البطريرك بشارة الراعي: تنحّي البابا بندكتوس السادس عشر عملٌ ثوري، وانتخاب البابا فرنسيس مفاجأةٌ من الله (*)

“يسعدني أن ألبّي دعوةَ العزيز المونسنيور عبدو يعقوب، القاضي في محكمة الروتا الرومانية، لرعاية الإحتفال بتقديم وتوقيع كتابه القيّم: من البابا بندكتوس السادس عشر الى البابا فرنسيس – التحدّيات، في رحاب جامعة الروح القدس – الكسليك. يطيب لي أن أُحيّي رئيسَها الأب هادي محفوظ شاكرًا على استضافة هذا الاحتفال في قاعة الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني، الذي يفرح من السماء بخلفه الثاني، وهو الذي رقّاه إلى الدرجة الأسقفيّة ورتبة الكرديناليّة. فيقول المونسنيور عبدو في كتابه: “بعد البابا البولوني المقاوم للشيوعية، أرسلَ الله إلى الكنيسة البابا فرنسيس الآتي من العالم البعيد، من الأحياء الفقيرة، لكي يوقظ حرارةَ الايمان الكاثوليكي”(ص124).

   2. أودّ أولاً أن أُعرب لحضرة المونسنيور عبدو عن شكري وتقديري لنشر هذا الكتاب الكبير الأهمية، لما يحتوي في فصوله الخمسة من معلوماتٍ عن البابوية والكرسي الرسولي وحاضرةِ الفاتيكان، والحبرِ الروماني، وعن شخصيّةِ البابا فرنسيس وسيرةِ حياته ومسيرتِها، وعن فكره وفضائله وروحانيتِه، وعن خطوط رسالته وأهدافِ حبريّته وما تواجه من تحدّيات. أمّا مواعظُه وخطاباتُه خلال الشهرين الأوّلَين من حبريّته التي ينقلها الفصلُ الخامس والأخير بكاملها، فتشكّل كنزًا عظيمًا ونفيسًا لأكثر من وجه. إنّه بإصدارها باللغة العربية يوفّر عناء البحث عنها، لاسيّما وأنّ مصادرَها ليست في متناول الجميع. وإنّه يقدّمها لكل قارئ، فيجد غنى روحانية البابا فرنسيس، ونهجَه، والهدفَ المرسومَ أمامه في خدمته البابوية، مترئّسًا على المحبّة؛ ويجد فيها كلُّ شخص ما يساعده على فهم هويته الخاصة ودعوتِه وحالته ورسالته. شكرًا جزيلاً لك أيها العزيز المونسنيور عبدو، على هذا الكتاب المرجع والأساس.

   3. هذا الكتاب يكشف لنا أبعاد إسم فرنسيس الذي اختاره قداسةُ البابا، وأعلنه في خطابه للسلك الديبلوماسي المعتمَد لدى الكرسي الرسولي في 22 أذار 2013، بعد تسعةَ أيام من انتخابه. وبذلك نعرف تمامًا أهداف قداسة البابا الأساسيّة.

يقول أنّه اختار إسم فرنسيس، تيمّنًا بالقديس فرنسيس الأسيزي، بسبب محبّته للفقراء. ويضيف: “كم في عالمنا من فقراء! وكم من معاناة يتعرّض لها الفقراء! وهناك الفقر الروحي في عصرنا وبخاصّة في البلدان الأكثر غنىً. وقد سمّاه البابا بندكتوس السادس عشر “دكتاتوريةَ النسبيّة” التي تجعل من كلّ فردٍ مقياسًا لنفسه، معرِّضةً للخطر التعايشَ بين الناس”(ص167). وهكذا اطلق البابا فرنسيس شعاره: “كنيسة فقيرة للفقراء“. “كنيسة أكثر قربًا من الإنجيل، بعيدة عن التسلّط، ملتزمة سلطة الخدمة والعطاء. كنيسة لا تكون لذاتها بل لأجل العالم”(2123-124).cardinal-1

   السبب الثاني لاختيار الإسم، فلأنّ فرنسيس الأسيزي رجلُ السلام و”يدعو لبناء السلام. ولكن لن يكون سلامٌ حقيقيّ بدون حقيقة. ولن يكون هناك سلام، إن كان كلُّ فردٍ هو المقياسُ لنفسه، ويحاول الحصول فقط على حقوقه الفردية. ويضيف البابا فرنسيس: من بين ألقاب أسقف روما “الحبر“، باللاتينية Pontefice، الذي يعني الشخص الذي يبني الجسور مع الله وبين البشر. وأرغب حقيقةً في أن يساهمَ الحوار فيما بيننا في بناء الجسور بين الناس، ليتمكّن كلُّ واحد من أن يجدَ في الآخر أخًا يُلاقيه ويعاونه، لا عدوًّا، ولا خصمًا. وأضاف: “إنَّ محاربة الفقر المادّي والروحي وبناءَ السلام وتشييدَ الجسور هي هدفٌ لمسيرةٍ أتوق إليها. لذلك أدعو كلَّ بلد للمشاركة فيها”(ص167-168).

