بيروت: ألبير خوري
بعد ثلاثة أرباع القرن من الكتابة، قصص ومقالات وأحاديث، ماذا بقي لدى الأديب والإعلامي المخضرم جورج شامي، ابن الخامسة والثمانين، ليكتب ويقول؟ يفاجئك هذا «الشامي» العريق من جنوب لبنان، حين تكتشف أنه، وفي هذا العمر المتقدم، يستمر إبداعاً ولا يرتوي ظمأه وجوعه إلى الحرف والعبارات.
يصدر له ثلاثة كتب دفعة واحدة، ويستعد لآخر يكشف فيه عن أسرار شخصيات احتفظ بها دفينة بين أدراجه المعبأة بالحوارات، حتى إن باح بها، كشف المستور عن رجالات ظنوا أنهم خارج النقد. في كل قصصه وأحاديثه الصحفية، يحاول جورج شامي الخروج عن المألوف في هذا الحوار، يتحدث فيه عن مسيرته في مضمار القصة والمقالة والبحث… يبحث عن وطن ويرتحل، وعن أصدقاء، وعن صيغة للقصة بوسعها أن تزيد القارئ وعياً بنفسه وبمجتمعه وبشروط حياته. كما يعترف أن القصة والمقالة وليدة الحرية، «لأن الخوف من شأنه أن يفسد التجربة الكتابية». إلى أشياء كثيرة يكشف عنها في هذا الحوار.
في العاشرة من عمرك كتبت قصة من نفس وروح كما تصفها. أنت اليوم في الخامسة والثمانين، وقد كتبت ما كتبت عن فواجع الحياة ومرارتها إلى درجة ليستشفَّ منها أن الحياة شرّ، وشرّ ما فيها أنه لا يستغنى عنها أو لا بد منها.. بعد هذا المشوار الطويل مع القصة الفاجعة على تنوعها بأحداثها وشخصياتها، لماذا أهملت الكتابة عن الحياة الحلوة؟
قبل خمس وثمانين سنة ارتطم رأسي بحاجز النور دون وعيّ منّي. أفقت في زورق يتقاذفه القلق بكل أنواعه واختلطت التجربة القاسية بأحلامي الهنية… وانتصبت في وجهي عصا الساحر، فتعلّمت التبصر والتؤدة ومعنى الفضول في داخلي مقروناً بصدق السعي وراء المغامرة الناضجة، والمعرفة، وكبرياء العنجهية النقيّة. وبقدر ما امتزجت قدماي بوحل هذه الأرض، طرتُ وحلّقتُ وصفقّت جناحاي فوق المرافئ أفتش عن فردوسي المنشود دون جدوى.
وفي الفضاء الكوني حيث انطلقت، كان قياسي النور.. كنتُ أشعر أنني صغير جداً كلّما تسلّط عليّ نور علوي ترافق مع صفائي الداخلي وفضائي المكشوف الذي تأكدتُ من خلاله أن صوت العقل، هو الطريق الوحيد إلى الخلاص. وكانت كلماتي، كل كلماتي التي كتبتها بشغفٍ وعناد ومودة في فترات الاستراحة، وفي الليالي الباردة وظلالها، تعبيراً عن وجع الضوء الذي كابدته منذ البداية حيث تضاربت صرخات التحرر من أسر الظلمة مع صرخات الخوف من عبء الضوء فكانت الزواريب والمتاهات التي تعجّ بالمعاناة دليلي إلى المعرفة والنور معاً، وكانت حلاوة الحياة بمرارة الحنظل، أعترف بأن الحياة ليست شراً بحد ذاته. لقد قيل: «كن جميلاً تر الحياة جميلة» وأنا أكرر هذا القول الجميل بحد ذاته الذي يرفع من جرعات الأمل في كوامن الإنسان، ولا تنسى أنني تجاوزت مرحلة الحياة الحلوة… الحياة الوردية التي لم تكن يوماً هدفاً نبيلاً أثيراً هشاً أسعى إليه لقتل الوقت والضجر والسأم، وأن الحياة الحلوة التي كنتُ أنشدها وأسعى إليها كانت طافحة بالاجتهاد والإصرار على الإبداع.
