرة المقاطعجيين. يُضاف إلى ذلك تأثيرُ الحركةِ التنويريةِ في الأديرة وتأثّرُها بشعارات الثورة الفرنسية الكبرى، وضعف القوى العسكرية المقاطعجية القادرة على إحباط تمرّد الفلاحين؛ كل تلك الأسباب وغيرها تُبرزُ بوضوح أن هذا الصراع الحتمي بين القوى الفلاحيّة وعلاقات الإنتاج المقاطعجية المعيقة لتطورها سينفجر، لا محالة، داخل مقاطعات القائمقامية الدرزية ذات سيطرة الإقطاعية الدرزية، والفلاحية المسيحية بشكل عنيف، وداخل المقاطعات النصرانية بشكل أكثر عنفاً وأشد تجذَراً في 1858.
كما أنّه، في مجال الحديث عن أسباب فتنة 1860، المحتملة، يجب أن لا ننسى تطوّر مسارَ السلطةِ القميعةِ في البلدان والمقاطعات اللبنانية في ظلِّ الإمارة الشهابية، وظُلمَ تلك السلطة الضريبي، وجشعَ أفرادِها للمال وعشقَهم لسفك الدماء حتى ضمن الأسرة الحاكمة أو المقاطعجية الواحدة. حيث أنّ ازديادَ القمع السلطوي ولّد القهرَ الاجتماعي والاصطفاف المقاطعجي القاتل، وترافق ذلك مع قصر نظر مقاطعجية واضحة، وعدم تمكُّنها من قراءة نتائج الأحداث الثورية الوافدة من أوروبا البرجوازية، مع أحرار الإكليروس والمستشرقين والتجّار وغيرِهم من الوافدين إلى بلاد الأرز. كما أنّ تطورَ السلطةِ في جبل لبنان وتشكّلَ نظام القائمقاميتين بحدود ثابتة وشبه ضابطة وحتّى مقيّدة للتنقُّل البشري بين المقاطعتين، وبينهما وبين الأراضي المجاورة، أثّر من قريب أو من بعيد في تأجيج الصراع الاجتماعي الاقتصادي في كسروان والطائفي المذهبي في بلاد الشوف والمتن، باعتبار انفتاح الحدود السابق كان عاملَ تنفّسٍ اقتصادي وتمددٍ لعائلات كثيرة غيّرت مكان سكنها جماعياً أو إفرادياً، وكانت محل ترحاب من العائلات اللبنانية الأخرى التي نزلت بينها… فإن هذا الانغلاق المناطقى أوقع كل من الفلاحين وأسيادِهم المقاطعجيين في ضائقة اقتصادية أدّت إلى إرهاقِهم بالديون والضرائب، وكان لا بدّ من إنفجارٍ ما، يسمح بالتملّص من تلك الأعباء والديون المقاطعجية، وإعادة خلط الأوراق، في محاولة لعودة المقاطعجيين للإمساك بخيوط اللعبة في مقاطعاتهم السابقة. ولكن “حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر”.
وجاء مجلس الطوائف في كل قائمقامية، الذي كان يرأسه القائمقام شخصياً ليزيد في الوضع المتأزم سوءاً. حيث كانت صلاحيات المجلس تتناول الأمور المالية والقضائية كتوزيع الضرائب وضبط جبايتها سنوياً، وبما أنّ القرار كان يتطلب لتنفيذه إجماعَ الأعضاء، وفي حال الاختلاف فإنّ المرجع الصالح والأخير هو والي صيدا. ولأن الإجماع كان مستحيلاً، لذا، كانت تتم المداخلات والمشاورات الطائفية التي تؤجج الصراع داخل مجلس القائمقامية وخارجه.
