د. ربيعة أبي فاضل
(أديب وشاعر وباحث – لبنان)
ثمة أسئلة تراكمت في نفسي بعد قراءتي كتاب “دراسات نقدية في فلسفة الدين” للباحث أديب صعب (دار النهار، 2015)، ناتجة من أهمية الأطروحات في كتب صعب: “الدين والمجتمع”، “الأديان الحية”، “المقدمة في فلسفة الدين”، “وحدة في التنوع”، وغيرها. وتكمن أهميتها في كونها توثّر في الأفراد والمجتمعات والأمم، وفي حركة الحضارات والثقافات: تحديثاً أو تزمتاً، معرفةً أو جهلاً، ترقيةً أو تخلفاً.
أشار أديب صعب، غير مرة، الى الذاتية والموضوعية، وحَضّ على إعادة النظر في مفهومهما. ولم يدع طريقة، بفكره العميق وخياله الخلاق، إلا استحضرها لينقل واقع حالات التكفير والحَرم والتصفية الجسدية، في جِواء الدين، الى واقع جديد قائم على الانفتاح والحوار واحترام الآخر. وأسعفه علمه، بعد تحصيل الكثير عبر معايشة فلسفة الغرب وفكر الشرق، في صَهر الأديان، سواءٌ صُنِّفَت مُنزّلة أم غير منزّلة، وفي مراقبة التاريخ وحياة الناس، وفي السعي الى طرح تصور صالح لتصفية التناقضات وتقليص التحديات والمواجهات وتثبيت نوع من الوحدة في ظل التنوع، الأمر الذي جعله يُمضي حياته بحثاً عن مخارج لا تكون علمية خالصة ولا دينية خالصة، ولا تُبنى على أوهام بل على حياة مشترَكة تجدد الحياة، وعلى فكر ديني بعيد من الإلغائية، يحمل طاقة نورانية من حب ورحمة ورجاء قادرة على محبة الأعداء والإحسان الى المبغضين.
طليعة الأسئلة التي خطرت في بالي، بعد قراءة كتب المؤلف الفلسفية، جاءت كما يأتي:
أولاً: الى مَن يتوجه هذا النوع من الموضوعات، وهل ينجح صعب حيث أخفق أنطون سعادة؟ وما العوامل التي جعلت فكر سعادة العلمي، الموضوعي، المخلص، البنّاء، في نطاق الدين، محدود التأثير في مجتمعاتنا؟
ثانياً: مَن هي الفئات، في الحال العربية أو الاسلامية، التي يمكن أن تتحول تحت تأثير فكر صعب، والمتنورين المفكرين، من السجالي الجدَلي الديني إلى الدفاع الإيجابي والدفاع الفلسفي (ص 163)؟ وكيف نحدِّث الإلغائيين والإرهابيين وحركات التعصب عن اللاهوت الفلسفي وعن الايمان في وجه التشكيك والإلحاد، وليس لصدّ أنماط الايمان الأُخَر؟
ثالثاً: كيف تستطيع هوية خاصة، أو فقه خاص أو لاهوت خاص، أن تحيا ضمن “لاهوت وحدة” (ص 78)؟ وكيف نُقنِع الآخر بأن الدين الآخر لا يخلو من الحق والخير والجمال، ما دام واقع الحال هو التكفير والإلغاء، بناءً على الخطاب الإلهي؟ وهل يؤدي تجاهل هذا الأمر الى تهميش جهودنا لصنع الوحدة والسلام، وينسف العمارة الفكرية النهضوية التي حلمنا بها؟
رابعاً: ان الانهيارات والصراعات والخطابات المتباينة، والحروب المستمرة بين تنوع الخطابات “الإلهية” وأتباع كل خطاب، لم تسمح الى الآن بأن يحب الانسان الله وأخاه الانسان حقاً من كل قلبه ونفسه وعقله (ص 80). بعضهم يحب الله ويكره الآخر، ويعيش هذا المرض النفسي – الكياني – الكوني ولا يشعر بأنه يرتكب جريمة، إنما يخدم طقوساً ورثها ولم يُبدِ رأياً حراً في امور مثل: هل هي تمثل الحقيقة؟ هل هي السلوك المثالي؟ فأين “العناصر المشتركة” بين الأديان (ص 167)، التي طالما ركز المؤلف عليها؟