يبدو لي من خلال كل ما كتبت تأثرك بالواقعية الأدبية الحديثة التي انطلقت في فرنسا في أواسط القرن الماضي.، انقضى هذا الزمن وما زلت تصرّ على استعمال لغة باتت من الماضي. لماذا هذا الإصرار؟
أنا أعتّز وأفاخر بأنني ولدتُ تحت شجرة تين وفي فيء شجرة زنزلخت لا في برج عاجي… وأنّ أدبي وُلد على ظهر «نملة» يتيم الأب والأم من رحم سليم الجينات، وأن لغتي عصرية بامتياز كانت وما زالت، وأنا أرفدها بلغة ناضجة تشرب مع حليب الصباح… ويؤسفني أن أضطر إلى نفي إصرارك على اتهامي باللغة «الشارعية» وكأنني أكتب تحت تأثير هلوسة! أنت تعلم، أنني في طبعي لا أحسن الثرثرة وأرفض المقايضة. وقد تكون سنوات اغترابي التي جاوزت الثلاثين عاماً. قد لعبت بالإضافة إلى البعاد الروحي دوراً آخر أنبل وأشمل، لقد شكلّ الدوران معاً حالة نتج عنها تكثيف العمق تكثيفاً مخصباً من جهة ومماثلاً من جهة أخرى لما يكثفه صقيع الأعماق من بلوريات وجلاميد وثريات وشمعدانات ومتدليات، أدت إلى تكثيف النضج واستكشاف الرؤية النقية الصافية من بعيد. أنا الآن، وهنا بالذات أعترف فعلاً أنني استدرك الزمن المهدور الضائع وهذا من بديهيات المعطى الحياتي دون أن أنقض منهجية اتبعتها وباتت نمطاً من أنماطي السلوكية. فأنا أحرص دائماً وأبداً ألا أكتب تحت أية وطأة أو أي ضغط مادي أو معنوي أو ذهني إلا حين يجيئني المخاض. لهذا تراكمت لدي خلال سنوات الانقباض محاولات أخذت طريقها إلى النور بعد أن اكتملت في رحم كينونتها وفرضت فرحتها البكر.
هل تنشد في كل ما كتبت لتحقيق الإنسان الكامل الأوصاف، عارياً من كل عيب؟
الرموز القيمية والأخلاقية، لم تغب يوماً عن كل أعمالي. فهي حيناً مضمرة وحيناً ظاهرة. حيناً تشكل جزءاً من البيئة والمناخ وهي حيناً مرآة تعكس التسامح والغفران والصفح في مقابل كل هذا اللاتسامح الذي ذخرت به الحروب، أردت ذلك منذ كتبت أول قصة قصيرة عن الحرب في وطني عام 1976، وأطلقت أول مناجاة أحادية الصوت بعنوان: «لماذا يا أخي؟».
الحرب في لبنان مثلاً لم تخرجني من إيماني بل عمقت ذلك في وجداني. كانت سبيلاً إلى معرفة أعمق وأشمل لروح الإيمان بعيداً عن الربح والخسارة، وبعيداً عن الهزيمة والانتصار، لا لأن النتائج كانت مخجلة في قاموس الحرب، بل لأن التطهر بنار المجامر أسمى من التطهر بنار القتال،
نتيجة وعيي لهذا الواقع وما استلهمته منذ عام 1975 حتى اليوم تكوّنت لديّ في خط صاعد ومستمر من بعد «أبعاد بلا وطن» إلى «فداء بلا قضية» إلى «وطن بلا جاذبية» إلى «عبث» إلى «ليلة في برج القوس» إلى «لماذا يا أخي» إلى «ذكريات عارية» إلى «ماذا بقي من القتال» وغيرها روح واحدة لنمط واحد وهي رفض الحروب بكل أبعادها ومراميها وأحلامها ووقائعها وغيبياتها. هي مني وأنا منها، حنيني حنينها والخيط الخفي فيها أشبه بخيوط السدى واللحمة تتشابك لتعطي نسيجاً معيناً تصوغه الأحلام الكبيرة وهي خيوط التمرد على النفاق والتضليل الذي حطم كل الأحلام المبنية على إقامة وطن مثال.