من هنا، كانت أحداث 1860، نتيجةً حتمية لتطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في جبل لبنان وتلازمها مع نمو مسيحي مطرد في بلاد الشوف والمتن والغرب، وغيرها من المناطق المختلطة في لبنان وسورية وفلسطين. يُضاف إلى ذلك، ارتباط تلك الأحداث بحملة إبراهيم باشا المصري على بلاد الشام 1832، ودور الحكم المصريّ في إشاعته المساواة بين جميع الطوائف. وهذه المساواة لاقت الرفض كل الرفض من قبل القوى المقاطعجية الدرزية. كما أنّ طبيعة تشكّل مجلس طوائف القائمقامية الدرزية أجج الصراع الطائفي، بعد أن ساوى هذا المجلس الاستشاري بين المقاطعجيين ومدبريهم وبعض عناصر البرجوازيّة الصاعدة من التجّار والمرابين وأرباب المصالح الماليّة، حيث لم يتقبّل من كان في موقع السلطة العليا أن يجلس إلى جانبه من هو أقل مرتبة منه، أو من كان في الأمس القريب خادمَه المطيع. كما أنّ من قرأ أحداث 1860، ومازال، بعين طائفية مذهبية فقط، ساهم ويساهم في تأجيج الصراعات المذهبية التي نعرف أي متى تبدأ، ولكن لا نعرف أي متى تنتهي طالما هناك زواج وهويات طائفية وأسماء علم خاصة بكل مجموعة واضحة الانتماء.
فهل سأل أحدُنا، لماذا يختلف اللبنانيون ويتقاتلون على أرضِ وطنِهم؟ في الوقت الذي يتآلفون ويتعاونون في بلاد الإغتراب، فيعملون معاً ويتشاركون في أفراحهم وأحزانهم ونشاطاتهم الثقافية والرياضية؟
على كل حال بانتظار الحصول على الرواية الوطنية الرسمية الصحيحة، وعلى الوثائق العثمانية الخاصة بالتاريخ اللبناني والسوري التي تغطي حقبة حكمهم، نأمل أن يعي اللبنانيون عقم الصراع الطائفي، والنظافة العرقية والمناطقية، فليس من حضارة نقية مئة في المئة، بل هي مدانَة ببقائها لتفاعلها مع الحضارات الأخرى السابقة أو المرافقة لها. كما أنّه ما من عصبية مهما كانت قوّتُها وثقتُها بصحّةِ نسبِها استمرّت متماسكةً وقابضةً على السلطة بشقيّها المدني والعسكري لمدّة طويلة، والشواهد التاريخية على ذلك كثيرةٌ….!!
من هنا جاء كتاب 1860، تاريخ وذاكرة نزاع الذي انبثق عن أبحاث قُدّمت في ندوة علمية انعقدت في بيروت من 5 إلى 7 تشرين الأول 2011، والصادر عن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى في سوريا ولبنان والأردن والعراق وفلسطين، جاء متنوّعَ الآراء والأصوات والقراءات المختلفة لوقائع فتنة 1860. فهو نتاج عمل وتفاعل ونقاش أكثر من 25 باحثةً وباحثاً من لبنان وسوريا وفرنسا وسويسرا وتركيا والولايات الأمريكية المتحدة، ومن جامعات: البلمند واليسوعية والأمريكية واللبنانية والروح القدس- الكسليك، بالإضافة إلى مجموعة من الباحثين المستقلين. لذا يمكن اعتباره من أهم الكتب الجامعة التي رصدت أحداث الستين وتداعياتها على الصعيد المحلي والإقليمي بهدف الوقوف على حقيقة أسبابها واستخلاص العِبَر منها، لعّله يتّعظ أصحاب الرؤوس الحامية ويقتنعون بأن هذا الوطن الصغير يتسع للجميع شرط الالتزام بقوانينه ودستوره المدني، وقبول العيش فيه إلى جانب الآخرين مهما كانت آراء ومعتقدات ومذاهب وألوان هؤلاء الآخرين.
فهذا الكتاب يجمع في طيّات صفحاته دراسات وأبحاث نقدية لحوادث 1860 وتداعياتها، وللجذور العميقة للإضطرابات في سوريا ولبنان وأسبابها، ودور الحكومة العثمانية السلبي والإيجابي من الأحداث ومسار تطورها، كما يبحث في طائفية المتقاتلين وقياداتهم ودور هذه القيادة فيها وعلى الصعيد الوطني، ويستعرض أيضاً في بعض أبحاثه المرويات التاريخية لبعض شهود عيان الذين عاصروا تلك المرحلة وكيف قدّمت الكتب المدرسية صورة تلك المذابح بالاستناد إلى الذاكرة التاريخية السائدة حتى الآن، بالإضافة إلى أبحاثٍ تناولت موقف والبطريركية المارونية والمعلّم بطرس البستاني والتدابير العثمانية والتدخلات الأجنبية على اختلافها.
