بقلم: جورج جحا
عن منشورات الجمل في بيروت وبغداد صدرت حديثاً رواية “يا مريم” للكاتب العراقي سنان انطون (159 صفحة) تتمحور حول رؤيتين مختلفتين لشخصيتين من عائلة عراقية مسيحية تجمعهما ظروف البلد تحت سقف واحد في بغداد: رؤية الشباب المتشائم الذي بلغ مرحلة اللا أمل، وجيل الكبار الذي عاش أيام العراق الحلوة، ولا يستطيع أن يصدق أنها انتهت إلى لا رجوع.
تدور أحداث الرواية في يوم واحد تتقاطع فيه سرديات الذاكرة الفردية والجماعية مع الواقع ويصطدم فيه الأمل بالقدر، عندما يغير حدث حياة الشخصين إلى الأبد… تطرح الرواية أسئلة جريئة وصعبة عن وضع الأقليات في العراق، اذ تبحث إحدى شخصياتها عن عراق كان بينما تحاول الأخرى الهرب من عراق الآن.
يؤدي الأمر إلى نهاية سوداء للاثنين، يكاد القارىء لا يدري اٍي واحدة منهما هي الأسوأ: نهاية الجيل القديم بالموت ونهاية الجيل الجديد الذي لم يعد أمامه سوى التشرد، هرباً من الموت، والهجرة إلى بلاد الله الواسعة.
صحيح أن هذه الرواية تأتي في نطاق أعمال ادبية تصور نهاية المسيحيين المفجعة في العراق، أي الموت والتشرد، إلا أن الأكيد أن الكاتب، وهو يصور ذلك، يصف مصير العراقيين العاديين في بلد يسيطر القتلة والمتعصبون على مجالات في الحياة.
نموذجان مسيحيان يمثلان جيلين وعقليتين… الشابة مها زوجة إياد وهي من جيل عصف به العنف الطائفي، وكانت معظم أيامه اضطرابات ومجازر ومتفجرات، ويوسف الذي يبلغ عمره أكثر من سبعين سنة، ما زال متمسكا بالعراق القديم وأيامه الحلوة، مقتنعاً انها لا يمكن أن تزول نهائيا ولا حياة له خارج بلده.
لقد طاول القصف والقتال المنطقة التي يقع فيها بيت الزوجين الشابين في إحدى المناطق الخطرة، فعرض نسيبهما يوسف الذي يعيش وحيداً استضافتهما في بيته الكبير. يسعى الزوجان إلى السفر إلى خارج العراق، أما يوسف فيحاول الحفاظ على شيء من نمط الحياة القديمة، من خلال لقائه مع معارفه ومع سعدون صديقه المسلم الذي يشاركه أفكاره وتصوراته.
يدور جدل بين يوسف والزوجين بشأن الوضع العراقي الرهيب. تقول مها: “إنت عيش في الماضي عمو.”
يقول يوسف: “قالتها مها لي بعصبية وهي تترك غرفة الجلوس بعد جدالنا الحاد. ارتبك لؤي زوجها واحمرّ وجهه وهو يناديها بصوت عالٍ طالبا منها أن تعود… اعتذر مني وهو ينظر بعينين حزينتين، وقال بصوت بلله الخجل: “سامحها عمو إنت تعرف هي شقد تحبك وتحترمك بس مو بيدها أعصابها كلش تعبانة”.”
يتساءل يوسف: “هل أهرب فعلا من الحاضر إلى ملجأ الماضي، كما اتهمتني هي؟ وما العيب في ذلك… إذا كان الحاضر مفخخاً ومليئاً بالانفجارات والقتل والبشاعة؟ ربما كان الماضي مثل حديقة البيت التي أحبها وأعتني بها كما لو كانت ابنتي. أهرب إليها من ضجيج الدنيا وبشاعتها. إنها فردوسي في قلب الجحيم أو “منطقة الحكم الذاتي” كما أسميها أحياناً”
يضيف: “يجب أن أسامحها فزمانها غير زماني وشبابها غير شبابي. هي فتحت عينيها الخضراوين على الحروب والحصار، وذاقت طعم القحط والقتل والتشرد مبكراً. أما أنا فقد عشت أزمنة الخير ولا أزال أتذكرها وأصدق بأنها حقيقية.”
يستعيد في ذاكرته حواراً دار بينهما بعد إطاحة نظام صدام حسين ومحاكمة طارق عزيز وزير الخارجية المسيحي وطلب إعدامه.
تقول بالمحكية العراقية: “لو كان من جماعتهم ما كانوا عدمونو بس طبعاً لانه مسيحي دمه رخيص”.
“فأجبتها بهدوء: “ليش اللي انعدموا قبله شكانوا؟ كلهم إسلام. هذا أول وآخر مسيحي ينحكم إعدام.”
تجيبه بقولها “عيني قيعدمونا بكل مكان بلا محكمة وما حدا بحكي. الكنايس قتنحرق والناس قتتهجر وقيذبحون بين يمنة ويسرة.”
يرد عليها قائلا: “مو بس كنايس قتنحرق بنتي. الجوامع اللي انحرقت أكثر بكثير والاسلام اللي انقتلوا عشرات الالاف.”
ويقول لها: “مو قصة علينا لوما علينا. بس دولة ماكو والاقليات ما حدا يحميها غير الدولة القوية. احنا لا عندنا حزب ولا ميليشيا ولا بطيخ.”
كان يتوقع أن تعتذر له. وكانت هي قد قررت أن تعتذر له فعلا وأن تطبخ له طعاماً يحبه، لكن ذلك لم يتحقق إذ لم تستطع أن تلتقيه فقررت أن تلقاه في الكنيسة التي يقصدها عادة.
في الكنيسة وقف الجميع وبدأوا يصلون بصوت عال وعندما وصلوا إلى “اعطنا خبزنا”، اقتحمت أصوات إطلاق رصاص الكلمات التي كانوا يرددونها… بدأ البعض يتلفت حوله ووراءه وسرت بلبلة… تصاعد بكاء بعض الأطفال ثم هز انفجار عنيف الكنيسة كلها… ارتبك يوسف وظل واقفاً لا يعرف ما الذي يمكن له ان يفعله.
“لمح مها… هم باللحاق بها وناداها مرتين لكنها لم تسمع. ودخل رجال يحملون رشاشات وبدأوا بإطلاق الرصاص بكافة الاتجاهات وعلى كل شيء.
“كانت مها جاثمة على الارض. فكرت بزوجها ووالديها وشقيقها وفكرت بيوسف الذي لم تعتذر منه.”
لقد قتل يوسف مع الكثيرين الذين قتلوا في كنيسة سيدة النجاة. “ظل جسد يوسف مسجى على أرض الكنيسة لأكثر من أربع ساعات قبل أن يحمل إلى الخارج بعد تخليص الرهائن واخلاء الجرحى…. واحدة من الرصاصات الأربع التي كانت قد اخترقت جسده قبل ساعات، كانت قد عثرت على قلبه واسكتته. قبل أن يسكت قلبه كانت شفتاه قد همستا بصوت خافت “يا مريم” لكنه لم يكمل جملته.
كلام الصور
1- غلاف الرواية
2- سنان أنطون