مشاهدات من على جناح الطير

mazen aboud

مازن ح. عبّود

(كاتب- لبنان)

قال للطير احملني بعيدا وارني العالم من فوق، فمن فوق تبان الصورة بكمالها وتكون الرؤية أوضح. “لو كتب لي ان اراك يا ضيعتي وعالمي من فوق لكان هذا أفضل بالنسبة لي” كلمات قالها. فأجابه صوت من الغيم، صوت سأل النسر ان يوافيه على جناح الريح.  وحمله الطير الى مطرح خيال، الى حيث تتسلق المياه الى فوق ذرات وتتجمع مدائن وعوالم تسبح ما فوق الأرض، وتتلطى وراءها الشمس كي توهم ابن آدم بانها لا تراه. فيصنع الأخير ما يدور في فكره وفي نيته.

حمله الطير الى ما فوق غطاء الغازات الدفيئة المنبعثة التي تغطت بها الأرض، او بالأحرى أراد ابن آدم ان يغطي نفسه بها مخافة ان يراه من هو فوق، فاحتبست الدنيا وارتفعت حرارة الكوكب حتى آخر نقطة مياه كانت قد تجمدت في خزازين الكوكب بلورا حاكى الشمس وعكس اشعتها في سحر النغم والشجن، وسالت اليوم الى البحر دمعا على حياة كانت على الكوكب هانئة.

نعم، راح البلور الحاوي للحياة يذوب حتى حدود الانقراض، وصارت الاشعة تستوطن الماء وما تحته فترتفع الحماوة مع تزايد الغازات الدفيئة. اضحت مدائن البشر وحضارتهم بخطر بفعل سمومهم. نعم، صارت المياه المالحة وحشا تهدد بالتهام اليابسة حتى انّ الرياح المجنونة امست تحرك المياه المشحونة وتهدد بإغراق ما فوق الأرض من جمالات ومدائن حتى آخر انسان.  بدأنا ندخل عصر النتائج جراء نصف حلول او ما يعرف بوهم الحلول.

نعم، فطمع الانسان أفقده الوجهة الحقيقية للحياة، فصار العمل في خدمة الرأسمال والانسان في خدمة الربحية، ساد الطمع وصار في عصر الاستهلاك حتى حدود الموت. نعم، صرنا نستهلك كل شيء، نستهلك الاخبار الجاهزة والأفكار الجاهزة والاطعمة الجاهزة، حتى اننا صرنا نستهلك الثوابت والضوابط والنظم الأخلاقية. فغرقنا في النفايات حتى الموت.

ما عاد الكوكب يتسع لكل امتعتنا واشيائنا ونفاياتنا ونظمنا السياسية والاقتصادية، احببنا ان ننتفض الا اننا ما عدنا أشخاصا حقيقيين، صرنا وهما، صرنا أرقاما او حسابات او صفحات الكترونية تقفل او تفتح، تفاجأنا اذ اكتشفنا باننا أهملنا الإنسانية لحساب الرقمية والحرية لحساب الوهم.  اعتقدنا بأننا نتحوج المبادئ والنظم من السوق الاستهلاكية ونصنع نواميسنا.

تركنا الأرض ولحقنا وهم الرقمية، والحضارة لم تنشأ الا عندما اكتشفنا الأرض واستوطناها جماعات تحدت المجهول، وها انّ الرقمية تعيدنا الى الكهوف، أبدنا في عصر البشر كل البشر والكوكب وكل العناصر والكائنات.

أخيرا، بعد طول مسار على جناح الطير اكتشف بانه ما عاد قادرا على الرؤية بوضوح جراء دخان المصانع وانبعاثات سيارات البشر. ما عاد يرى شيئا، ولا حتى بياض القمم ولا حتى فضاء المدائن التي استوطنتها الحشرات، لم يعد يرى الاخضر بل سراب الرمال والابنية والمتاجر والشوارع، لم يعد يرى البشر بل اطيافا متحركة تكذب على بعضها البعض، كانت غالبيتهم من دخان والزعامات من ورق.  ثمّ حدق عميقا فوجد مطبعة ورق اخضر تعمل وورقها كان يسيل لعاب كائنات الدخان ومشاهدتها تحرك زعامات الورق، وحدها كانت تفعل وتتكلم.  انتهى مشواره لأنه ما عاد يرغب ان يشاهد اكثر.

flowers 5

اترك رد