إذن إنّه كتاب، يعبّر عن أراء ونظريات باحثين متنوعين في انتماءاتهم السياسية والمذهبية والمنهجية، ولكنهم يقدّمون أبحاثهم بموضوعية وعلمية واضعين نصب أعينِهم مسألة التصالح الوطني لجميع اللبنانيين مع أنفسهم أولاً ومن ثمّ مع وطنهم ومحيطه ثانياً، كعامل لتحصين الداخل وعدم التطلّع دائماً إلى الخارج المدمّر لوحدتهم. لذا هو كتاب يُقرأ بتمعّن، ويمكن أن يشكل أحد مداميك البحث العلمي على طريق التنوّع الثقافي في لبنان والكتابة التاريخية التفاعلية لا الانفعالية على ردة الفعل، بل يدعو إلى قراءة جديدة لتاريخ لبنان بأحداثه الكبرى من أجل استخلاص العبرة والعبور من الماضي الدامي إلى المستقبل الواعد بالسلام والطمأنينة والانفتاح على الأخر مهما كان هذا الأخر، وذلك من خلال إقامة الدولة المدنية دولة المواطنة والعدالة والمساواة وتكافئ الفرص للجميع، فعندها تختفي المذهبية والطائفية من النفوس والقوانين، وينتفي عامل الالتجاء إلى الطائفة والاحتماء بها طلباً لمهنة أو وظيفة أو تأمين صحي وتعليمي. إنّه خطوة الآلف ميل على طريق الكتابة التاريخية المتصالحة مع الذات الوطنية والذات الاجتماعية بهدد وضع الأسس العلمية لفهم علمي موضوعي لتاريخ لبنان الحديث والمعاصر بارتباطاته الجغرافية والاجتماعية بالمحيط الخارجي والبعد العالمي.
وإلى أن نصل إلى ذلك أضم صوتي إلى صوت صديقي وزميلي الدكتور عبدالله حنّا الذي قال على الصفحة 268 من هذا الكتاب: “… الطائفيّة، التي عاشها العالم العربي ولا يزال، لم تهبط علينا من السماء، بل هي وليدة الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وهي في خلفيّاتها البعيدة إحدى ثمار الصراع على تقاسم الثروات وطرائق توزيعها. والحقيقة التي يتجاهلها الكثيرون، أنّ الثروة وطرائق توزيعها هي مفتاح فهم التاريخ… أليست الغنائم، التي هفّت لها قلوب المتحاربين والمجاهدين بين قوسين عبر العصور، هي أحد الأسباب، التي سوّدت صفحة تاريخ البشريّة.
وبالتالي فإنّ الطائفيّة واستمرارها، هي من منظور آخر نتيجة تخلّف مجتمعاتنا العربيّة المشرقية وعدم تمكّنها، لأسباب موضوعية ذاتية وخارجية، من الانتقال من نظام الحرف اليدويّة، ورديفه النظام الإقطاعي، إلى الثورة الصناعيّة، ومن الإقطاعيّة إلى الرأسماليّة، التي دشّنتها الثورة الفرنسيّة عام 1789م. وإنّ هذا الركود، وما استتبعه من عدم تكوّن طبقة برجوازيّة ثوريّة وقوى اجتماعيّة حيّة تقوم بدمج المجتمع، أدّى إلى فشل المشروع النهضوي العربي بمنطلقاته المتعدّدة، وفي مقدّمتها ” الوطنيّة”، وهي نقيض الطائفيّة والعشائريّة. أي “الوطنيّة” الجامعة لأبناء الوطن المتساوين في الحقوق والواجبات والسير بهم تحت علم الحرّيّة، علم العدالة والمساواة. وميزان هذه الحرّيّة والعدالة والمساواة هو العمل وما ينتجه الفرد لخيره وخير الوطن.