والسبب الثالث لاختيار إسم فرنسيس هو محبّةُ القديس فرنسيس الأسيزي لكلّ الخليقة. فيعلّمنا هذا القديس “الاحترامَ العميق لكلّ الخليقة، وحراسةَ بيئتنا، التي لا نستخدمها، في كثيرٍ من الأحيان، من أجل الخير، بل نستغلّها بجشعٍ الواحدُ ضدّ الآخر” (ص168).

   4. لماذا عنوان الكتاب “من البابا بندكتوس السادس عشر إلى البابا فرنسيس؟” يقول المونسنيور عبدو أنّه استمدّه من الصورة التي تُزيّن غلاف الكتاب: “لأول مرّة في التاريخ التقى باباوان وجهًا لوجه. يصلّيان جنبًا إلى جنب. إنّها لحظةٌ تاريخية لا مثيل لها. وهذا اللقاء سيستمرّ إلى الأبد في ذاكرة الكنيسة” (ص126 و127). لكنّ اللقاءَ التاريخي هذا يتجاوز الحدث، ويدلُّ على التواصل والتكامل بين البابوين، كما يظهر من مضامين صفحات هذا الكتاب.

أ- ساعةَ ظهر البابا فرنسيس، بعد انتخابه، على الشعب المحتشد في ساحة القديس بطرس، في مساء 13 أذار الماضي، وطلب صلاة الشعب عليه لينال بركة الله، فيعطي بركته للمدينة وللعالم، تأثّر به الرأيُ العام، واعتبر “أنّ الكنيسةَ عَبَرَتْ من بابا معلّمٍ كبير للاهوت إلى بابا معلمٍّ كبير للحياة الروحيّة”(ص120).

ب- إعتبرَ المؤلِّفُ أنّ تنحّي البابا بندكتوس السادس عشر عملٌ ثوري، وانتخابَ البابا فرنسيس مفاجأةٌ من الله، لأنَّ الرأيَ العام لم يكن ينتظره (ص122)، لكنْ من كونكلاف سنة 2005، يُقال، حسب المؤلّف، أنّ الكردينال برغوليو طلبَ إحالةَ الأصوات التي حصل عليها إلى الكردينال راتزنغر. والكرادلة لم ينسوا ذلك(ص96). فكان أوّل بابا يسوعي على كرسيّ بطرس، وأوّل بابا من القارّة الأميركيّة، وأوّل بابا من خارج أوروبّا بعد اثني عشر قرنًا(ص97).

   ج- في 28 شباط، لمّا ودّعَ البابا بندكتوس الكرادلة الذين توافدوا إلى روما، قال: “إنّي مستمرّ بقربكم بالصلاة، خصوصًا في الأيّام القادمة، لكي تكونوا طائعين لعمل الروح القدس في انتخاب بابا المستقبل. وأنا اتعهّدُ منذ اليوم أن أقدّمَ له احترامي وطاعتي بدون شروط”. هكذا توارى البابا العظيم عن الناس بعظمته وببساطة الأنبياء العظام. هنيئًا لخلفه البابا فرنسيس! يمكنه الاتّكال على صلاة الطوباوي يوحنّا بولس الثاني من سمائه، وعلى صلاة بندكتوس من على تلّة الفاتيكان(ص66).

   د- حصل  اللقاء الأول بين البابا فرنسيس والبابا بندكتوس في 23 أذار، بعد عشرة أيام من انتخابه، في كاستل غندولفو. فوصف بأنه “علامة الوحدة العميقة“. لقد سمح اللقاء للبابا بندكتوس بتجديد احترامه وخضوعه لخلفه، وسمح للبابا فرنسيس بتجديد شكره وشكر الكنيسة جمعاء للخدمة التي قام بها البابا بندكتوس. فحصل سلام جميل بينهما(ص125-126).