مقاربتك المرأة ليست أقل فجاجة. تصفها بالجوهرة، ومع ذلك لا تنجو من هجومك الشرس. كيف تفسر هذا التناقض؟
إذا عرفت يا صديقي، أنني عشت مع زوجتي ستين سنة قبل أن يخطفها الموت، تدرك أن المرأة هي ينبوع إلهامي الروحي والمنهل الوحيد الذي يسقي عطش الروح الذي لا يسقيه الماء، وأنني ارتفع بها عن عهد الحريم وعهد هوليوود وأريدها بملامح «خولة» لا ملامح «مادونا».
أما الحبّ، حبي بالذات، فهو لا يقتصر على المرأة، بل يشمل حبي للحياة والوطن والإنسان. هذا لا يعني إنني مصاب بالجفاف العاطفي، فالمرأة لها مساحة شاسعة من خريطة قلبي، هذا القلب المصاب بجرحه العربي الكبير.
بعد هذا المشوار القصصي الهادر، العابق بالشخصيات والأحداث والمواقف، هل يمكن القول إنك في كتبك الصادرة أخيراً والتي قيد الطبع سوف ترفع راية السلام وتعتزل الكتابة؟.
إذا كنا نؤمن بأن لكل شيء نهاية، فلكل حدث نهاية ولكل موقف نهاية ولكل قضية نهاية، وللحياة وهي الأغلى: نهاية. أدرك الإلحاح في الاستمرار بمعالجة قضايا نطرحها أحياناً ونتوقف عندها، ضرب من العبث خال من أية إيجابية، ومناقض لرسالتنا.
ليس من الضروري أن نخضع لضاغط خارجي أو إغراء مادي، كما يحلو لكثيرين أن يتصوروا، إذا توقفنا عن متابعة البحث في موضوع ما، أو المبالغة في عرض قضية، أو رفض المكاشفة في حدث معين فنحن نرفض التنكيل، نرفض المتاجرة بالمثالب، المهم أن نضع النقاط على الحروف، لا أن نمسح عن الحروف أخلاقياتها.
أنت تدعوني إلى الاعتزال… وأنا أدعوك لأن تسجل في مفكرتك ما يلي: صدر لي ثلاثة كتب دفعة واحدة تحمل العناوين التالية: «الحلم والحنين في الذاكرة الحدباء» وهو مجموعة مقالات وخطب ودراسات وتحاليل لنحو مئة وعشرة كتب. ومجموعة قصصية قصيرة بعنوان: «إنها آخر الحبات» تقع في مئتي صفحة. وكتاب بعنوان: «انطباعات سوريالية، بين أزرقين» يقع في مئة وأربعين صفحة يشمل انطباعاتي ورحلاتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال أربعين سنة.
ويدخل إلى المطبعة كتاب من جزأين بعنوان: «حالات رمادية…» يضمّ افتتاحيات اجتماعية وسياسية بتواقيع مستعارة صدرت في عدة مجلات في لبنان إبان اندلاع الحرب فيه.
تلي ذلك مذكراتي الشخصية التي تغطي مسيرتي الصحفية والأدبية والسياسية والجامعية واغترابي مدة ثلاثين سنة وهي تقع فيما يزيد على ألف صفحة…
وأطمئنك، بأنني لن أعتزل طالما أن في أقلامي حبراً، وفي دماغي عقلاً، وفي ذاكرتي وعياً، وفي قلبي حباً، وفي زندي صلابة وفي لساني قدرة على النطق وفي شراييني دماً صحيحاً.
*****
(*) صحيفة الخليج