كلود أبو شقرا
بعد مرور عام على الاحتفال بمئوية الإبادة الأرمنية، يعيد الرسام التشكيلي اللبناني زوهراب رواية قصص من بطولات الشعب الأرمني في معرضه الجديد {عودة وعودة وعودة} في غاليري إكزود في بيروت، من خلال الألوان والخطوط، من دون أن يَظْهر أثر للدم أو وجوه مشوّهة.
وجوه ونظرات ثاقبة ونور، عناصر ثلاثة تتمحور حولها لوحات زوهراب، ولا بدّ للناظر إليها من أن تمسّه الأشكال التي ترمز إلى الفرح، فهو ابن شعب كابد أبشع الظروف ومع ذلك احتفظ بحبه للحياة وجابه الموت وهو يغني للحياة… تلك هي عظمة الشعب الأرمني التي أراد زوهراب أن يبينها في لوحاته الجديدة، لذا بدت ضاجة بالألوان، تخترق نظرات عيون شخوصها ذواتنا وتدفعنا إلى الغوص في غموض الفنان المبدع المختبئ خلفها.
تعامل زوهراب مع أشكاله وخطوطه وألوانه بشغف لا يخلو من لمسة سخرية، كيف لا وزوهراب الذي يقرأ التاريخ من خلال الريشة واللون يدرك تماماً أن النار التي هشمت أجساد شعبه الأرمني سترتد على من أشعلوها، وأن هذا الشعب الذي تعرّض لأبشع مجزرة في التاريخ سطّر أجمل القصائد وأجمل الأدب وأجمل الموسيقى والألحان.
في معارضه كلها، ينطلق زوهراب من جذوره وينهل منها مادة للوحاته، فالصور التي رسخت في ذهنه من خلال حكايات الأهل حول الأجداد بقيت تتفاعل، مع الأيام، وتنهل منها ريشته أجمل اللوحات الضاجة بالحياة والرافضة للموت، مشكلة وقفات تأمل ليس لجمالياتها التشكيلية فحسب بل لرمزيتها حول مجابهة أزمنة الموت والدمار والاقتلاع من الجذور.
لغة اللون
للون لغة خاصة عند زوهراب، فهو يحتفي به باستمرار ويحمّله آلامه وآماله، ويزين به شخصياته وأشكاله التعبيرية ذات الفضاءات المثيرة للبهجة، معتمداً على الحدس والإبصار في رصد انطباعات مختلفة، للفت الأنظار بقوة نحو الذات، ويحافظ على رؤية جوهرية للشكل، فهيكيلية اللوحة تشكل الجزء الأهم في منح الإحساس قيمة بالمكان الذي يحتوي عناصر اللوحة، كطبيعة تطرح في تصوراتها تساؤلات حول مكونات اللوحة في أعمال زوهراب، وسر دلالاته الخفية التي تتراءى كتوازنات نغمية تنصهر مع جزئيات اللون وتقنيته في استبطان العمق الجمالي، والوعي الفني التحليلي المثير لجدلية الموت والحياة.
عشق زوهراب الفن منذ طفولته، تحديداً عندما كان في الخامسة من عمره، عاش مراهقته بين حلب وسورية وهناك تعلّم أصول الرسم. منذ بداية عهده به، اعتبر الرسم ليس مجرد خطوط وألوان بل هو روح، ومن دون هذه الروح لا قيمة لشيء. هذه الروح بالذات تؤنسن اللوحة وتعطيها أبعاداً إنسانية وتجعلها تنبض بكل ما يعتمل في النفس من توق إلى الكمال والسمو، إلى الاتحاد بالخالق الذي أسبغ على الكون جمالياته فاستلهمها الرسام التشكيلي وخلد أجمل لحظاتها على مساحته البيضاء أمامه. كل هذه المشاعر المتناقضة تفاعلت في نفس زوهراب نتيجة تعلقه بأرمينيا بلد السحر والأسطورة، بلد الحب وبلد التضحية…
نظرات ثاقبة
الإبادة الأرمنية وأخبارها تسري في دم زوهراب تماماً كما يسري الرسم في دمه، من هنا تبدو نظرات العيون في لوحاته ثاقبة وعميقة تنفذ إلى عمق المتلقي وتخرج المشاعر إلى النور التي تتمازج فيها الآمال والآلام، ويرتبط بهما كل عنصر من عناصر تأليف اللوحة لديه، فثمة أكثر من مشهد للأم وهي تأخذ طفلها الرضيع بين يديها، أو تعلم أولادها، في مشهدية ترمز إلى المستقبل، إلى الأمل وإلى الاستمرارية عبر التاريخ والجغرافيا، رغم كل المحن ورغم أنهار الدماء التي سالت على أرض أرمينيا الطيبة.
يجسّد زوهراب الحياة ألواناً ينثرها بقعاً على اللوحة تحتفل بكل لحظة، تمرّد من خلالها على الزمن وصنع بنفسه زمناً آخر لا مكان للدموع فيه بل للحب الذي تشربه منذ طفولته ويشمل الأرض والكيان والهوية والإنسان بطبيعة الحال.
الفن بالنسبة إلى زوهراب ليس محطة يفيء إليها كلما لمعت فكرة في رأسه، بل هو نمط حياة واستمرارية، يرصد من خلاله القلق والهواجس والانفعالات التي تنتابه وتنتاب أي شخص، ويترجم ذلك كله على المسطح الأبيض أمامه، ضمن احتفالية لونية تضع في أولويتها البحث عن الجمال أينما وجد.
لا تعقيد في لوحة زوهراب، فكل من يتأملها يمكنه الغوص في أعماقها، وتلمس أفكار الرسام التشكيلي، فهو لا يقصد التوجه إلى نخبة معينة من الناس بل أن يصل فنه إلى الجميع، فالمعاناة لا تعرف غنياً أو فقيراً والإبادة لم تفرق بين هذا وذاك، كل ما في الأمر أنه لا يريد أن ينسى أحد ما جرى للشعب الأرمني، وفي الوقت نفسه، لا يريد أن يبكي، إنما يدعو إلى الانطلاق بقوة فالآلام تزهر في لوحاته فرحاً، وهذا الإرث النابض بالمآسي الذي يرافقه في حله وفي ترحاله يعتبره مصدر قوة ودفع ويرفع من خلاله الصوت عالياً أن كفى تقتيلاً ودماراً، ليس للشعب الأرمني فحسب بل لما يجري اليوم في المشرق العربي وهو يدمي قلبه.
قصص حول أحبة فقدوا وروايات لبطولات سطرها الأجداد، تبدو واضحة في تقاسيم الوجوه في لوحات زوهراب الواثقة والمتطلعة إلى البعيد البعيد، إلى منازل مهجورة، إلى أرض عقدت حلفاً مع الربيع ألا يفارقها أبداً، إلى عمر بأكمله قضاه الرسام بحثاً عن أرضه المفقودة….
****
(*) جريدة الجريدة الكويتية
عشق…حنان…امومة…الم…والعايلة…كلها …في لوحات الفنان العظيم والمخضرم زوهراب…والى المزيد من الابتكار..