العراق كأنموذج لإعادة تشكيل المنطقة

khaled-ghazal

خالد غزال

(باحث وكاتب – لبنان)

مرت في الشهر الماضي الذكرى الثالثة عشرة للاحتلال الأميركي للعراق وإسقاط نظام صدام حسين، لكن الذكرى حملت أيضاً النتائج الكارثية لهذا الاحتلال على صعيد تدمير المجتمع والمؤسسات وسيادة الفوضى والحروب الأهلية المندلعة في أكثر من اتجاه. رفع الاحتلال شعارات وسعى إلى تطبيقها، بداية في العراق، وتالياً في أجزاء أخرى من المنطقة، لعل شعاري «إعادة تشكيل المنطقة» وبناء «الشرق الأوسط الجديد» كانا التوجهين الرئيسيين في السياسة الأميركية. فكيف كانت محصلة التشكيل والبناء وفق المنطق الأميركي داخل العراق؟

تركزت السياسة الأميركية في العراق منذ اليوم الأول لاحتلاله على هدفين مركزيين، الأول يتصل بإلغاء الجيش العراقي، والسعي إلى تشكيل ميليشيات عمادها الطوائف والعشائر. كان تسريح الجيش يعني تدمير المؤسسة التي يقوم عليها النظام العراقي ومصدر قوته، وعنصر تهديد للنظام الإيراني، والأهم من ذلك هو قاعدة توحيد البلاد. إن الإلغاء كان يعني أيضاً خطة أميركية صريحة نحو تقسيم العراق إلى مكوناته الطائفية والإثنية، وخلق جيوش موازية من بينها. وما يشهده العراق اليوم من فوضى واقتتال وانقسام وتقسيم ليس سوى الإبن الشرعي لإلغاء الجيش.

الهدف الثاني للاحتلال كان إقامة نظام سياسي على قاعدة المحاصصة الطائفية، بما يعني شكلاً إزالة الغبن عن بعض الطوائف وإعطاءها موقعاً أكبر في السلطة يعوّض لها ما نالته من اضطهاد وحرمان على يد حكم البعث. كان الشعار مغرياً في البداية، ولم يكن كثيرون يدرون نتائجه في الممارسة. كان الأميركيون يستنسخون النظام اللبناني القائم بعد اتفاق الطائف والمستند إلى محاصصة طائفية ومذهبية صريحة، تسببت ولا تزال بشلل في السلطة وتناتش على الحصص وارتفاع منسوب الفساد إلى أقصى الحدود. لم يخترع الأميركيون هذه التركيبة، فالعراق، كما سائر بلدان المنطقة العربية، تكونت دولها عل قاعدة من تركيب والصاق مكونات طائفية وعرقية في كيانات كانت لكل منها وظيفة معينة. وتركبت على هذه الكيانات سلطات غلّب بعضها منطق الاستئثار والامتيازات الطائفية على مكونات أخرى، بما عنى وجود غبن حقيقي في توزيع السلطة، انفجر بمجرد زوال عنصر الديكتاتورية الذي شكل أداة التوحيد.

irak 1

قامت السياسة الأميركية بعد الاحتلال على تركيز المكوّن الكردي في شمال البلاد، بتعزيز كيانه المتمتع بالاستقلال الذاتي، وإعطائه كل مقومات القوة بما سمح له بفرض معادلات سياسية في قلب النظام الجديد. لكن الاحتلال اشتغل على المكونين الشيعي والسني. دخل الأميركيون إلى العراق يحملون أفكاراً مسبقة تجاه المكوّن السني بوصفه مصدر العداء الأول لهم، خصوصاً بعد تفجيرات أيلول (سبتمبر) في الولايات المتحدة. كما كانوا يخططون لموقع أكبر للمكوّن الشيعي في العراق وخارجه، بما فيه إتاحة دور أساسي لإيران في بلورة النظام السياسي على قاعدة غلبة شيعية، وإنشاء ميليشيات تابعة تشكل مصدر حماية النظام بعد أن تم إلغاء الجيش العراقي المتهم بدعم السلطات ذات المكوّن السني.

في بلد كالعراق، يحمل في جوفه تناقضات واضطهادات، والأهم موروثات تعود إلى خمسة عشر قرناً من الصراع على السلطة وذكريات كربلاء وغيرها… لم يكن غريباً أن يتحول نظام المحاصصة إلى صراع مسلح وحروب أهلية أطاحت بالعراق بلداً ومجتمعاً. لكن الصراع السني – الشيعي لم يبق محصوراً في المكونين، فنظام المحاصصة نقل الحرب الأهلية إلى داخل «البيت «الشيعي» نفسه، الذي بات «بيوتاً متعددة»، تمدد داخلها الإيرانيون في شكل واسع، وانفجرت التناقضات بين الزعامات الشيعية على السلطة. لعل الحركة الأخيرة لمقتدى الصدر تشهد على هذا الانفجار داخل العراق وفي العلاقة مع إيران التي عملت على إلحاق الموقع الشيعي العراقي بها، وترجمة ذلك بتغليب طرف على آخر. لم تكن شعارات المتظاهرين «إيران برّا برّا، بغداد تبقى حرّة» سوى مظهر من مظاهر الخلل داخل الطائفة. صحيح أنه لا يمكن تصنيف حركة مقتدى الصدر بالإصلاحية على رغم شعاراتها، إلا أنها تعكس مزاجاً شعبياً لا يمكن الاستهانة بأثره مستقبلاً في العلاقات الإيرانية العربية، مع العلم أن الصدر نفسه استهول الشعارات التي رفعها أنصاره، وذهب إلى إيران معتذراً عن إطلاقها.

أما نتائج السياسة الأميركية تجاه المكوّن السني، فيمكن اختصارها بصعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام واكتساحه مساحات واسعة من العراق، وهو نشوء لم يكن بمعزل عن تأييد أقسام واسعة من المكوّن السني، خصوصاً في الجيش المرحّل إلى بيته. صحيح أن الأميركيين دفعوا ثمناً كبيراً من جنودهم نتيجة المقاومة التي قامت في وجههم، لكنهم نجحوا في الهدف المركزي لسياستهم وهو إنهاء بلد يتمتع بثروات على جميع المستويات تؤهله لموقع سياسي رئيسي في المنطقة.

إن إعادة تشكيل العراق مدخلاً لتشكيل المنطقة أتى بمحصلة سمتها إنهاء الدولة وزوال هيبتها واستشراء الفساد والفوضى، واندلاع حروب مذهبية بين أبناء البيت الواحد وبين الطوائف والإثنيات. إنه النموذج الذي تنتظره سائر الأقطار العربية.

armee

اترك رد