أليس هذا هو السبب الرئيس في أنّ مجتمعاتنا العربيّة المشرقية ما تزال غارقة في مستنقعات الطائفيّة والعشائريّة، ولم تستطع الخلاص من هذا المستنقع، الذي جفّفته المجتمعات الأخرى، التي تجاوزت أنظمة العبوديّة والإقطاعيّة، ودخلت في عهد جديد للمواطنة والإنتاج الإقتصادي”
فهل من مجتمع في العالم القديم والحديث لم تهشّمه وتزعزع على وحدته، المذابح العرقية والمذهبية؟ ولكنه عاد وانتفض على ماضيه الدامي وشقّ طريقه نحو الألفة والتعايش السلمي، ووضع قوانين مدنية تمنح أبنائه السلام والطمأنينة والحصانة الوطنية الدائمة في وجه أي انتكاسة مذهبية يمكن أن تهب من الداخل أو من الخارج. لذا، أتمنى أن لا يبقى البحث التاريخي والاجتماعي حول فتنة 1860 مجرّد تاريخ وذاكرة نزاع، بل أن يتعدى ذلك إلى البحث عن مغزى هذا الحدث في مسار تطور لبنان الوطن والكيان، والعبرة منه بهدف وضع التصورات الممكنة للإنتقال بهذا الوطن الجريح إلى بر الأمان والتصالح مع الذات اللبنانية كميزة أساسية لشعب متنوّع الانتماء الديني والعرقي ارتضى أن يعيش على أرض تطلّبت منه جهوداً كثيرة لتبقى خضراء معطاءة في بحرٍ من الصحاري القاحلة والموحلة بالنزاعات التي لا تنتهي.
صحيح أن الإستقواء بالخارج، لفئة لبنانية ضد فئة أخرى، هي ميزة أساسية في مسار تطور تاريخ البلدان والمقاطعات اللبنانية منذ انبنائها على أساس طائفي وعرقي قديماً وحديثاً، حيث كان زعيم هذه المقاطعة أو تلك إلى أي طائفة انتمى يستقوى بالقوى الخارجية على جماعته أولاً ثم على جيرانه حتى ولو كانوا من نفس طائفته. كما أن هذا الأجنبي كان عندما يسطر على مقاطعة لبنانية ما، يعمد إلى تنصيب حاكماً من قبله لجباية الرسوم والضرائب من سكان تلك المقاطعة المختلفين في أحيانٍ كثيرة مع طائفة الحاكم أو الأجنبي المسيطر.
وفي هذا المجال يقول المؤرخ اللبناني جواد بولس: كانت الجماعات السياسية الطائفية المختلفة تعيش في لبنان الماضي رغم تقاربها في المكان منعزلة تقريباً الواحدة عن الأخرى وموالية على الأرجح لسيد أجنبي. من هنا فإنّ العداء الإجتماعي بين الفلاحين وأصحاب السيطرة على الأرض الزراعية، كان ينعكس باستمرار بشكل طائفي، وذلك لأن السلطة الخارجية ذات الوجه الطائفي الشيعي(الحكم الفاطمي)، والفرنجي( المسيحي – الصليبي) والسني( المملوكي والعثماني)، كانت توكِل جباية الضرائب وإدارة المقاطعات إلى مقاطعجيين محليين من طائفتها بالذات. وإنّ الإستياء من هؤلاء الجباة والحكام المحليين، والعصيان ضدّهم كانا يرتديان طابع العصيان ضد طائفتهم.
لذا فإنّ التجزئة السياسية لسورية ولبنان وتعدد مذاهبهما، فتحا الباب على مصراعيه للغزو الأجنبي لأراضيهما وأسسا لحروب أهلية مستمرّة لا ينفع بعده الندم في ظل ارتباط الوضع الداخلي الهش بالعوامل الخارجية الإقليمية والعالمية الشديدة التعقيد.
وأخيراً أسمح لنفسي أن أسأل، من موقعي كأحد قارئي التاريخ اللبناني بعيون غير طائفية، لماذا الأحداث الطبقية الاجتماعية الاقتصادية، اندلعت، قبل سنتين من فتنة 1860، في كسروان ذات المعتقدات الدينية الواحدة لدى الأكثرية السكانية؟ بينما لم يقع مثلُها في الشوف؟ أو من هي اليد التي امتدّت بفكرها وسلاحها لتنقُلَ هذا الصراع من بعده الاجتماعي الاقتصادي إلى أتونِه الطائفي؟
*****
(*) ألقيت في الندوة حول كتاب “1860: تاريخ وذاكرة نزاع”، خلال المهرجان اللبناني للكتاب في الحركة الثقافية- أنطلياس.