   ه- ترك البابا بندكتوس للبابا فرنسيس إكمال سنة الإيمان التي ابتدأت في 11 تشرين الأول 2012 وستنتهي في 24 تشرين الثاني 2013. أخذ البابا فرنسيس شعلة الإيمان وانطلق إلى ألأمام. واعتبر أنّ سنة الإيمان لا تنتهي هذه السنة بل ستكون عملاً متواصلاً في الكنيسة(ص131). وفي المقابلة العامّة، الأربعاء 3 نيسان، بدأ البابا فرنسيس تعليمه الخاص بسنة الإيمان، وواصله في المقابلات العامّة، أسبوعًا بعد أسبوع.

   5 . كتابكم، حضرة المونسنيور عبدو، مرجع مهمّ للغاية لما فيه من معلومات في فصله الأول عن الكوريا الرومانية وهيكليّتها، وعن الحبر الروماني وسلطته وطريقة انتخابه ومجمع الكرادلة، ودولة حاضرة الفاتيكان بمفهومها وعلاقاتها الدوليّة.

   6. وفي الفصل الثاني يتناول تنحّي البابا بندكتوس الذي أعلنه في 11 شباط 2013 وأصبح نافذًا في 28 شباط الساعة الثامنة مساءً، وما تخللهما من نشاطات وخطابات وعظات، ثم اعتزاله العالم للصلاة والتأمل في كاستل غندولفو حتى 3 أيار الماضي، يوم رجوعه إلى الفاتيكان وسكنه في مقرّه الجديد “دير أمّ الكنيسة” في حديقة الفاتيكان على بعد مئتي متر عن البابا فرنسيس. وقد أعلن البابا بندكتوس: “أكرّس نفسي الآن، بشكل أكبر للصلاة والتأمّل. وهذا لا يعني أنّي أتخلّى عن الكنيسة، بل على العكس، إن كان الله يطلب ذلك منّي، فلِأتمكّنَ من مواصلة الخدمة بالتفاني نفسه والمحبة ذاتها اللذين حاولت أن أخدم بهما إلى اليوم، ولكن بطريقة ملائمة أكثر لسنّي ولقدراتي”(صلاة التبشير الملائكي، الأحد 24 شباط 2013، ص 63). وفي المقابلة العامة الأخيرة، يوم الأربعاء 13 شباط، أوضح تخلّيه عن خدمته البطرسيّة: “إنّني لا أترك الصليب، ولكنّني سأظلّ، وبطريقة جديدة، بصحبة المصلوب“(ص55).

وأضاف مؤلِّف الكتاب: “في هذه المقابلة دخل البابا بندكتوس في العقول والقلوب. فأحبّه المؤمنون يوم انتهائه من الخدمة البطرسية أكثر من يوم انتخابه”(ص55). وأيضًا: “مقابلاته وخطاباته واحتفالاته، من 11 إلى 28 شباط، شكّلت شهادات روحيّة وبرنامجًا حقيقيًّا لمستقبل الكنيسة. إنّه الحبر الأعظم المعلّم، علّم إلى آخر لحظة من ظهوره العلني بالمثل والكلمة والتواضع والصبر والرجاء. إستنفارُ المؤمنين البسيطين المتواضعين في التأمّل والصلاة شكّل حقبة لا سابقة لها في تاريخ الكنيسة. وعند ظهور البابا فرنسيس لأوّل مرّة لمنح بركته للمدينة وللعالم، فهم الجميع كيف أنّ النعمة تجسّدت في هذا الانتخاب. الله مع كنيسته، فازدادت النعمة فيها. سبعة آلاف صحافي احتلّوا الساحات والسطوح حول بازيليك القديس بطرس، فأغرقوا الكون بالصور والأخبار، لتغطية الحدث الذي شكّل ربيع رجاء في الكنيسة”(ص68-69) (الفصل الثاني).

7. ونجدُ في فصله الثالث كل ما يتعلّق بحياة البابا فرنسيس، جورجو ماريو برغوليو منذ ولادته، وأصوله الإيطالية، حتى دخوله الرهبنة اليسوعيّة ومسؤولياته فيها، وحياته الكهنوتيّة والرسوليّة، وميزات شخصه الغنيّة بالعلم والفضيلة والروحانية، فتعيينه أسقفًا مساعدًا في بونس أيرس بالأرجنتين في 13 أيار 1992، ثمّ رئيسًا لأساقفتها في 3 حزيران 1997، ومنحه رتبة الكردينالية في 21 شباط 2001، وأخيرًا انتخابه على كرسيّ بطرس في 13 أذار 2013، وهو البابا 266 خليفة بطرس.