خامساً: حاول الباحث بإخلاص بناء شخصية إنسانية سليمة، عارفة، محاوِرة، تحترم الآخر ولا تهدد الخير العام. كما حاول بناء فكر نقدي حر، منفتح، يناقش من دون معوقات، ويكون أصلاً جديداً مبدعاً قبل أن يكون وارثاً ببغائياً بليداً. وعمل على وضع الأسس، وأبرزها: العقل ركيزة الايمان، العلمانية المنفتحة نظاماً سياسياً، التدريب على المنهج الوصفي الفلسفي، السعي المستمر نحو المعرفة التي تنقذ من الجهل وتضع العقل أساسَ قبول أي رسالة على أنها وحي إلهي. هذا الكلام نهضوي وحداثوي ورؤيوي. لكن أين يمكن أن نزرعه في انتظار الحصاد، وسط هذا العالم العربي المغطّى حتى قدميه بالقرون الوسطى؟
سادساً: لا أعتقد أن الحلاوة النظرية لأفكار أديب صعب المتنور ألغت المرارة السلوكية في حياتنا. وفي هذا المجال، كيف يستطيع المتدين المنغلق والأناني والمدمِّر أن يفتح نوافذه على الآخر من دون أن يتخلى، كما يقول الكاتب، عن أساسيات دينه؟ صعب وسعادة وأنا والعلمانيون المؤمنون، أي الذين نمّوا ديانتهم وحياة الروح في القلب قبل الشارع وفي الحب قبل الحقد، يدركون مدى عذوبة هذا الانفتاح على الآخر. لكني أسأل صعب: على مَن تلقي مزاميرك يا رجل؟ ما سر هذا الالحاح منك وعدم اليأس؟ أتكون رسولاً يحمل رسالة فكرية وروحية الى العالم، عنوانها: “السلام من مرادفات الألوهة” (ص 50)؟
سابعاً: لعل أهم ما تفكرتُ فيه وأنا أقرأ فلسفة صعب ونقده وحبه العميق، الراقي للانسانية هو قوله: “اللاهوت إمّا أن يكون لاهوت الملكوت وإما لا يكونُ لاهوتٌ على الاطلاق” (ص 101). ولأن لاهوت المسيح وملكوته ليسا من هذا العالم، فلسوف يبقى لاهوته غريباً عن اللاهوتيات كلها، إذ هو الوحيد الذي نزل وعاش نصه وبذل ذاته وعدّل في هوية “السبت” وأحب الانسان حتى الموت. لذلك لم أجد أين أجد “الإلغائية” في فكرٍ عَلّم محبة الأعداء وعدم الإدانة، فقال: “كونوا رحماء كما أنّ أباكم هو رحيم. لا تَدينوا لئلا تدانوا… إنّ ابن البشر لم يأتِ ليُهلِك نفوس الناس بل ليخلصها” (لوقا 6: 36-37، و9: 56).
ثامناً: أواخر شباط 2016، قال مؤتمر مراكش حول “الأقليات في الوطن العربي” (لنلاحظ تعاسة هذا المصطلح، “الأقليات”، وكآبته) انه “مع دولة مدنية، قاعدتها علمانية، لا تتنكر للالتزام الديني الاسلامي” (جريدة “النهار”، 23/2/2016، ص 12). لكن كيف تكون الدولة المدنية العلمانية ملتزمة ديناً أحادياً؟ وهل ثمة من مخرج لهذا التخبط أو التناقض، أو لهذه “التقيّة” التي تراوح بين ظاهر وباطن من دون أن تستشعر وجعاً؟ وقد رأى كاتب مقالة “النهار” أن من نتائج المؤتمر “توصيات جريئة عن التسامح الديني”. فما معنى “التسامح”؟ ومَن يتسامح مع مَن؟ وأين كرامة الانسان وحقه في الحرية والتفكير والحياة عندما يبقى أقلية “تتسامح” معها الأكثرية، ولا تكفّرها أو تعدّها “أهل ذمّة”؟
أُنهي بخطاب مباشر الى أديب صعب، مؤلف “دراسات نقدية في فلسفة الدين” كتاباً خامساً في مجموعة متكاملة: إنّ هذا الموضوع، يا صديقي، لا يتحمل الخبث أو المراوغة كما تعلم جيداً، بل يحتاج الى شفافية مثل شفافيتك وإلى وضع الاصبع على الجرح. الجرح عميق وكبير، وتحاول أنت أن تعالجه بإخلاص ونُبل. وأسئلتي كانت لأن نصك المثالي الرائع يحتاج الى قارئ. والقارئ يحتاج الى قلب قبل العقل. إنّ أسئلتي لا تتطلب منك أجوبة لأني أعرف أن الريح ستذرّيها في هذا الفضاء العربي المظلم.