    8. وفي فصله الرابع، يتوسّع المؤلّف في التحديات التي تنتظر البابا فرنسيس، والتي أشارت إليها الكتب والمقالات التي صدرت منذ انتخابه إلى اليوم. وقد بلغ عددها في الشهرين الأولين ستين كتاباً. نجد عناوين الأربعين كتاباً يذكرها المؤلّف في آخر كتابه ويعلّق بالقول: “سبَّب انتخاب البابا فرنسيس استنفاراً أدبيّاً على المستويات كافّة. والمؤلّفون والكتّاب جدّدوا الرجاء والثقة بالكنيسة” (ص24).

   9. وفي الفصل الخامس والأخير، ينقل لنا المؤلّف المواعظ والخطابات التي ألقاها البابا فرنسيس، من العظة الأولى في قداس كابيلا السيستينا مع الكرادلة غداة انتخابه (14 أذار 2013) حتى عيد العنصرة في 19 أيار، ما عدا عظاته في قداساته اليومية. تشكّل عظاته وخطاباته تأمّلات قصيرة بسيطة وعميقة وفعّالة، وبرامج حبريته. إنّها مرجع غني للروحانيّة الإنجيليّة، ولتثقيف الإيمان والالتزام في الحياة المسيحية.

   في قداسه الأوّل مع الكرادلة، حدّد هدفه الأساسي بثلاث كلمات:

   السَّير معاً في حياتنا في حضرة الله، من أجل أن نعيش بدون عيب. عندما لا نسير نتوقّف ويتعثّر كلّ شيء. وبناء الكنيسة كحجارة حيّة ممسوحة من الروح القدس، فوق حجر الزاوية الذي هو المسيح. والاعتراف بيسوع المسيح لئلّا نتحوّل إلى مجرّد منظّمات خيريّة اجتماعية. والاعتراف بصليب المسيح الفادي. عندما نبني الكنيسة من دون الصليب، لا نكون تلاميذ الربّ، بل نكون دنيويّين. الاعتراف بالمسيح يدفعنا إلى الخدمة المتواضعة والملموسة، والمفعمة بالإيمان. إنّ البابا نفسه لكي يمارس سلطته، عليه أن يدخل أكثر فأكثر في هذه الخدمة المتّجهة صوب الصليب المنير (ص159 و162).

   إنني أعود لأشدّد على أهمية التأمّلات الروحية التي يتركها لنا قداسة البابا، والتي نحتاج إليها كلّنا.

   10. لقد وضع البابا فرنسيس الكنيسة والعالم تحت حماية مريم العذراء. ففي صباح اليوم التالي لانتخابه لكرسي بطرس، حمل باقة ورود وزار بازيليك مريم الكبرى، وخشع في الكابلة المخصّصة لتكريم السيدة العذراء بلقب “خلاص الشعب الروماني”. فصلّى واضعاً الكنيسة والعالم تحت حمايتها. وزار من بعدها المغارة المكرّسة للعذراء في البازيليك نفسها، حيث احتفل القديس اغناطيوس دي لويولا، مؤسّس الرهبنة اليسوعية، بقدّاسه الأوّل سنة 1538.

   وعاد في السبت الماضي ليلة عيد ميلاد العذراء مريم فجدّد وضع الكنيسة والعالم تحت حماية هذه الأمّ السماوية، إذ دعا لتخصيص هذا السبت للصوم والصلاة والتوبة من أجل السلام في سوريا والشّرق الأوسط وفي العالم. وأقام سهرة صلاة أمام القربان المقدّس طيلة أربع ساعات مع آلاف المؤمنين والمؤمنات المحتشدين في ساحة القديس بطرس. لا يسعنا هنا إلّا أن نعرب لقداسة البابا فرنسيس عن عميق محبتنا وشكرنا، مؤكِّدين له صلاتنا الدائمة لكي يحقق الله مقاصده من خلال حبريّته.

وفي الختام أجدّد شكري وتقديري للمونسنيور عبدو يعقوب. واتمنّى من كلّ قلبي أن ينتشر هذا الكتاب ويقع في ايدي الكثيرين، لأنّ فيه ينبوعاً لا ينضب للمعرفة ولمبادئ روحانيّتنا المسيحيّة”.

*****

(*) كلمة لقيت في حفلة توقيع كتاب “من البابا بندكتوس السادس عشر الى البابا فرنسيس – التحدّيات”، للمونسنيور عبدو يعقوب في جامعة الروح القدس – الكسليك.

كلام الصور

1- الكاردينال بشارة الراعي

2- البابا فرانسيس

3- البابا بنديكتوس

اترك رد